الشيخ إسماعيل إبراهيم حريري(*)
رُوي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:
"كلّ معروف صدقة"(1)، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ترك الشرّ
صدقة"(2). وعليه، يكون مفهوم الصدقة واسعاً جدّاً في الرؤية الإسلامية، ومتنوعاً
بين صدقة مادية وأخرى معنوية. ما سرّ هذا التنوّع؟
يستفاد من الرواية الأولى أنّ معنى الصدقة أعمّ وأشمل من التصدّق بالمال؛ لأنّ
المعروف هو كلّ فعل حسن شرعاً أو عقلاً يمدح فاعله، ولا شكّ في أنّ التصدّق بالمال
من مصاديقه.
أمّا الرواية الثانية، فتذكر مصداقاً لهذا العنوان العامّ وهو ترك الشرّ، ولا شكّ
أيضاً في أنّ ترك الشرّ من مصاديق المعروف ولو باللازم. وهذا المعنى العام لا يشترط
فيه المعنى الفقهيّ، وإن كان ترتّب الثواب متوقفاً على قصد القربة، كما ذكر
الفقهاء.
•الصدقة بالمعنى الفقهيّ
للصدقة معنى فقهيّ معروف، فهي "عند مشهور الفقهاء من العقود، فيعتبر فيها الإيجاب
والقبول، ولكن الأظهر كونها إحساناً بالمال على وجه القربة، فإن كان الإحسان
بالتمليك احتاج إلى إيجاب وقبول، وإن كان بالإبراء كفى الإيجاب بمثل "أبرأت ذمتك"،
وإن كان بالبذل كفى الإذن في التصرّف وهكذا، فيختلف حكمها من هذه الجهة باختلاف
مواردها"(3).
وعن الإمام الخمينيّ قدس سره: "يكفي المعاطاة، فتتحقّق بكل لفظ أو فعل من إعطاء أو
تسليط قصد به التمليك مجاناً مع نيّة القربة"(4). وهذا المعنى ناظر إلى ما كان
متعلّقه المال فقط.
وهذا النوع من الصدقة لا يتحقّق إلّا بقصد القربة، ولا بدّ فيه من القبض والإقباض،
كما إنّه يكون لازماً لا رجوع عنه؛ لأنّ ما كان لله لا يرجع فيه(5)؛ أي ما هو راجع
إلى الله في حدّ نفسه لا يرجع فيه، والصدقة أمر راجع إليه تعالى؛ لأنه الآخذ لها
كما دلّت عليه الروايات(6).
•تنوّع موارد الصدقة
تنوّعت الصدقة في حياة الناس حسب فعل المتصدِّق، وحاجة المتصدَّق عليه، وأهميّة
المتصدَّق به من مال وغيره، مثلاً:
1- التصدّق بالمال: هناك آيات وروايات كثيرة في بيان الحثّ عليه، وما يترتّب
عليه من آثار دنيوية وثواب أخرويّ. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
(البقرة: 274). وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: "تصدّقوا، فإنّ الصدقة تزيد في المال كثرةً، وتصدّقوا
رحمكم الله"(7).
2- التصدّق بإصلاح ذات البين: عُدّ أفضل من صدقة المال، فعن الإمام الصادق عليه
السلام: "لأن أُصلح بين اثنين، أحبّ إليّ من أن أتصدّق بدينارين"(8).
3- التصدّق بالعلم: فقد ورد المدح لمن يتصدّق ببذل علمه لمن يحتاج إليه، فعن
الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "تعلّموا
العلم، فإنّ تعلُّمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه
صدقة..."(9). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تصدّقوا على أخيكم بعلمٍ
يُرشده ورأي يُسدّده"(10).
4- إعانة الملهوف على قضاء حاجته: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"على كلّ مسلم صدقة، قال -أبو موسى-: أفرأيت إنْ لم يجد؟ قال: يعتمل بيده فينفع
نفسه ويتصدّق، قال: أفرأيت إنْ لم يستطع؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف..."(11).
5- قضاء الحوائج وأعمال المعروف والخير: وهي صدقة عامّة ينبغي لكلّ مسلم القيام
بها. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ على كل مسلم في كلّ يوم صدقة،
قيل: من يطيق ذلك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إماطتك الأذى عن الطريق صدقة،
وإرشادك الرجل صدقة، وعيادتك المريض صدقة، واتّباعك الجنازة صدقة، وأمرك بالمعروف
ونهيك عن المنكر صدقة، وردّك السلام صدقة"(12).
6- الصدقة الجارية: وهي صدقة مالية، ذكرت في الرواية المتداولة على الألسن عن
النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّا من
ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(13). وعن الإمام علي
عليه السلام أنّه قال: "لا يتبع أحداً من الناس بعد الموت شيء إلّا صدقة جارية
أو علم صواب أو دعاء ولد"(14).
وقد نصّ الفقهاء على أنّ الصدقة الجارية هي الوقف تحديداً، والجارية هي
المستمرّة(15). وتحديد الفقهاء الصدقة الجارية بالوقف؛ لأنّه مستمر أبداً حيث اشترط
في الوقف التأبيد، وبالتالي فمن وقف ملكاً له على أشخاص أو جهة أو عنوان عامّ فقد
تصدّق بصدقة جارية ما دامت العين قائمة. ولذا عرّف الوقف أنّه "تحبيس الأصل وتسبيل
المنفعة"(16).
ومن ينظر في مفردات الوقف يرَ الأثر الاجتماعيّ الواضح لها، فهناك وقف على الفقراء
والأيتام والمسلمين عموماً، بل الوقْف على أبناء السبيل، وغيرهما الكثير ممّا يرتبط
بسدّ حاجات المحتاجين في المجتمع الإسلاميّ ممّا يعطي دفْعاً مادياً إضافياً زائداً
على المصادر الماليّة الأخرى؛ لتحصين المجتمع وحمايته وصونه من كل ما يؤدّي إلى
اختلال بنيانه المتراصّ.
•الصدقة: واجبة ومندوبة
قسّم الفقهاء الصدقة إلى "واجبة" و"مندوبة"، والواجبة هي الزكاة الواجبة بقسمَيها
المعروفين: زكاة المال وزكاة الفطرة، وهناك التصدّق بمال مجهول المالك.
أمّا "المندوبة" فهي الصدقة بمال دون حُكم إلزاميّ بذلك، وهي التي وردت الروايات
الكثيرة بالحثّ عليها، وقد ذكرنا بعضها في المورد الأول من الصدقة. ومن موارد
الصدقة المندوبة الصدقة عن الميت، فقد روى السيّد ابن طاووس في فلاح السائل عن
حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يأتي على
الميت ساعة أشدّ من أول ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإنْ لم تجدوا فليصلِّ أحدكم
ركعتين، يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب مرّة، وقل هو الله أحد مرّتين، وفي الثانية
فاتحة الكتاب مرّة وألهاكم التكاثر عشر مرّات، ويسلّم ويقول: اللهمّ صلِّ على محمد
وآل محمد، وابعث ثوابها إلى قبر ذلك الميت فلان ابن فلان. فيبعث الله من ساعته ألف
ملك إلى قبره مع كلّ ملك ثوب وحلّة، ويوسع قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور،
ويُعطى المصلّي بعدد ما طلعت عليه الشمس حسنات، وترفع له أربعون درجة"(17).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ارحموا موتاكم بالصدقة" بعد بيان أن الليلة
الأولى للميت هي أشدّ ليلة عليه، يدلّ على أهمية هذه الصدقة للميت ورحمة الله تعالى
له، بل قد نستفيد من الآثار الإيجابية التي ذكرتها الرواية للصلاة، لمن لم يجد ما
يتصدّق به لميّته، أنّ هذه الآثار مترتّبة على الصدقة المذكورة.
•سرّ تنوّع الصدقات
لعلّ ما ذكر من تنوع مصاديق الصدقة في حياة الناس يرجع إلى أكثر من أمر:
الأول: ليس جميع الناس قادرين على التصدّق الماليّ، فجُعل ما هو بديل عنه
لكي لا يتوقّف المعروف بين الناس وليعمّ النفع، كما هي الحال في صلاة الوحشة للميّت
ليلة الدفن، إن لم يجد ما يتصدّق به. فالأصل هو الصدقة بالمال. وكذلك فيما ورد عن
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "على كلّ مسلم صدقة، قال -أبو موسى-: أفرأيت إن لم
يجد؟ قال: يعتمل بيده [أي يعمل ليجني مالاً] فينفع نفسه ويتصدّق، قال: أفرأيت إنْ
لم يستطع؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف، قال: أرأيت إنْ لم يفعل؟ قال: يأمر
بالخير، قال: أرأيت إنْ لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشرّ فإنّه له صدقة"(18).
الثاني: إن هذا التنوع يعطي دفعاً إلى فعل كلّ ما فيه نفع للناس؛ حتّى اعتبر
ترك الشرّ من الصدقة، و"تبسّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيُك
عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم
عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة" على ما ورد في الرواية
عن رسول الله (19) صلى الله عليه وآله وسلم. كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم:
"أمسك لسانك، فإنّها صدقة تصدق بها على نفسك"(20). وعنه صلى الله عليه وآله
وسلم: "الكلمة الطيبة صدقة، وكلّ خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة"(21). وعن
الإمام الصادق عليه السلام: "إسماع الأصمّ من غير تضجر صدقة هنيئة"(22).
الثالث: إنّ التنوّع في بعض حيثياته يُلفت النظر إلى أفضلية صدقة على أخرى،
كما في إصلاح ذات البين الذي ورد أنّه أفضل من الصدقة بالمال، وكما في صدقة اللسان،
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أفضل الصدقة صدقة اللسان، تحقن به
الدماء، وتدفع به الكريهة، وتجرّ المنفعة إلى أخيك المسلم"(23). وأيضاً لإلفات
النظر إلى تراتبية الصدقات فيما بينها، كما في الرواية المذكورة في الأمر الأول،
ورواية صلاة ليلة الدفن أيضاً.
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية، فرع لبنان.
1.الكافي، الكليني، ج4، ص26.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص160.
3.منهاج الصالحين، السيد الخوئي، ج2، ص256.
4.تحرير الوسيلة، الإمام الخميني، ج2، ص90.
5.جواهر الكلام، الجواهري، ج28، ص125.
6.التنقيح في شرح المكاسب، تقرير بحث السيد الخوئي للميرزا الغروي، ص272.
7.الكافي، (م، س)، ج4، ص9.
8.(م، ن)، ج2، ص209.
9.الأمالي، الصدوق، ص713.
10.عدة الداعي، ابن فهد الحلي، ص63.
11.مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج7، ص242.
12.(م، ن).
13.عوالي اللآلي، الأحسائي، ج2، ص53.
14.دعائم الإسلام، القاضي النعماني، ج2، ص340.
15.جواهر الكلام، (م، س)، ج 28، ص2.
16.راجع: (م، ن)، وغيره من الكتب الفقهية.
17.مسترك الوسائل، (م، س)، ج2، ص112.
18.(م، ن)، ج7، ص 242.
19.ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1597.
20.الكافي، (م، س)، ج2، ص 114.
21.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج5، ص233.
22.ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص140.
23.ميزان الحكمة، (م، س)، ج2، ص1598