الشيخ حسن أحمد الهادي
لقد شغَلَت آياتُ وروايات الجهادِ والقتال حيّزاً كبيراً من القرآن الكريم والسنّة الشريفة. وفي هذا دلالة صريحة على أهميّة الجهاد وموقعه في الشريعة الإسلامية، وحاجة المجتمع والدولة الإسلامية إليه كأحد أهمّ عناصر القوّة التي تؤمِّن حماية البلاد والعباد. ولهذا عندما نستقرئ تاريخ المرحلة المدنية من الدعوة الإسلامية نجد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قاد بنفسه سبعاً وعشرين معركة وغزوة1، وأن عدد السرايا التي أرسلها بقيادة أمير المؤمنين عليه السلام وبعض صحابته تزيد عن الثلاثين على أقلّ الروايات.
* الجهاد والقتال في القرآن
اشتقّت كلمة "الجهاد" من "الجَهْد" و"الجُهْد" بمعنى "المشقّة والعناء"2 وبمعنى "الوسع والطّاقة". وعليه فالجهاد هو بذل الوسع والطّاقة والنّفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين، على وجهٍ مخصوص، في سبيل إعلاء كلمة الإسلام.
ولأجل أن يبيّن القرآن المجيد أهمّيّة الجهاد، عمد إلى مقارنته بخدمة الحجاج وعمارة المسجد الحرام اللذين كانا محلاً للافتخار والمباهاة في الجاهلية، ثم صرّح بأفضلية الجهاد عليهما، حيث قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (التوبة: 19-20).
ويكفي لمعرفة أهمّيّة الجهاد الالتفات إلى ما وعد الله تعالى به من الأجر العظيم، حيث قال تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء: 74). إذ أطلق الله تعالى لفظ الأجر العظيم ولم يحدّد ماهيته وقدره، لكي يوضح لنا أنّ هذا الأجر هو فوق ما يتصوّره الإنسان.
* فضل الجهاد وقيمته في الروايات
لقد أوضحت الروايات الكثيرة أهمّية الجهاد وحقيقته وفضله، منها: أنّ أبا ذرّ الغفاري سأل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله. قال: قلتُ: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: من عقرَ جواده وأُهرقَ دمُه في سبيل الله"3. وفي حديث آخر رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الخير كلّه في السيف، وتحت ظلّ السيف"4. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنه قال: "من مات ولم يغزُ، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبةٍ من نفاق"5.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث بسريّةٍ كان فيها ابن رواحة، وتحرّك الجيش مع الفجر نحو المنطقة المحدّدة، ولكنّ ابن رواحة تخلّف عنه ليصلي وراء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد الصلاة، رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ألم تكن في ذلك الجيش؟ فأجاب: بلى، ولكنّي أحببتُ أن أصلّي خلفك هذه الصلاة ثم ألحقَ بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسُ محمدٍ بيده لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما أدركتَ فضلَ غزوتهم"6.
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال لأحد أصحابه: "ألاَ أُخبرك بالإسلام وفرعه وذروته وسنامه؟ قال: قلتُ: بلى جعلت فداك، قال عليه السلام: أمّا أصله فالصّلاة، وفرعه فالزّكاة، وذروته وسنامه فالجهاد"7.
* الجهاد في الدعاء على لسان الإمام السجّاد عليه السلام
يمكن القول إنّ أدعية الإمام السجّاد عليه السلام، في الصحيفة السجادية، تعبِّر عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام، إضافةً إلى كونها تراثاً ربّانياً فريداً يظل على مرّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب، وتظلّ الإنسانية بحاجة إلى هذا التراث المحمدي العلوي، وتزداد حاجةً كلما ازداد الشيطان إغراءً والدنيا فتنةً"8.
لم تسمح الظروف والحكمة الإلهية بمشاركة الإمام زين العابدين في الجهاد مع أبيه الحسين عليهما السلام في كربلاء، لكنّه لم يفقد فرصة المقاومة من طريق هذه الحربة التي تنفذ إلى أعماق الوجدان، والقابلة للتّغلغُل في أوساط المجتمع، والممكنة في كلّ الظروف، المتمثّلة بالدعاء.
* وقفة مع دعاء أهل الثغور
إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لأهل الثغور -بغضّ النّظر عن الدّولة القائمة على الظلم- يلتمس من الله تعالى أن يحفظ ثغور المسلمين، التي يشكّل حفظها حفظاً للمسلمين وحمايةً لأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وبالنبرة الحادة ذاتها التي يدعو بها لزوال حكم الظالمين، يدعو لاستتباب الأمن والعدل والصلاح على أرض الإسلام. أما أهم المطالب التي اشتمل عليها الدعاء:
1- تحصين ثغور المسلمين: "وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك، وأيّد حماتها بقوّتك، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك".
2- أن يمنحهم القوة وزيادة العدد والعدّة: "وكثّر عدّتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم،... واعضدهم بالنّصر، وأعنهم بالصبر".
3- تزويدهم بالمعرفة والبصيرة: "وعرّفهم ما يجهلون، وعلّمهم ما لا يعلمون، وبصّرهم ما لا يبصرون".
4- تزهيدهم في الدنيا وترغيبهم في الآخرة: "وأَنسِهم عند لقائهم العدوَّ ذكر دنياهم الخدّاعة الغَرور، وامحُ عن قلوبهم خطراتِ المال الفَتُون، واجعلِ الجنَّةَ نُصبَ أعينِهِم ولوِّحْ منها لأبصارهمْ ما أعدَدتَ فيها من مساكنِ الخُلدِ ومنازلِ الكرامةِ والحورِ الحسانِ والأنهارِ المطّردةِ بأنواعِ الأشربةِ والأشجارِ المتدلّيةِ بصفوفِ الثّمرِ، حتى لا يَهُمَّ أحدٌ منهم بالإدبارِ ولا يُحدِّثَ نفسَهُ عن قِرْنِهِ بفرار"9.
5- تأليف قلوب المجاهدين: "وألّف جمعهم ودبِّر أمرهم"10.
6- تحقيق النصر وإضعاف العدو: ينتقل بعبارات جامعة إلى الدعاء على عدوّهم، لتتحقّق الغاية من الجهاد بإضعاف العدو وتحقيق النصر عليه: "اللهمّ افلل بذلك عدوّهم، واقلم عنهم أظفارهم، وفرّق بينهم وبين أسلحتهم، واخلع وثائق أفئدتهم، وباعد بينهم وبين أزودتهم، وحيّرهم في سُبُلهم، وضلّلهم عن وجههم، واقطع عنهم المدد، وانقص منهم العدد، واملأ أفئدتهم الرعب...".
7- إشغال المشركين بعضهم ببعض: "اللهمّ أشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين".
8- الدعاء للمسلم الذي يقدم معونة للمجاهدين: لتحفيز أفراد المجتمع المسلم على تقديم العون للمجاهدين، فعدم القدرة على الحضور في الثغور لا يعفيهم من واجباتهم في الدعم والعون والنصرة من بعيد، بالمال والعتاد ومختلف أنواع المساعدة، وحتى بالدعاء: "اللهمّ وأيّما مسلم خَلَفَ غازياً، أو مرابطاً، في داره، أو تعهّد خالفيه في غيبته، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمدّه بعتاد، أو شحذه على جهاد، أو أتبعه في وجهه دعوةً، أو رعى له من ورائه حرمةً، فأجْرِ له مثل أجره، وزناً بوزن، ومثلاً بمثل، وعوّضه من فعله عوضاً حاضراً يتعجّل به نفع ما قدّم، وسرور ما أتى به"11.
* إرساء قواعد العدل
بالإضافة إلى ما ذُكِرَ منَ الآيات والروايات والدعاء، فإنّ التدقيق في دور الجهاد في الإسلام، ومنزلته بالنسبة لسائر الواجبات الدينية، يطلعنا أيضاً على أهمّيّته وعظمته. فالجهاد الدفاعي سبب في توفير الأمن، والذي في ظلّه فقط يمكن إقامة سائر الواجبات والحدود الإلهية. وفي الجهاد الابتدائي أيضاً رفع للموانع من أجل تبليغ الدين الإلهي، وهو موجب لميل عددٍ من المجتمعات البشرية نحو الدين الحقّ. ومن الواضح أنّه مع تحقّق هذا الميل وازدياد عدد المسلمين يصبح بالإمكان إرساء قواعد حكومة العدل وتنفيذ الأحكام الإسلامية بشكلٍ أوسع.
وباختصار: إنّ تبليغ أصول الدين والعمل بفروعه، وحفظ الكرامات والدماء والأعراض والأرض وسائر المقدّسات مرهون في كثيرٍ من الموارد بأداء هذه الفريضة الإلهية الكبرى.وخير شاهدٍ على هذا في هذا العصر جهاد الثورة الإسلامية في إيران، والمقاومة الإسلامية في لبنان.
1. سيرة ابن هشام، ج4، ص486.
2. تاج العروس، الزبيدي، ج4، ص407-409.
3. بحار الأنوار، المجلسي، ج97، ص11.
4. م.ن.، ص9.
5. صحيح ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص444.
6. فتح العزيز، الرافعي، ح4، ص610.
7. بحار الأنوار، م.س، ج66، ص392.
8. الصحيفة السجادية، مقدمة السيد محمد باقر الصدر، ص15- 16
9. م.ن، دعاء أهل الثغور.
10. م.ن.
11. م.ن ، الدعاء السابع والعشرون.