سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد الناس بالصوم، وهو ما كتبه أيضاً على الأمم السابقة، وجعل التقوى هدفاً أساسياً لهذه العبادة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
*من آثار التقوى
من آثار هذه التقوى ما نجده في مجتمعنا من مؤسسات وجمعيات ومراكز يسعى القائمون عليها والمؤسّسون لها إلى تقديم الخدمات المخلصة والصادقة لعموم الناس المستضعفين والطيبين. من آثار التقوى هذا العطاء، وهذا السعي لخدمة عيال الله سبحانه وتعالى.
أحياناً، عندما نتحدّث عن التقوى والمتّقين، ونتيجة ثقافة خاطئة وقديمة يتبادر إلى ذهننا صورة ذلك العابد المنزوي، المنعزل عن الناس الذي يصوم نهاره ويقوم ليله، ويقضي وقته بتلاوة القرآن وقراءة الدعاء والذكر والتسبيح. هذه هي صورة العابد التقليديّة في أذهاننا. مع العلم، أنّ أياً من أنبياء الله ورسله لم يكن هكذا، فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الانزواء والعزلة والابتعاد عن هموم الناس وآلام الفقراء والمستضعفين؟
*ثقافة في المجتمع
الإمام الخميني قدس سره عندما كان يتحدّث مع شرائح من الناس، [كان] يقول لهم: لو كان العرفان والتقوى والسلوك إلى الله يعني العزلة فرسول الله هو إمام العارفين، علي بن أبي طالب عليه السلام هو سيد العارفين، ولكن لم نجد في سيرة أنبيائنا ولا في سيرة أئمتنا ولا في سيرة الأولياء الصالحين طوال التاريخ شيئاً من هذا النوع.
لهذه التقوى آثار، ونحن نبحث في هذه الآثار ونفتّش عنها. عندما نجد في مجتمعنا المؤسسات والجمعيات، ومن يعمل فيها من العاملين والمجاهدين والمضحّين الذين يبذلون أعمارهم وأموالهم وأوقاتهم من أجل خدمة الفئات المحرومة والمستضعفة والفقيرة من الناس الذين أوصى بهم الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا دليل على أننا نقترب من الأهداف الإلهية والقرآنيّة والنبويّة، وأننا نقترب من الأهداف التي شرّع الله لأجلها شهر رمضان أكثر من أي وقتٍ مضى. في هذا السياق أيضاً، نجد أنّ هذه الثقافة التي بدأت تتعزّز في مجتمعنا هي أقرب إلى هذا المعنى وإلى هذه الأهداف.
*استحباب أقرب إلى الوجوب
ورد في الآيات والأحاديث والروايات استحباب الصدقة وآثار الصدقة. ونحن نعرف أنّ هناك أموراً لم يوجبها الله عزّ وجلّ على الناس وإنما جعلها في دائرة المستحب أحياناً، لكي لا يشقّ عليهم. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما مضمونه: "لولا أن أَشُقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"(1). هناك أمور أكّد عليها الإسلام وتعاطى معها على قاعدة الاستحباب المؤكّد ليعزّز في المجتمع الإنساني والإسلامي ثقافة معيّنة.
مثلاً، موضوع الصدقات وما ورد من فوائد وبركات الصدقات على المتصدّق ومنها أنّ الصدقة تدفع البلاء، وتطيل العمر. لاحظوا أنّ الإسلام أراد لهذه الثقافة أن تنتشر وأن تترسخ بين الناس.
*ثقافة إسلامية أصيلة
لذلك في بعض المجتمعات الإسلامية نجد أنه قد تصبح الصدقة عادة من عادات المجتمع، وتقليداً من تقاليد هذا المجتمع. في الوقت الذي نجد أنّ البخل والإقتار والأنانيّة والذاتيّة وإمساك اليد بالمطلق هي من عادات وتقاليد مجتمعات أخرى. هذا شأنٌ يعني هويّة المجتمع وثقافته.
عندما يصبح من عادة مجتمع، أنّ الشخص إذا أراد أن يخرج من بيته في سفرٍ ما يدفع صدقة، وإذا أراد أن يستعين بالله ويتوسّل إليه في أن يُسهّل بعض أموره يدفع صدقة، حتى أصبح من ثقافة بعض الناس أن ينذر بعض أرباح تجارته إن وفّقه الله ليقدّمها لفقراءٍ أو أيتامٍ أو للمقاومة وما شاكل... هذه الثقافة هي ثقافة إسلامية أصيلة وسليمة.
وحتى في إطار هذه الثقافة، الله عزّ وجلّ يقول للإنسان إنّك تتصدّق لنفسك، فلا تمنّ على هذا اليتيم ولا على الفقير، ولا على المسكين الذي مددت له يد المساعدة. إنّ صدقتك هذه تدفع البلاء عنك أنت، تطيل عمرك أنت، سوف تجدها أمامك يوم القيامة ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ (الكهف: 49).
*رغم صعوبة الأوضاع
هذا النوع من الثقافة يمكن للجميع أن يعمل على تعزيزه. صحيح أن الأوضاع المعيشية في لبنان صعبة، الناس بحاجة إلى من يعطيهم لا من يأخذ منهم، ولكن مع الوقت أصبحت الصدقة ثقافةً منتشرةً وأصبحت صناديق الصدقات مملوءةً بما يمكّن هذه المؤسسة أو هذه الجمعيّة أن تعيل عدداً كبيراً من عوائلها المحتاجة دون الحاجة إلى موازنةٍ أو دعم سوى فقط هذه الصدقات التي يدفعها الأغنياء والفقراء المساكين. هذا يشكّل في المجتمع نوعاً من القوة ونوعاً من الاكتفاء الذاتي لمؤسسةٍ معينة تستطيع أن تقوم بعبء مجموعة كبيرة من العائلات التي لا معيل لها.
أيضاً ثقافة القرض، إقراض المحتاجين، ثقافة تكفّل الأيتام. وإن عودة هذه المصطلحات أيضاً إلى مجتمعنا وشعورنا اليوم أنّ مجتمعنا يقترب من هذه الثقافة أكثر هو ما نحتاجه؛ لأننا من خلال التزامنا بتعاليم الإسلام والأوامر الإلهية والجهود المتواضعة التي نبذلها جميعاً يمكننا أن نشكّل قوة لم نكن نتصوّرها.
*بداية النهر نقطة
إنّ النهر يبدأ بنقطة، لأنّ مجموع النقاط يمكن أن يتفجّر منه نهرٌ وهو الأصل في قيام هذا البحر وهذه المحيطات، لكن وعندما نجمع النقاط ونوحّدها، وعندما تتعاون كل الأيدي وتتكاتف كلّ الجهود، عندها يمكن أن نصل إلى مستوى عالٍ من القوة.
إنّ أهداف المقاومة أهدافٌ كبيرة، أهداف جليلةٌ وعظيمة، والمقاومة لا يمكن أن تكون مجموعة مجاهدين يحملون السلاح بمعزل عن شعبهم وعن أمتهم. المقاومة التي نطمح إليها دائماً هي مقاومة أمة وهي أن يحتضن شعبنا وأمتنا هذه المقاومة لأنها تشكّل حصناً لها في مواجهة التحديات.
*إلى مجتمع إلهي حقيقي
المؤسسات التي ترعى شهداءنا وجرحانا، ترعى فقراءنا، وتمسح دموع الأيتام، هذه المؤسسات قد تكون نموذجاً لدعوةٍ راقيةٍ إلى الله عزّ وجلّ، وعلى قاعدة "كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم" أي بأعمالكم وبأخلاقكم الحسنة وبكلمتكم الطيبة. ولذلك نحن يجب أنْ نتطلّع لتكون هذه المؤسسات جميعاً مواقع للمقاومة ومواقع لتبليغ رسالة السماء ومواقع لصياغة مجتمعٍ إنسانيٍّ يسلك إلى الله ويسير إلى الله ليكون مجتمعاً إلهياً حقيقياً، هذا المجتمع الذي ننتظره بكل أمل وعلى امتداد العالم على يدي الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
(*) تاريخ المحاضرة: 4/2/1995م.
1- الخلاف، الشيخ الطوسي، ج1، ص71.