الشيخ إبراهيم البدوي
جعل الإسلام العلم محط النظر في التمييز بن الحق والباطل في كافة القضايا العقائدية
والسياسية والاجتماعية، ولذلك دعا القرآن في آيات عديدة إلى طلب العلم وإلى القراءة
بالتحديد، فقال عز من قائل:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(1)
وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله، ففي الروايات الكثيرة جداً الواردة عنه
وعن أئمة أهل البيت عليه وعليهم الصلاة والسلام، في ضرورة طلب العلم ما لا يتسع
المجال هنا لذكره.
كانت تلك الدعوة من أقوى العوامل على نشر المعرفة بين المسلمين،
فهبوا جميعاً يطلبون العلم من مظانِّه، فجابوا الأقطار وتعرَّضوا للأخطار، وقطعوا
القارات والبحار، ولم يَدَعوا وسيلة من الوسائل التي توصلهم إلى زيادة معارفهم إلا
تذرَّعوا بها، فعملوا على الاطلاع على ثقافات الأولين، وجمعوا في القرن الأول من
ظهور الإسلام بين علوم القدماء والمعاصرين لهم من الفرس، والهنود، والرومانيين،
واليونانيين، وقاموا بترجمة ما وقع بأيديهم من التراث الفكري الأجنبي، حتى تنافس
العلماء والخلفاء والأمراء في ذلك السبيل. انكبَّ الجميع على القراءة ومطالعة الكتب
المختلفة، وحضور مجالس الدرس واقتناء الكتب وتأسيس المكتبات والدعوة إلى ترجمة كتب
الثقافات المختلفة، فبلغوا بذلك شأواً عظيماً، فأنشأت دور الكتب في كل مصر وبلد
وناحية، وفتحت أبوابها للمتعلمين من الأجيال الجديدة لينهلوا من معينها ويقتبسوا من
أنوارها، واستفادت بذلك الحضارة الفكرية الإسلامية على الحضارات الأخرى ردحاً
طويلاً من الزمن، ولا تزال الأمم تعتمد على أفكارهم وآرائهم إلى يومنا هذا.
* الطريقة المثلى للتعلم
مما لا ريب فيه أن الطريقة المثلى لتلقي العلوم، قديماً وحديثاً هي المطالعة، أي
قراءة الكتب والإطلاع على ما فيها، فهي متوفرة للجميع، وتشتمل على كل أنواع
المعارف، ولا تحتاج إلا لتعلم القراءة، ثم يبدأ المتعلم بزيادة رأس ماله المعرفي
شيئاً فشيئاً من خلال المزيد من القراءة إلى أن يصل إلى أعلى مستويات المعرفة
والعلم. والمطالعة بحد ذاتها فن، فبالإضافة إلى وجود قواعد لها، يضفي عليها المطالع
لمسات من ذوقه وطبعه. فترى لكل شخص طريقة خاصة به، فمنهم من يحب المطالعة في الهواء
الطلق، ومنهم من لا يرغب بها إلا في غرفة مغلقة وضيقة حرصاً على تركيزه من التشتت.
وبعضهم يرى أن المطالعة الجماعية التي تقوم على مبدأ عرض الأفكار التي يقرأها
ومناقشتها أولاً فأولاً هي الطريقة المشجعة على الاستمرار واكتساب الفائدة، ناهيك
عمن يحب المطالعة مع تناول شراب معين أو طعام أو سماع أصوات معينة الخ. وكيف كان،
فإن هناك هدفاً واحداً تشترك فيه كل الطرق والأساليب ألا وهو اكتساب المعلومات دون
الوقوع في فخ الملل والسآمة أو التعب والنصب. إذ إن أعدى أعداء المطالعة السآمة،
وكلما تذوق المرء حلاوة كسب المعلومات والتعرف على الجديد من العلوم كلما ابتعد عن
الملل والضجر، وتحولت القراءة لديه هواية يرغب في ممارستها أطول وقت ممكن أو إلى
لذَّةٍ يحب أن يغترف منها بكل ما أمكنه في مختلف الأوقات والظروف.
* ضرائر الكتاب
على الرغم من وجود الوسائل المختلفة لتحصيل المعلومات في عصرنا هذا وأبرزها
التلفزيون والفيديو ومشتقاتهما، والحاسوب وتوابعه، إلا أن المطالعة من الكتاب
مباشرة لا تزال الطريقة المثلى لنيل العلم واكتساب المعلومات والمهارات والفنون
والاطلاع على التاريخ والحضارات والأديان والأحكام وسائر العلوم، وما إلى ذلك من
اهتمامات بني البشر. والحق يقال، إن وسائل المعرفة العصرية المشار إليها أكثر راحة
للإنسان، خصوصاً التلفزيون، فهي وسائل لا تتطلب في الغالب أكثر من الاستلقاء
والاسترخاء والمتابعة، بينما القراءة تحتاج إلى مزيد من الجهد ومزيد من التركيز
وإعمال الفكر في فهم المطالب والإحاطة بها. كثيرون هم الذين يملون من القراءة
بسرعة، خصوصاً المبتدئين في عالم الثقافة والتحصيل، فإذا تعودوا على متابعة
التلفزيون وجدوا القراءة في غاية الصعوبة، إذ إن الوسائل المعرفية الأخرى مهما بلغت
في منافعها فإنها لا تعدو كونها بديلاً اضطرارياً للقراءة، ومحاولة للتلخيص
والتبسيط والتسهيل، فقد تنجح تارة وقد تفشل أحياناً كثيرة. بل إن البعض لا يعدّها
من وسائل المعرفة أصلاً.
* تراجع المسلمين وتقدم الغرب
ثم إن عموم المسلمين غلب عليهم الفتور والكسل، وانشغلوا عن العلم والمطالعة بشؤون
الحياة المختلفة، فألقى الجهل بينهم رحله، وأخذوا بالتخلف عن ركب الحضارة بينما
تقدمت الأمم الأخرى ممتطية صهوة العلم وما يستتبع ذلك من البحث والتحقيق والاكتشاف
والاختراع، وما زالوا إلى اليوم متمسكين بالكتاب على الرغم من أنهم هم الذين صنعوا
لنا التلفزيون والفيديو والوسائل السمعية والبصرية المختلفة فانشغلنا بها عن الكتاب
بينما تمسكوا به أكثر من السابق. فلا يكاد المرء يزور بلداً أوروبياً إلا ويلفت
نظره عموم الناس في الأماكن العامة يحملقون في كتاب يحملونه بين أصابعهم، وفي
القطار أو الطائرة أو مختلف وسائل النقل بعيدة المدى لا طريقة لديهم لقتل الوقت سوى
المطالعة، فزادُ كل واحد منهم كتابه أو صحيفته بيمنا لا يصطحب أحدنا سوى طعامه
ووسادته.
لاحظ معي كم نسخة من الكتاب الواحد يطبع في بلادنا، وكم يحتاج من الوقت
لينفد، في أحسن الحالات لا يتعدى عدد نسخ أفضل كتاب العشرة الآلاف، ولا ينفد إلا
بعد سنوات، بينما نجد أن مئات آلاف بل أحياناً عدة ملايين من النسخ من الكتاب
الفلاني طبعت ونشرت في أوروبا، ولم تلبث أن بيعت بفترة قياسية. إن هذا مقياس حقيقي
لمستوى الثقافة في البلاد الإسلامية، وبالتالي لمستوى الحضارة التي نتمتع بها في
هذه الأيام. والأغرب من ذلك أن نجد أن الكثيرين من المهتمين بالكتاب يبحثون عن كتب
التسلية أو النكات أو الغذاء أو الأبراج وما شابه ذلك، حتى لو تصفح أحدنا صحيفة ما
فإنه سرعان ما يبادر إلى صفحة التسلية أو يقضي وقته بحل الكلمات المتقاطعة. كل هذا
مما لا ينبغي للمسلم أن يتجاهله كواقع تعيشه الأمة، وعليه أن يكون بقدر المسؤولية
لينهض بها بما يليق بهذه الأمة العظيمة التي قال تعالى عنها في يومٍ من الأيام
﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
* نصائح لا بد منها
من هنا أجد لزاماً عرض بعض النصائح المفيدة في مجال المطالعة:
1 - معرفة قيمة العلم، وقيمة الكتاب، وأهمية المطالعة في بناء الذات. فبدون هذه
المعارف الأولية لا يشعر الإنسان بشوق يشده إلى الكتاب، وبالتالي سيفقد الدافع
القوي الذي من شأنه أن يدفع إلى المطالعة.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك
بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم".(2)
2 - تكوين فكرة موجزة عن موضوع الكتاب الذي نريد أن نطالعه وعن مؤلفه، فكلما كان
الإنسان معجباً بالموضوع أو المؤلف كلما وجد في نفسه صبراً أشد على تحمل متابعة
القراءة إلى النهاية. وعلى العكس من ذلك، فإن مجهولية الموضوع ومقام المؤلف يضعف
لدينا الداعي ويسرع إلى النفوس الملل والضجر.
3 - إلقاء نظرة متأنية على الفهرست لمعرفة المواضيع الفرعية التي يحتويها الكتاب،
فربما يكون فيه ما يشد اهتمام القارئ فيساهم بإيجاد الدافع لمتابعة القراءة للوصول
إلى المعرفة المتوخاة في هذا المجال.
4 - القراءة بهدوء وبتأمل وتفهم دون العبور السريع على الأفكار والتصفح الشكلي. فإن
هضم المعلومات التي نقرأها يمهد لطلب معلومات جديدة، بينما تراكم المعلومات دون
فهمها جيداً يصيب الذهن بالإرتباك كما تصيب التخمة المعدة به.
يقول البروفسور فيل رايس:
إن التأني والتدقيق في المعلومات التي تعلمتها أفضل من الاندفاع نحو معلومات أخرى
على أن يبقى ما تعلمته في الذهن.(3)
5 - تسجيل الملاحظات، وتقييد أهم الأفكار على الصفحة الأولى من الكتاب، وهي عادة
صفحة بيضاء تترك عمداً، فإن ذلك يسهل على القارىء مراجعة الأفكار التي قرأها عند
الحاجة إليها، ويذكِّره بما قرأه في الكتاب، فيساعد على حفظ المطالب في ذهنه. قال
رسول الله صلى الله عليه وآله في بيان فضيلة الكتابة: "قيّدوا العلم. قيل وما
تقييده؟ قال: كتابته"(4). وعندما شكى له رجل من الأنصار كان يجلس إليه فيسمع
الحديث ويعجبه ولكن لا يحفظه قال صلى الله عليه وآله: "استعن بيمينك". وأومأ
بيده، أي خُطّ(5). ويقول البروفسور رايس وهو يتحدث عن أهمية وجدوى التلخيص: اكتساب
مهارة التلخيص شأن مهم وحيوي للطلاب، ولا تكتسب هذه المهارة إلا بالممارسة والتمرين
المستمرين، وهي تعينك على اختزال الوقت الذي تحتاج إليه المراجعة، وتلخيص المادة
يعينك على الالتفات إلى الموارد المهمة والأساسية فيها، ويساعدك على تجنب هدر الوقت
والجهد في مطالعة أمور لا طائل تحتها(6).
6 - تأمين لوازم الراحة ومختلف المرغبات المباحة التي تحمل المطالع على الاستمرار
لوقت أطول في القراءة. فالمطالعة مع فنجان من الشاي أو القهوة، أو على كرسي مريح،
أو وراء طاولة ملائمة أو في حديقة عامة أو مكتبة هادئة وما شاكل ذلك أيسر وأسهل،
وتعطي المزيد من التركيز والراحة.
7 - من المفضل أن يُدخل القارئ المعلومات التي قرأها وفهمها في ثقافته، وذلك بأن
يتحدث عن الأفكار التي تعلمها، ويعرضها للآخرين، ويتناقش معهم فيها، فإن شعوره بأنه
حصل على جديد، وأنه تحول من لون من ألوان الجهل إلى لون من ألوان العلم، وأنه بات
يمتاز عن غيره بما اطّلع عليه، وما توصل إليه يحبب إليه الإقبال على المزيد من
التعلم والتتبع. فهل نستمع إلى دعوة الإسلام في طلب العلم، ونحمل أنفسنا على مصادقة
الكتاب بعد عداءٍ طالت مدته؟...
(1) سورة العلق، آية 1 4.
(2) الكافي الشيخ الكليني ج1، ص52.
(3) الدليل إلى طرق الدراسة، فيل رايس، دار الهادي، ص12.
(4) كنز العمال ج10، ص249، ح29332).
(5) سنن الترمذي ج5، ح2666، وتقييد العلم للخطيب البغدادي، ص67.
(6) مصدر سابق، ص36.