تحقيق: زهراء عودي شكر
هو صندوق صغير يجلس في زاوية، حيث يتفقّده أهل المنزل
صباح كلّ يوم ربّما، أو قبل كلّ سفر، وأحياناً درءاً لحلمٍ مزعجٍ، فيتوجّس صاحبه أن
يتحقّق... لكن غالباً ما نتفقّده ونحن نعلم أنّه صندوقٌ يختلف عن أيّ صندوق آخر؛
لأنّ ما نضعه فيه لا نصرفه في حياتنا، بل ندّخره رصيداً مؤجّلاً، ثواباً للآخرة،
وكلّنا ثقة أنّه مهما قلّ أو كثر، سيسقط في يد الله، وإن كان في منزلنا لكنّه صندوقٌ
لله.
في هذا التحقيق سنقوم بجولة على منازلنا، بمناسبة أسبوع الصدقة(1)، لنضيء على
أهميّة وضع "صندوق الله" فيها، وما هي آثار ذلك تربويّاً واجتماعيّاً.
* الصدقة حاجة ومبادرة إنسانيّة
الصدقة هي مبادرة إنسانيّة جليلة، تكمن عظمتها في نسج علاقة روحيّة وعباديّة بين
الإنسان وربّه توخّياً للتقرّب منه. وفي معرض الاطلاع على موضوع الصدقة يلفتك مساحة
الاهتمام الواسعة التي أولاها الإسلام لهذا التشريع العباديّ، فأورد فيها الكثير من
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ وذلك لعظمة فضلها وثوابها، ولأبعادها
الاجتماعية والاقتصادية والتربوية التي تعمل على تهذيب النفس، من خلال بثّ روح
التكافل بين أفراد المجتمع في خطوةٍ لصهر الأنانيّات المتباغضة في بوتقة العبوديّة.
وحاجة المتصدّق إلى الصدقة تفوق حاجة الفقراء إليها، لِمَا لها من آثار غيبيّة
ومنافع وأجر وتوفيق ورزق.
تختلف كيفيّة التصدّق المادّيّ ما بين وضعه في صندوق صدقات تابع لجمعية خيرية ما،
أو تخصيص مبلغ شهريّ تحت مسمّى الصدقة، أو التصدّق مباشرة على من ألمّت به الحاجة.
* لماذا تتصدَّق؟
من خلال جولة سريعة بين الناس وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ نتلمّس أهميّة الصدقة
في حياة الكثيرين. أمّا الإجابة الشائعة عن السؤال: لماذا تتصدق؟ فكانت مقتصرةً على
قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "الصدقة تدفع البلاء".
مع إشراقة الصباح، وقبل التوجّه إلى العمل، يوزّع السيد طلال ما تيسّر من مال ما
بين صندوق الصدقات وقجّة دعم المقاومة، ويحدّثنا عن الصدقة قائلاً: "ليس هناك أفضل
من أن تبدأ نهارك بالصدقة، فهي تدفع السوء وتظلّ المتصدّق يوم القيامة". يُضيف: "وصدقتي
تتوزّع على جهات خمس: نفسي وأولادي وأرحامي وأمواتي وصاحب الزمان عجل الله تعالى
فرجه الشريف".
ولطالما استوقفتني مبادرات تصدّق الأطفال وإجاباتهم البريئة ووعيهم لما يقومون به
وإدراكهم لآثاره. فهذه فاطمة (5 سنوات)، اعتادت التصدّق منذ طفولتها المبكرة، حيث
كانت والدتها تطلب منها وضع الصدقة بيدها في الصندوق وتحدّثها عن ثوابها. وبخجل
الأطفال تجيب عن تساؤلاتي قائلةً: "نحن نجمع المال للفقراء، وأنا أتصدّق لكي يرضى
الله عنّي".
وإن كانت الصدقة عادة يومية عند كثيرين، إلّا أنّها ترتبط بأعمال مصيرية عند آخرين،
أو تيسير أمر أو قضاء حاجة وما إلى ذلك...
* للصدقة آفاق رحبة
عليّ طالب جامعيّ يربط التصدّق بالتوفيق الإلهيّ قائلاً: "جرت العادة أن أتصدّق في
حالات معيّنة، مثلاً عند الامتحانات أو الخروج في رحلة أو طلب حاجة..، وأحياناً
أتصدّق دون مناسبة حسب توفّر المال لديّ".
في حين يجمع أحمد كلّ ما يحصل عليه من نقود معدنيّة في سيارته ويتصدّق بها معلّقاً:
"انطلق مفهوم الصدقة عندي من هذه الفئة النقدية، فلا أنسى حثّ مندوبي الجمعيات
الخيرية للناس بالقول: تصدّقوا ولو باليسير، (حتّى لو كانت 250 ل.ل مش مشكلة)".
وأكثر ما لفتني وأثّر بي تلك الوالدة التي كانت تقول إنّها تدفع الصدقة بنيّة تحسين
أخلاق أبنائها؛ إذ أرشدتنا إلى آفاقٍ جديدة للصدقة بعيدة عن المنفعة الشخصيّة
الماديّة.
* في بيتنا صندوقٌ صغير
تنتشر صناديق الصدقة في المنازل والمحالّ والمؤسّسات التجارية والأماكن العامّة
بشكل ملحوظ. وتهدف المؤسّسات الخيريّة من خلالها إلى تبسيط فكرة الصدقة وتسهيل بذل
الناس لها، ولو بوضع مبالغ صغيرة؛ لما في ذلك من أثر معنويّ وتربويّ ودينيّ.
لكنّ المهمّ أن نثق ونطمئنّ إلى الجهة التي تجمع الصدقات، حتّى تؤدّي الأمانة
بإيصال المال إلى أهله، خصوصاً في وقتنا الراهن الذي كثر فيه الخداع والتضليل تحت
عناوين الدين والجمعيات الخيريّة. فقد شاع وجود بعض الصناديق في المحلّات والتي
يذهب ريعها إلى بعض الحركات التكفيريّة الإرهابيّة، تحت مسمّى العمل الإسلاميّ أو
الصدقات.
* إمداد الإمام الخمينيّ قدس سره نموذجاً
تتعدّد أشكال ومسمّيات صناديق الصدقات التي تنتشر في المنازل والمحالّ والأماكن
العامّة، ولكن أكثر ما يلفت بينها هو ذاك الصندوق الحديدي الأزرق الذي تلحظه ربّما
أينما كنت، حتّى في الطرقات. وهذا الصندوق يعود إلى جمعية لجنة الإمام الخمينيّ قدس
سره، التي حظيت، حسبما أخبرنا مدير قسم الصدقات في منطقة بيروت الحاج "علي صفوان"،
بهذا القبول الكبير بين الناس بسبب "ثقتهم بها وبعملها الصادق والمخلص منذ نشأتها
عام 1986م في لبنان، إضافة إلى حرصها على صرف الأموال الشرعية للمستحقّين، ولعلّ
وصول عدد الحالات المستفيدة من صناديق الخير هذه، إلى 10650 عائلةً، وتكفّل 4050
يتيماً تقريباً، دليل على فعاليتها في سدّ هذه الحاجة الاجتماعيّة". يستكمل الحاج
علي حديثه قائلاً: "إنّ الجمعيّة تعمل منذ نشأتها على إحياء ونشر سُنّة التصدّق".
* رعاية من لا معيل له
يرى الحاج صفوان أنّ صندوق الصدقة مفيد جداً، خصوصاً في المنازل؛ نظراً إلى أمور
عدّة: "أوّلاً، يساعد على تذكير المؤمنين بالصدقة. ثانياً، قد يخجل الإنسان من
التصدّق بمبلغ صغير من المال ولكن وضع هذا المبلغ في الصندوق مباشرة لا يسبّب
الإحراج له. ثالثاً، وجود صندوق بين يدي المتصدّق لا يلغي التصدّق المباشر إذا أراد
ذلك".
وكون جمعية الإمداد هي الراعية لهذا الصندوق، ونظراً إلى القيام بعملها تحت شعار (رعاية
من لا معيل له ولا كفيل)، "تتصدّى من خلال استراتيجياتها العملية المتنوّعة في
الأشكال، لرعاية آلاف المستضعفين والأيتام والعجزة والمرضى والأرامل وغيرهم من
أبناء مجتمعنا".
* إحياء أسبوع الصدقة
ويلفت الحاج علي صفوان إلى أنّ: "جمعية الإمداد تولي أهمية كبيرة للمناسبات الدينية
وتقوم بحملات واسعة لجمع التبرعات خلالها. وبما أنّنا على مشارف أسبوع الصدقة الذي
يخلّد ذكرى تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بالخاتم، تحيي الجمعية المناسبة عبر
الاحتفاء بها بإقامة الندوات والأنشطة المتنوّعة التي تُقام في جميع المناطق،
كإقامة حواجز المحبّة على الطرقات، وتوزيع المزيد من صناديق الصدقات بين الناس
ومنهم طلّاب المدارس، لترسيخ التصدّق كأسلوب حياة لديهم منذ الطفولة".
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما نقص مال من صدقة". وليست الصدقة
فرضاً على الأغنياء فقط، بل إنها منوطة بكل أفراد المجتمع. وفي أسوأ الأحوال
المالية يمكن للمرء التصدّق على أخيه المؤمن بأشكال أخرى، إذ إنّ الابتسامة صدقة،
وحُسن الحديث صدقة، والدعوة للمسلم بظهر الغيب صدقةٌ أيضاً.
1. 24 من ذي الحجة، ذكرى تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بالخاتم في ركوعه،
الذي أعلنه الإمام الخميني قدس سره بدايةً لأسبوع الصدقة