نلا الزين
بعد ثلاثة عشر عاماً من البعثة النبوية المباركة، قضاها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في مكة المكرمة، داعياً إلى اللَّه تعالى، أمره اللَّه تعالى بالهجرة إلى مدينة يثرب التي تقع شمال مكة، على بعد بضع مئاتٍ من الكيلومترات، بعد أن توفرت الظروف الموضوعية لتلك الهجرة المباركة. وكانت أول المؤسسات التي أقامها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في هذه البلاد "المسجد" النبوي الشريف. فماذا عن دور المسجد وموقعه في حياة المسلمين الأوائل؟ وهل بقي اليوم للمسجد هذا الدور، وتلك المهام التي ارتبطت به؟ وماذا عن ذكر المسجد في الآيات القرآنية؟
* المسجد في اللغة والاصطلاح:
المسجد لغةً، وعرفاً اسم مكانٍ للموضع المعد للصلاة. وأصل هذه الكلمة مأخوذ من كلمة "سجد". يقال: سجد، يسجد، سجوداً، أي خضع وانحنى... والسجود شرعاً هو وضع الجبهة، والأنف على الأرض. والمسجد الموضع الذي يُسجَد فيه، وكل موضع يتعبَّد فيه فهو مسجد. ومع تطور الزمن، صارت كلمة "مسجد" تنصرف إلى المكان الذي يقيم فيه المسلمون الصلاة.
* المسجد في القرآن الكريم:
لقد ورد لفظ "المسجد" في القرآن الكريم في ثمانية وعشرين موضعاً نذكر منها: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ (الأعراف: 29). وفي سورة التوبة الآية 108 ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾. كما تحدثت بعض الآيات عن ضرورة أخذ الزينة عند دخول المسجد ﴿َا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (الأعراف: 31). وعن عمارة المسجد جاء في سورة التوبة الآية 18 ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ وعن السعي في خراب المساجد والصد عن ذكر اللَّه تعالى جاء في سورة البقرة الآية 114: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
* المسجد الأول:
لقد شُيِّد المسجد الأول أي المسجد النبوي الشريف على التقوى، والإخلاص للَّه تعالى، وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ (التوبة: 108). لقد تعاون أكثر الصحابة من المهاجرين، والأنصار في إقامة هذا المشروع العبادي، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قد شارك بنفسه في بناء المسجد. وكانت عمليات توسعة المسجد تتناسب مع تزايد أعداد المسلمين، وجموع المصلين خلف الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.
المهام التي نهض بها المسجد النبوي الشريف: إنَّ المهام التي نهض بها المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله تشكل رمزاً، وأسوة للمهمات التي ينبغي أن ينهض بها المسجد في المجتمع الإسلامي على مدى الزمن. يقول "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب": "العرب يتخذون من المسجد محلاً للاجتماع، والعبادة، والتعليم، وملاجئ للغرباء، وهكذا يتجلى اختلاط الحياة الدينية بالحياة المدنية عند المسلمين".
* من المهام التي نهض بها المسجد النبوي الشريف:
1- كان المسجد موضعاً لإقامة الصلاة اليومية جماعة بإمامة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وغيرها من العبادات.
2- كان المسجد النبوي مكاناً لتعلم القرآن الكريم، وتلاوة آياته، وتفسيرها.
3- وفي المسجد النبوي كانت تجري الدعوة للناس، وأصحاب الآراء، والمعتقدات الأخرى، وتعريفهم على الإسلام.
4- شكّل المسجد أيضاً موضعاً مهماً لإدارة شؤون المسلمين، وتوزيع الأموال على الناس.
5- ومن المسجد تعلن الدعوة للجهاد، وتجري اللقاءات بالوفود الرسمية.
6- لعب المسجد دوراً مهماً في إيواء الغرباء، والفقراء، كما كانت تجري عمليات تكريم أهل الخير، والعمل الصالح، والمجاهدين.
7- أما على صعيد القضاء، فقد شكل المسجد دكة للقضاء العادل، وإنصاف المظلومين.
إذن، فكل شيء يطاع اللَّه فيه كان المسجد موضعاً له، ومكاناً للطاعات، والعبادات والاجتماعات، والتوجيهات الشرعية، والعلمية، والجهادية.
* المسجد اليوم:
إنَّ المسجد اليوم لا زال يشكل منبراً للإسلام، وموضعاً للصلاة جماعة، وفرادى، وملتقى للمؤمنين في شتى بقاع العالم. فالمساجد للَّه تعالى، وهو القادر على حمايتها، وبعث الروح الإيمانية من جنباتها، وإبقاء صوت لا إله إلاَّ اللَّه عالياً يصدح من محرابها. ونلاحظ أنَّ أعداء الإسلام يعملون على تجريد المساجد من دورها الرائد والهام بشتى الوسائل؛ لأنها برأيهم تشكل مكاناً للالتقاء على القضايا المصيرية، وهي التي تحصِّن المجتمع الإسلامي من الابتعاد عن الدين، والأخلاق، ومنها تنطلق الدعوة لمجابهة الباطل، والظالمين، والمستكبرين. ولكن هل لا زال المسجد يقوم بنفس المهام والأدوار؟ الجواب: لا.
فمع تطور الزمن، وتطور الوسائل، والتقنيات التي تستخدم في التبليغ، والتعليم، والإعلام، فقد أضيفت أماكن، ومؤسسات أخرى أخذت تلعب دوراً مهماً في جذب الناس، والتأثير في توجهاتهم، وإرشادهم. ونحن هنا لسنا بصدد تعدادها؛ ولكن مهما تنوعت هذه الوسائل، وتعددت هذه التقنيات، يبقى للمسجد بهاؤه، وعظمته، والاطمئنان الذي يدخله على قلب الذي يعمره. ونشير إلى أنَّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام تحث المسلمين والمؤمنين على التواجد الدائم في المساجد؛ لكي يبقى لها الريادة في إدارة شؤون المسلمين، وربطهم ببيوت اللَّه، وهي "بيوت أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه". فبيوت اللَّه حصنت المجتمع عبادياً، وأخلاقياً، وسياسياً، وقد قال الإمام الخميني قدس سره: "مساجدكم متاريسكم، فحافظوا على متاريسكم".
إنَّ الأحاديث التي لا تحصى بحق المساجد، وعمارتها والتعبد فيها دليل على الدور الفاعل لها، مهما تطورت الحياة، وتقادم الزمن. وعندما نقرأ ما بين سطور هذه الأحاديث نجد أنها أتت لنا، وقيلت من أجلنا نحن في هذا العصر الذي طغى فيه العنصر المادي على النفوس، وحلَّت المظاهر مكان الجوهر والروح. فهذه المساجد تعيد لنا التواضع والاطمئنان، والتوحد تحت سقف بيت اللَّه. ووهل أجمل من أخذ درس عبادي، وفقهي، وسياسي، وقرآني في المسجد؛ فيكون المتعلم بين يدي اللَّه تعالى. وهل أجمل من ثواب الصلاة إلى جانب المؤمنين في صفٍّ مرصوص يوحي بالقوة، والعزة، والوحدة. هنا نذكر بعض الأحاديث التي نستوحي منها ضرورة الحفاظ على المساجد، والتواجد فيها.
في حديث لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "إنَّ اللَّه تعالى يعطيك ما دمت جالساً في المسجد بكلِّ نَفَسٍ درجة في الجنَّة، وتصلي عليك الملائكة، وتكتب لك بكل نَفَسٍ تنفَّست فيه عشر حسنات، وتمحى عنك عشر سيئات". وعن بناء المساجد قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: "من بنى مسجداً بنى اللَّه له بيتاً في الجنة". وعن الإمام الحسن عليه السلام قال: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من أدمن إلى المسجد أصاب الخصال الثمانية آية محكمة، أو فريضة مستعملة، أو سنة قائمة، أو علم مستطرف، أو أخ مستفاد، أو كلمة تدله على هدى، أو ترده عن ردى، وترك الذنب خشية، أو حياء".
إنها دعوات للذين يتوافدون إلى المساجد صبحاً، ومساءً؛ ليحصلوا على رضوان اللَّه؛ لكي يزدادوا حضوراً وتوجهاً إلى بيوت اللَّه. وهي دعوة للذين لا يزورون المساجد إلاَّ في المناسبات، ويحرمون أنفسهم من فرح عمارة المسجد، وبركات الصلاة، والدعاء، وتلاوة القرآن في بيت اللَّه.
* كلمة للختام:
إذا أردنا الثواب، واطمئنان القلوب، ومعرفة شؤون المسلمين، وتحصيل بركات العلوم، والمعرفة الإيمانية، فهذه بيوت اللَّه تفتح أبواب بركاتها للوافدين الذين تصلي عليهم الملائكة، ويذكرون اللَّه، ويعمرون بيوته، ومساجده. فلماذا لا نعيد للمساجد دورها الريادي الذي كان لها في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، والمسلمين الأوائل؟ فهي حصن حصين، وجامعة الإيمان والعلم. فعندما نريد أن نلتقي أخاً أو قريباً، فلماذا لا ندعوه للمسجد لكسب الأجر والأنس ببيت الرحمن، ونناقش قضايانا المشتركة، وندعو اللَّه بفنون الدعوات؟ أليس ذلك أفضل من الدعوات الدائمة إلى المقاهي؟ لا مشكلة في التنويع ولكن المشكلة أن نخسر جمال وثواب الملتقى في المسجد. ولماذا لا نحرص على الصلاة يومياً، أو يوماً بعد يوم، أو على الأقل في الأسبوع مرَّة، وحضور الدروس التي تقام، وختاماً "وأنَّ المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً".