نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

نور روح اللّه‏: البحث الفطري عن الكمال‏



إن المقصود من "فطرة اللّه" التي فطر الناس عليها هو الحال والكيفية التي خلق الناس عليها، وهم متّصفون بها والتي تعد من لوازم وجودهم وقد "تخمّرت" طينتهم بها في أصل الخلق. والفطرات الإلهية كما سيتبيّن فيما بعد من الألطاف التي خصّ اللّه تعالى بها الإنسان من بين جميع المخلوقات.

إذ أن الموجودات الأخرى غير الإنسان إمّا أنها لا تملك أصلاً مثل هذه الفطرات المذكورة، وإما أن لها حظاً ضئيلاً منها. وهُنا لا بدّ من معرفة أن الفطرة ليست مقصورة على التوحيد، بل إن جميع المعارف الحقّة هي من الأمور التي فَطَر اللّه تعالى الإنسان عليها. لا بُدّ أن نعرف بأن ما هو من أحكام الفطرة لا يمكن أن يختلف فيه اثنان، لأنها من لوازم الوجود وهي هيئات تخمرت في أصل الطينة والخلقة. فالجميع، من الجاهل والعالم والمتوحش والمتحضر والمدني والبدوي، متفقون في ذلك. ولكن مما يثير الدهشة والعجب أنه على الرغم من عدم وجود أي خلاف بشأن الأمور الفطرية، من أول العالم إلى آخره، فإن الناس غافلون عن أنهم متفقون، ويظنون أنهم مختلفون، ما لم ينبههم أحد على ذلك، وعند ذلك يدركون أنهم كانوا موافقين في صورة المخالفة.

وهذا ما تشير إليه الجملة الأخيرة من الآية الشريفة: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (1) إن أحكام الفطرة أكثر بداهة من كل أمر بديهي. إذ لا يوجد في جميع الأحكام العقلية حكم مثلها في البداهة والوضوح، حيث لم يختلف فيه الناس ولن يختلفوا. وعلى هذا الأساس تكون الفطرة من أوضح الضروريات وأبده البديهيات، كما أن لوازمها أيضاً يجب أن تكون من أوضح الضروريات. فإذا كان التوحيد أو سائر المعارف من أحكام الفطرة أو من لوازمها، وجب أن يكون من أوضح الضروريات وأجلى البديهيات ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. إذاً لا بدّ أن نعرف أن من أنواع الفطرات الإلهية ما يكون على "أصل وجود المبدأ" تعالى وتقدس ومنها الفطرة على "التوحيد" وأخرى على "استجماع ذات اللّه المقدسة لجميع الكمالات" وأخرى على "المعاد ويوم القيامة" وأخرى على "النبوة" و"وجود الملائكة والروحانيين وإنزال الكتب وإعلان طريق الهداية".

وهذه الأمور بعضها من أحكام الفطرة وبعضها من لوازم الفطرة. فالإيمان باللّه تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وبيوم القيامة هو الدين القيّم المحكم والمستقيم والحق على امتداد حياة المجموعة البشرية. ... إن إحدى الأمور الفطرية التي جبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها، بحيث أنك لن تجد فرداً واحداً في كل المجموعة البشرية يخالفها، والعادات والأخلاق والمذاهب والمسالك وغيرها لا يمكن أن تبدلها ولا أن تحدث فيها خللاً "فطرة عشق الكمال". فإنك إن تجولت في جميع الأدوار التي مرّ بها الإنسان واستنطقت كل فرد من أفراد كل طائفة من الطوائف. وكل ملة من الملل، لوجدت هذا العشق والحب قد جبل في طينته، ووجدت قلبه متوجهاً نحو الكمال. بل إن ما يحرك الإنسان ويدفعه في سكناته وتحركاته، وكل العناء والجهود المضنية التي يبذلها كل فرد في مجال عمله وتخصصه، إنما هو نابع من حب الكمال، وإن كان الناس مختلفين تمام الاختلاف في تشخيص الكمال وفي أي شي‏ء هو، والمحبوب والمعشوق أين هو.

