الصدقة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد
ورد: "أمّا الصدقة فجُهدك حتى تقول قد أسرفت ولم تسرف"(1). وهي من المستحبات
الأكيدة، التي قلّ أن يبلغ مثوبتها في الأجر والثواب عملٌ آخر. والأخبار في التصدّق،
حتى على مَن لا يوافقنا في الدين، وعلى الحيوانات البرية والبحرية، أكثر مما يتناسب
مع حجم هذا [المقال]. ونحن نكتفي بذكر بعضها:
محمد بن يعقوب بإسناده عن عبد الله بن سنان في حديث قال: قال أبو عبد الله عليه
السلام: "ليس شيء أثقل على الشيطان من الصدقة على المؤمن، هي تقع في يد الرب
تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد العبد"(2).
•عاشق الحقّ في الصدقة
وبإسناده عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: "إن الله لم يخلق
شيئاً إلا وله خازن يخزنه إلّا الصدقة فإنّ الربّ يليها بنفسه. وكان أبي إذا تصدّق
بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتدّه منه فقبّله وشمّه ثم ردّه في يد السائل"(3).
إنّ التدبّر في هذا الحديث يبعث على استكشاف توحيد الحقّ سبحانه في هذه الأفعال،
ويشير إلى نكتة مهمة، يجب الالتفات إليها، وهي: أنّ الإنسان عندما يتصدّق بيده إذا
منّ على الفقير أو أساء إليه والعياذ بالله، كانت منّته وإساءته أولاً إلى الله
تعالى، وثانياً إلى الفقير. كما إنّه إذا خشع وتواضع وأبدى منتهى الذلّ والمسكنة
عند تقديم الصدقة إلى السائل المؤمن، كان خضوعه وذلّه وخشوعه لله أولاً ثم للفقير
المؤمن ثانياً. وفي ما ورد عن الإمام باقر العلوم عليه السلام أنّه "إذا تصدّق
بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتدّه منه فقبّله وشمّه ثم ردّه في يد السائل"
إشارة إلى أنّ مثل هذه المغازلة مع المعشوق -جلّ وعلا- تبعث على قرار نفس العاشق
المجذوب، وراحة أعماق الإمام المقدّسة، وتسبّب إخماد ذلك اللهب والضرام المتأجّج في
صدره عليه السلام.
• من أسرار الصدقة
لا بدّ من أن نعرف أنّ الإنسان قد نشأ وتربّى على حبّ المال والجاه والزخارف
الدنيوية. وقد انعكس هذا التعلّق على قلبه، فتعمّق فيه وأضحى مصدراً لكثير من
المفاسد الأخلاقية والسلوكية، بل الانحرافات الدينية، كما ورد في أحاديث كثيرة.
وعليه إذا استطاع الإنسان -بواسطة الصدقات أو الإيثار على النفس- أن يستأصل من قلبه
هذا التعلّق أو يخفّف منه، لتمكّن من اجتثاث مادّة الفساد ومصدر الأعمال المشينة
فترة حياته، وفتح أبواب المعارف الإلهية، وعالم الغيب والملكوت، والملَكات الفاضلة،
على نفسه.
•عبادة السرّ
ولا بد من أن نعرف أنّ صدقة السرّ أفضل من صدقة العلن، كما ورد في الكافي الشريف
بسنده إلى عمّار الساباطي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يا عمّار، الصدقة
في السرّ والله أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك والله العبادة في السرّ أفضل
منها في العلانية"(4). وقد ورد في أحاديث كثيرة عن الإمام أبي جعفر عليه السلام
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صدقة السرّ تطفئ غضب الرب تبارك
وتعالى" (5).
ولعلّ من نكات أفضليّة صدقة السرّ أولاً؛ أن عبادة السرّ أبعد عن الرياء، وأقرب إلى
الإخلاص. وثانياً؛ أنّ صدقة السرّ تحافظ على كرامة الفقراء. كما إنّ الصدقة على
الأرحام والأقرباء أفضل من التصدق على غيرهم؛ لأنّ عنوان صلة الرحم -الذي هو من
أفضل العبادات- ينطبق على مثل هذه الصدقة. ففي الحديث عن الإمام أبي عبد الله عليه
السلام قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيّ الصدقة أفضل؟ قال: "على
ذي الرحم الكاشح" (6)، وعنه عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: ... وصِلة الإخوان بعشرين وصلة الرحم بأربعة وعشرين"(7). وفي بعض
الروايات عن محمد بن علي بن الحسين قال عليه السلام: "لا صدقة وذو رحم محتاج"
(8).
•حتى تقول أسرفت ولم تسرف
اعلم، أنه يظهر من قوله عليه السلام: "وأمّا الصدقة فجهدك حتى تقول قد أسرفت ولم
تسرف" أنّ المطلوب في الصدقة الإكثار منها وأنّه لا يتحقّق الإسراف مهما أكثر
الإنسان من التصدّق. وفي الحديث "قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام (...) فقال:
إنّ الحسن بن علي عليه السلام قاسمَ ربّه ثلاث مرات حتى نعلاً ونعلاً، وثوباً وثوباً،
وديناراً وديناراً"(9).
ولا تتهافت هذه الروايات المذكورة مع الأحاديث التي تقول: "سأل رجل أبا عبد الله
عليه السلام عن قول الله عزّ وجل: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾
(الأنعام:141)، فقال: إن فلاناً بن فلان الأنصاري وكان له حرث، فكان إذ حلّ،
يتصدّق به فيبقى هو وعياله بغير شيء، فجعل الله عزّ وجلّ ذلك سرفاً"(10).
ووجه عدم التهافت؛ أنّ الإكثار في التصدق قد لا يبلغ مرحلة التضييق على الأهل
والعيال؛ إذ ربما يتصدّق أشخاص بنصف أموالهم أو أكثر، مع المحافظة على كَفاف أهلهم،
وعدم دفعهم نحو الضيق والعسر.
1. الكافي، الكليني، ج8، ص79.
2. فروع الكافي، الكليني، ج4، ص3.
3. (م.ن)، ص9.
4. بحار الأنوار، المجلسي، ج52، ص127.
5. فروع الكافي، (م، س)، ج4، ص8.
6. (م، ن)، ج4، ص10.
7.(م.ن).
8. وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج6، ص286.
9. (م، ن)، ج6، ص336.
10.1 (م، ن)، ج6، ص322.