تحقيق: السيد ربيع أبو الحسن
لا يقتصر عنوان الجوار على جيرة الإنسان لأخيه الإنسان، وحسن التعامل معه، بل يتعداها ليشمل جيرة الإنسان للمكان وآداب التعامل معه. فللمكان أهمّيّته، بما يحمله من معانٍ ودلائل وغايات. فكيف إذا كان هذا المكان هو بيت الله، بيت الخالق وربّ الأرباب؟ أو كان مرقداً شريفاً لأحد الأولياء؟
ما هي حقوق المساجد علينا؟ كيف نكون مصداقاً للجار البارّ بجاره؟ أسئلة يُجاب عنها من خلال هذه المقالة التي تسلّط الضوء على جيرة المساجد والمراقد الشريفة.
*علامةُ الإيمان
إذا كان ثواب زيارة المسلم أخاه المسلم في الله الجنّة، كما صرحت الأحاديث الشريفة، فكيف بمنْ زارَ الله في بيته؟
إنّ زيارة بيوت الله في الأرض تورث المؤمن نوراً ساطعاً يوم القيامة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "مكتوبٌ في التوراة: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبدٍ تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي ألا إنّ على المزور كرامة الزائر ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة"1.
وفي هذا الصدد يوصينا الإمام الخميني قدس سره قائلاً: "انطلقوا إلى المساجد واملؤوها، واجعلوها القطب الأكثر أهمّيّةً في حياتكم، فهذا تكليفٌ إلهيّ في حدّ ذاته. ويعتبر حفظ المساجد والمثابرة على الحضور فيها من أشدّ الأمور ذات الصلة الوثيقة بالإسلام".
إنّ حضور الجماعة يزيد في الحسنات ويرفع في الدرجات؛ ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "منْ مشى إلى مسجدٍ يطلب فيه الجماعة، كان له بكلِّ خطوةٍ سبعون ألف حسنة، ويُرفع له من الدرجات مثل ذلك، وإنْ مات وهو على ذلك، وكَّلَ الله به سبعين ألف ملك يعودُونه في قبره، ويُؤنسونه في وحدته، ويستغفرون له حتى يُبعث"2، وهو علامة على الإيمان والعدالة كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام 3.
*جار المسجد
يستحب لجار المسجد أن يصلّي في المسجد، وقد ورد التأكيد على ذلك كما عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، إلا أنْ يكون له عذرٌ أو به علّة. فقيل: ومنْ جار المسجد يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: من سمع النداء، أي الأذان"4. والمراد من سماع النداء هو النداء الصادر بالصوت العادي لا بالمكبّرات.
وقد حدّد الإمام الباقر عليه السلام حدّ الجوار: "حدُّ الجوار أربعون داراً من كل جانب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله"5. ولأهمّيّة حضور جار المسجد صلاة الجماعة أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجل أعمى الحضور بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "شُدَّ من منزلك إلى المسجد حبلاً، واحضر الجماعة"6.
*لا تجعلَهُ يشكوك
على عكس بعض الجيران الذين يوصدون أبوابهم أمام جيرانهم ولا يرغبون في التواصل معهم، بل ويُسعدون إذا لم يطرق بابَهم أحد، فإنّ أبواب المسجد مفتوحةٌ للراغبين ومشرّعةٌ للراكعين الساجدين، بل أكثر من ذلك فإنّه يشكو إلى الله - عزّ وجلّ - الذين لا يشهدونه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "شكت المساجد إلى الله تعالى الذين لا يشهدونها من جيرانها، فأوحى الله عز وجل إليها: وعزّتي وجلالي لا قبلت لهم صلاةً واحدة، ولا أظهرت لهم في الناس عدالة، ولا نالتهم رحمتي، ولا جاوروني في جنّتي"7.
* جيرانٌ بررة
هو المسجد الذي طاب لهم المكث فيه، وروى عطشهم بحلاوة الإيمان وصفاء القلب، وقاموا فيه متسلّحين بالدعاء والمناجاة، يأوي إليه طلّاب الآخرة وروّاد الطريق إلى الجنّة... وفيما يلي نماذجُ خيّرة من جيران المسجد:
- رغم العمى
بالرغم من فقده للبصر أثناء حرب تمّوز إلّا أنّ الله تعالى قد أبدله بصيرةً نافذة يرى من خلالها الأشياء بعين القلب. فالشاب (ع.ز) لم يدع حضور المسجد والمداومة فيه مستعيناً بابنه الذي يُمسك يده ليحضره إلى (البيت)، الذي طالما وجد فيه الأنس بالطاعة والراحة والطمأنينة وراحة البال، معتبراً أنّ "في المسجد تزول كلّ الهموم والمشاكل وتحلّ الراحة والطمأنينة بالرغم من مشاكله الكثيرة؛ إذ إنّه هو منْ يقوم بتربية أبنائه الأربعة والسهر على راحتهم ويقوم بكلّ مستلزمات المنزل من تنظيف وتجهيز المأكل والمشرب... كما أنّه يطمئنّ عندما يرافقه ابنه إلى المسجد لأنّه يداوم على الحضور إلى المسجد؛ ما يساعده على تنشئته تنشئةً إسلاميّة سليمة".
- على قدم واحدة
تراه واقفاً لا يزلزله طولُ الوقوف ولا تتعبه كثرة القيام بين يديّ الله عزّ وجلّ... حيث اعتاد (ع.ز) الحضور إلى المسجد بالرغم من قدمه المبتورة، فهو لم يتوانَ عن ذلك لأن "الأجر على قدر المشقّة" وأنّ "المواظبة على صلاة الجماعة نوع من الشكر لله تعالى على نعمة امتلاكه قدماً واحدة؛ لأنّ هناك منْ لا يملك القدمين ليتمكّن من ارتياد المسجد".
- حتى لا نضيع
لم ينتظرِ الحاج (ص.م) انتهاء العمل في المسجد حتى يصلي فيه، بل بدأ بالصلاة فيه وهو في طَور الإعداد. تجده واضعاً سجّادة صلاته في السيارة، التي سرعان ما يخرجها إذا حان وقت الصلاة، فيدخل المسجد ويبدأ بالصلاة. ولدى سؤالنا له عن سبب اهتمامه هذا، أجابنا: "إنّ المسجد هو الدعامة الأساس لتبليغ الدين وإرشاد الناس إلى طريق هدايتهم وسعادتهم وهو مركز لتلاقي المؤمنين وتراحمهم وتوادّهم، وهو ذو أثرٌ مهمٌ جدّاً في تخفيف التوتّر والخلافات بين أبناء المنطقة الواحدة، آملاً أنْ يتمّ الانتهاء من تشييده قريباً".
- تحجبت بفضل المسجد
تعزو (س.ر) سبب التزامها إلى المسجد؛ إذ إنّها لم تكن ترتدي الحجاب ولكن بعد تشييد المسجد بجانب منزلها، أصبحت تستحي من المرور أمامه حتى لا يراها إمام المسجد والمصلّون على هذا الحال... وبعد فترة، فكّرت في نفسها وتساءلت: "كيف لي أنْ أستحي من النّاس ولا أستحي من الله؟" ومنذ ذلك الحين التزمت الحجاب وأصبحت من المداومات على الحضور إلى المسجد.
- شوقٌ وحنين
وأمّا الأخت (ح.ع) فحين تسألها عن المسجد وجيرته، تحكي ذكرياتها والغصّة تخنقها: "ما أجملَ تلك الأيام التي قضيناها بجوار مسجد الإمام الحسن عليه السلام! فقد كانت الأجواء مفعمة بالمعنويات والبركات وخاصّةً أيام شهر رمضان ولياليه وأيام المناسبات الدينيّة؛ إذ كان أهل المنطقة يجتمعون في المسجد لإحياء العبادات واستماع الخطب... وأمّا بعد انتقالي إلى منزل آخر، فلم يعد يتسنّى لي الكثير من الفرص". وتختم بقولها: "ليتها ترجع تلك الأيّام".
*العتبات المقدسة: مودّة في القربى
إنّ الله تعالى قد أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس إلى مودّة أهل بيته عليهم السلام بقوله: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23).
وهذه المودّة والحبّ والتعلّق بقربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجدها لدى أتباعهم عليهم السلام الذين يرون في زيارة مراقدهم وأضرحتهم عليهم السلام نوعاً من الوفاء لهم وإظهار التعلّق بهم، واستلهام الدروس من سيرتهم وتاريخهم، من باب
﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(آل عمران: 31).
فهم مهوى الأفئدة وملتقى القلوب ووسائط الرحمن وسبل الخير إلى الله، وهم دعوة خليل الله إبراهيم عليه السلام إذ قال:
﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (إبراهيم : 37).
- أقلُّ الواجب
الحاج (م.ط) جارٌ لمقام السيدة زينب عليها السلام لأكثر من عشرة سنوات، تعرّف على سيرتها من خلال مجاورته لمقامها الشريف في الشام وهو لا يدع الصلاة في مرقدها الشريف معتبراً أنّ ذلك أقلُّ الواجب تجاهها "بالنسبة لمنْ يعرف مظلومية السيدة زينب عليها السلام وبطولاتها فلا شكّ أنّ قلبه سيتعلّق بها لما تجسّده من قيم ومبادئ".
- نوع من الاحترام
تَجدُهُم أينما حلُّوا وأي طريق سلكوا يحنون رؤوسهم تجاه مرقده الشريف ما إن برزت قبّته احتراماً له وإجلالاً. إنّهم أهل مشهد المشرفة، جيران الرضا عليه السلام. يقول الحاج (ح.د): "إنّ أهل مشهد لديهم عادة في احترام الإمام الرضا عليه السلام فهم أينما كانوا في مشهد يتوقفون في طريقهم إذا لمحوا قبّته المذهبة، ليقدموا له التحية ثم يتابعون سيرهم". "إنّ وجود مقام الإمام الرضا عليه السلام في هذه المنطقة يذكّرني بقوله تعالى حكايةً عن لسان خليله إبراهيم عليه السلام:
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم: 37). فنحن نعتبر أنّ كلّ النعم التي نشهدها هي ببركة وجوده المقدّس".
*في زيارتهم كمال التوحيد
في الاستئذان لزيارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقف عند باب المسجد وتقول مستأذناً: "... أأدخل هذا البيت متقرباً إلى الله بالله ورسوله محمد وآله الطاهرين؟ فكونوا ملائكة الله أعواني، وكونوا أنصاري حتى أدخل هذا البيت، وأدعو الله بفنون الدعوات، وأعترف لله بالعبودية...". فالزائر يريد عبادة الله والتقرّب إليه في أطهر بقاع الأرض؛ معتبراً أنّ لهذا المكان قدسيّةً خاصّة؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - كما في (شعب الإيمان) للبيهقي - أنّه قال: "الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام..."8. وقد ورد في (معجم البلدان) للهمذاني عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من جاء إلى مسجدي لا يريد إلَّا الصلاة في مسجدي والتسليم عليّ شهدت له وشفعت له، ومن سلَّم عليّ ميتاً فكأنّما سلَّمَ عليَّ حيّاً"9. وهذا يعني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبلُغه السلام، وأنّه يردّ السلام بالشفاعة له على قاعدة
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ (النساء: 86). ثمّ إنّ المؤمنين به صلى الله عليه وآله وسلم يأتون مرقده الشريف ليدعوا الله تعالى ويطلبوا منه العفو والمغفرة
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾(النساء: 64).
*تفاضُل البقاع في الشرف
لقد نُقِل عن العارف ابن عربي قوله: "إنّ للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيراً. ولو وجد القلب في أي محلّ كان الوجود الأعمّ فوجوده بالمسجد الحرام أسنى وأتمّ، فكما تتفاضل المنازل الروحانية تتفاضل المنازل الجسمانية وإلا فهل الدرّ مثل الحجر الأصمّ؟ وفرقٌ بين مدينةٍ أكثر عمادها الشهوات وبين مدينةٍ أكثر عمادها الآيات البينات. ووجود القلوب في بعض المواطن أكثر من بعض أمرٌ محسوس... ولذلك تفاضل المساجد في وجود القلب، فقد تجد قلبك في مسجد أكثر منه في مسجد وذلك ليس للتراب، بل لمجالسة الأتراب وهمّهم. ومن لا يجد الفرق في وجود قلبه بين السوق والمسجد، فهو لا صاحب حال ولا مقام..."10. فالبقاع تتفاضل في الشرف ويختلف تأثيرها في القلوب.
1- ثواب الأعمال، الصدوق، ص27.
2- من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص17.
3- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج27، ص291.
4- دعائم الإسلام، القاضي النعمان، ج1، ص148.
5- الكافي، م.س، ج2، ص669.
6- جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج6، ص396.
7- الأمالي، الطوسي، ص696.
8- شعب الإيمان، البيهقي، ج3، ص 487.
9- معجم البلدان، الهمذاني، ص 81.
10- فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي، ج4، ص 323.