فكلٌ وجد وظن معشوقه في شي‏ء، وتوهم كعبة آماله في أمر معيّن. فتوجه إليه وطلبه من قلبه وروحه. إن أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة، ويجدون معشوقهم فيها، فيبذلون من كل وجودهم الجهد والخدمة الخالصة في سبيل تحصيلها، بينما يرى أهل الآخرة والذكر والفكر غير ذلك.. وبالجملة، فجميعهم يسعون نحو الكمال. ولأنهم شخصوه في شي‏ء موجود أو موهوم تعلّقوا به وعشقوه. إذ لو أن كل واحد منهم رجع إلى فطرته لوجد أن قلبه في الوقت الذي يظهر العشق لشي‏ءٍ ما فإنه يتحوّل فوراً عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجد الثاني أكمل من الأول، ثم إذا عثر على أكمل من الثاني، ترك الثاني وانتقل بحبه إلى الأكمل منه، وعندما يصل إليه، فإنه يتوجه نحو الأكمل منه، بل إن نيران عشقه لتزداد اشتعالاً حتى لا يعود قلبه يلقي برحاله في أية درجة من الدرجات، ولا يرضى بأي حد من الحدود. إذاً، فنور الفطرة قد هدانا إلى أن نعرف أن قلوب جميع أبناء البشر، من أهالي أقصى المعمورة وسكان البوادي والغابات، إلى شعوب الدول المتحضرة في العالم، وابتداء بالطبيعيين والماديين، وانتهاء بأهل الملل والنحل، تتوجه قلوبهم بالفطرة إلى الكمال الذي لا نقص فيه، ويعشقون الكمال والجمال الذي لا عيب فيه، والعلم الذي لا جهل فيه، والقدرة التي لا تعجز عن شي‏ء، والحياة التي لا موت فيها، أي أن "الكمال المطلق" هو معشوق الجميع.

 جميع الكائنات والعائلة البشرية، يقولون بلسان فصيح واحد وبقلب واحد: إننا نعشق الكمال المطلق، إننا نحب الجمال والجلال المطلق، إننا نطلب القدرة المطلقة، والعلم المطلق. هل هناك في جميع سلسلة الكائنات في عالم التصور والخيال. وفي كل التجويزات العقلية والاعتبارية، كائن مطلق الكمال ومطلق الجمال، سوى اللّه تقدست أسماؤه، مبدأ العالم جلّت عظمته؟ وهل الجميل على الإطلاق الذي لا نقص فيه إلاّ ذلك المحبوب المطلق؟

فيا أيها الهائمون في وادي الحيرة والضائعون في صحاري الضلالات. بل أيتها الفراشات الهائمة حول شمعة الجميل المطلق، يا عشّاق الحبيب الخالي من العيون والدائم الأزلي، عودوا قليلاً إلى كتاب ذاتكم لتروا أن الفطرة الإلهية قد كُتبت فيه بقلم القدرة: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (2) فهل أن ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (3) هي فطرة التوجّه نحو المحبوب المطلق؟ أم أنها الفطرة الثانية ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ هي فطرة المعرفة؟ فإلى متى توجه هذا العشق الإلهي الفطري وهذه الوديعة الإلهية نحو هذا وذاك بحسب الخيالات الباطلة؟ إذا كان محبوبك هو هذا الجمال الناقص والكمالات المحدودة، فلماذا عندما تصل إليها يبقى اشتياقك ملتهباً لا يخمد، بل يزداد ويشتد؟ تيقّظ من نوم الغفلة واستبشر فرحاً بأن لك محبوباً لا يزول، ومعشوقاً لا نقص فيه، ومطلوباً من دون عيب، وإن لك مقصوداً يكون نور طلعته ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (4) وإن لك محبوباً سمة إحاطته "لو دُلّيتُم بحبلٍ إلى الأرضين السّفلى لهبطتُم على اللّه"(5) إذن يستوجب عشقك الفعلي معشوقاً فعلياً، ولا يمكن أن يكون شيئاً متوهماً ومتخيلاً، إذ أن كل موهوم ناقص، والفطرة إنما تتوجه إلى الكامل، فالعاشق الفعلي والعشق الفعلي لا يكون من دون معشوق، ولا يكون غير الذات الكاملة، معشوقاً تتجه إليه الفطرة. فلازمُ عشق الكامل المطلق وجود الكامل المطلق. وقد سبق أن عرفنا أن أحكام الفطرة ولوازمها أوضح من جميع البديهيات ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

اعلم أن من الأمور الفطرية التي ﴿فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا هو النفور من النقص، وكل ما ينفر الإنسان منه فهو ينفر منه لأنه وجد فيه نقصاً وعيباً. إذاً، فالفطرة تنفر من النقص والعيب، كما أنها تنجذب إلى الكمال. فالذي تتوجه إليه الفطرة لا بد وأن يكون واحداً أحداً، لأن كل كثير ومركب ناقص، ولا تكون الكثرة دون محدودية. وكل ناقص مرغوب عنه من جانب الفطرة وليس بمرغوب فيه. إذاً، أمكن من هاتين الفطرتين: "فطرة حب الكمال" و"فطرة النفور من النقص" إثبات التوحيد. بل إن استجماع اللّه لجميع الكمالات، وخلو ذاته المقدسة من كل نقص، قد ثبت أيضاً. وجود "المعاد" ويوم القيامة من الأمور الفطرية المجبولة عليها طينة البشر. اعلم أن من الفطريات الإلهية التي فُطرت عليها العائلة البشرية كافة هي فطرة عشق الراحة. فلو أنك راجعت كل أدوار التمدن والتوحش، والتدين والتحلل وسألت الجاهل والعالم، والوضيع والشريف، والمدني والبدوي: "لِمَ كل هذا التعلق المتنوع والأهواء الشتى، وما الغاية من تحمل هذه المشقات والصعوبات والمعاناة في الحياة"؟ فإنهم جميعاً وبكلمة واحدة وبلسان الفطرة الصريح يجيبون قائلين: بأن كل ما يتوخونه إنما هو لراحتهم، والغاية النهائية والمرام الأخير وأقصى ما يتمنونه هو الراحة المطلقة الخالية من كل تعب ونصب. فلمّا كانت هذه الراحة التي لا تمازجها مشقة والتي لا يشوبها ألم ونقمة هي معشوقة الجميع، وكانت هذه المعشوقة المفقودة يظنها كل إنسان في شي‏ء، لذلك فهو يحب كل شي‏ء يتصور محبوبه فيه، مع أن مثل هذه الراحة المطلقة لا وجود لها في كل أرجاء العالم وزواياه. إذ ليس من الممكن أن تعثر على راحة غير مشوبة بالألم.

وعلى امتداد حياة الإنسان لن تجد فرداً واحداً يتساوى عذابه وراحته، ونعمته توازي تعبه ونقمته، ناهيك عن الراحة الخالصة المطلقة. وبناءً على ذلك فإن معشوق الإنسان لا يوجد في هذا العالم إن العشق الفطري الفعلي الذي جبل عليه جميع أبناء البشر لا يكون من دون معشوق موجود فعلاً. إذاً، لا بدّ من أن يكون هناك في دار التحقق وعالم الوجود عالم لا تشوب راحته شائبة من ألم وعذاب وتعب، راحة مطلقة لا يخالطها شي‏ء من العناء والشقاء، سرور دائم خالص لا يعتريه حزن ولا همّ. ذلك العالم هو "دار نعيم اللّه". عالم كرم ذات اللّه المقدسة. وهو عالم يمكن إثباته بفطرة الحرية ونفوذ الإرادة الموجودة في فطرة كل إنسان. ولما كانت مواد هذا العالم وما به من العسر والضيق مما يستعصي على حرية الإنسان وإرادته، فلا بد إذاً من أن يكون في عالم الوجود عالم آخر تكون للإرادة فيه كلمة نافذة، ولا تستعصي مواده على نفوذ إرادة الإنسان، ويكون الإنسان في ذلك العالم فعالاً لما يشاء والحاكم بما يريد، كما تقتضيه الفطرة.

إذاً، يعتبر العشق للراحة والعشق للحرية جناحين مودعين لدى الإنسان، بموجب فطرة اللّه التي لا تتبدل، فيحلّق بهما في عالم الملكوت الأعلى والقرب الإلهي. وفي المقام مواضيع أخرى لا تسعها هذه الأوراق وهناك فطرات أخرى لإثبات المعارف الحقّة، مثل إثبات النبوة، وبعثة الرسل، وإنزال الكتب السماوية. بل بكل واحدة من هذه الفطرة المذكورة يمكن إثبات جميع المعارف.


(1) الروم: 30.
(2) سورة الأنعام، الآية: 79.
(3) سورة الروم، الآية: 30.
(4) سورة النور، الآية: 35.
(5) حديث شريف.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع