صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

نزول الحكم الإلهي بفريضة الحج‏: 8 ذو القعدة عام 8 للهجرة


الشيخ مالك وهبي‏


قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(1). تشير الآيات إلى تشريع حكم الحج، وهو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام كما استفاضت بذلك الروايات وتواترت، مع ربط له بكون البيت الحرام أول بيت وضع للناس، والمقصود به هنا، الوضع للعبادة لا أول بيت شيد وإن كان هذا المعنى أيضاً محتملاً، لكن مناسبات القضية وسياق الآيات يفيد أن الغرض بيان فضل هذا البيت من حيث كونه مباركاً وهدى وليس المقصود إبراز قضية تاريخية بحتة من حيث إنه أول بيت شيد، إذ قد لا يكون لهذا الأمر أهمية في سياق القضية.

وإذا لاحظنا ما يذكره المفسرون في مناسبة نزول هذه الآية مثل ما حكاه الشيخ الطبرسي عن مجاهد أنه قال(2): تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء، والأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى: ﴿ِانَّ أَوَّلَ بَيْت. نجد أن القضية ذات علاقة باليهود الذين بهتوا بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وقد أثار هذا الموضوع جدالات واسعة بين المسلمين واليهود الذين أخذوا يلقون الشبهات وادعاء أنّ تحويل القبلة مناف لشريعة النبي إبراهيم عليه السلام وكيف لا يكون كذلك وقد كانت قبلة النبي إبراهيم عليه السلام بيت المقدس. ولذا كان الجواب في هذه الآيات بهدف رفع هذه الشبهة، فالبيت الحرام كان أسبق من بيت المقدس في كونه مكان عبادة، وقد بناها إبراهيم عليه السلام لهذا الهدف وفي الكعبة ما يدل على ذلك ﴿آيات بينات كمقام إبراهيم وأما بيت المقدس فقد بناه سليمان عليه السلام وهو بعد إبراهيم عليه السلام بقرون فالشريعة الإبراهيمية الحقة إذن هي التي تعترف بالكعبة رمزاً للعبادة ومكاناً لعبادة الله تعالى. والمراد ببكة حسب ما يذكر المفسرون أرض البيت أو مكة أو الحرم أو المسجد الحرام. وهو بيت مبارك في الدنيا والآخرة وهدى للناس يوصلهم إلى كمالهم وسعادتهم ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.

وقد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم عليه السلام بعد الفراغ من بنائه، ففي سورة البقرة: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ .. وفيها ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ إذن هو بيت يهيأ لأمر عظيم، يكون ملجأً وملاذاً ومقصداً لأهل العبادة. وقال في سورة الحج مخاطباً النبي إبراهيم عليه السلام "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" وهو أذان عام صدر حين لم يكن في الوادي أحد فهو إذن موجه إلى كل الخلق عبر كل العصور، وقد وعدت الآية بأنه سيلبَّى من الناس القريبين والبعيدين. ويذكر العلامة الطباطبائي أيضاً أن القرآن قد دل أيضاً على أن هذا الشعار الإلهي كان معروفاً لدى الناس في زمن النبي شعيب عليه السلام كما تجلى ذلك فيما حكاه الله في سورة القصص عنه في قوله لموسى عليهما السلام "إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك" لأن الحجج جمع حجة وهي الحج كل سنة مرة، فصار يطلق على السنة حجة. ولذا نجد استقرار تعظيم البيت في عرب الجاهلية، فهم يعرفون أنه من شريعة إبراهيم بما تواتر إليهم من الأجيال السابقة وحفظ إلى أن وصلهم وإن طرأت عليه بعض التعديلات حتى جاء الإسلام وصوّبها. وقصة أبرهة معروفة تدل على أن صيت هذا البيت قد وصل إلى الأقاصي وإن احترامه وتعظيمه كان شاملاً عاماً. وفي تفسير العياشي (ج‏1 ص‏186) عن زرارة قال: سئل أبو جعفر عليه السلام عن البيت أكان يحج إليه قبل أن يبعث النبي عليه السلام؟ قال: "نعم إن الناس قد كانوا يحجون ونخبركم أن آدم ونوحاً وسليمان قد حجوا البيت بالجن والإنس والطير ولقد حجه موسى على جمل أحمر يقول: لبيك لبيك فإنه كما قال الله تعالى ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ .

 فإذا كان تشريع الحج قد سبق الإسلام فقد جاء الإسلام ليؤكد هذا التشريع ولذا جعل من آيات البيت ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وهي آية على جعله مقصداً للعبادة. فقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أخبار عن صفة من صفات البيت، تتضمَّن تأكيداً لتشريع الحج وبياناً لوجوبه. فليس المراد بالآيات هنا المعجزات، بل الدلالة على عظمة هذا البيت وتفضيله على بيت المقدس، وعلاقة هذا البيت بالشرع الإبراهيمي. ثم إنه ليس المراد من جعله آمناً إلا تشريع ذلك من خلال تحريم هتكه وإيذاء أحد فيه ولم يستثن من ذلك إلا من أتى بجرم في الحرم. وليس المراد أن يد المعتدين غير قادرة على إلحاق الأذى بالناس فهذا غير مقصود، ولذا جاء جعله آمناً كاستجابة لدعوة النبي إبراهيم عليه السلام: "رب اجعل هذا البلد آمناً" فكان الجواب بجعله كذلك تشريعاً لا تكويناً.

خاصة وأن التاريخ والحاضر يؤكدان أن الناس قد أخلت بهذا التشريع فلم يكن المكان الآمن بسبب ذلك في جملة من المراحل التاريخية، وليس فيما جرى من أحداث ما ينافي هذه الآيات لما بيّنّا. وقد روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع (ج‏1 ص‏89): بسنده حواراً بين الإمام الصادق عليه السلام وآخرين جاء فيه، أن الإمام عليه السلام قال لبعضهم: فاخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ أين ذلك من الأرض؟ قال أَحْسبه ما بين مكة والمدينة، فالتفت أبو عبد الله عليه السلام إلى أصحابه فقال: تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة ومكة فتؤخذ أموالهم ولا يؤمنون على أنفسهم ويقتلون؟ قالوا نعم، قال فسكت أبو حنيفة، فقال يا أبا حنيفة أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا أين ذلك من الأرض؟ قال: الكعبة قال أفتعلم أن الحجاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في الكعبة فقتله كان آمناً فيها؟ قال: فسكت. نعم ربما كان للأمر علاقة ببعض الأمن التكويني من جهة بعض الحيوانات المفترسة كما تدل عليه بعض الروايات، فقد روى الحر العاملي في وسائل الشيعة (ج‏9 ص‏175) بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه السلام، وقد سأله بعض الرواة عن قول الله عز وجل "ومن دخله كان آمناً" البيت عُنِي أو الحرم؟ فقال عليه السلام: "من دخل الحرم من الناس مستجيراً به فهو آمن من سخط الله عز وجل ومن دخله من الوحش والطير كان آمناً من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم".

إلا أن أمن الناس من بعضهم البعض أو أمن الحيوان الأليف من الإنسان لم يكن تكوينياً بل تشريعياً كما يفهم ذلك من كثير من الروايات، مثل ما رواه الحر في الوسائل (ج‏9 ص‏339) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا قال: "يأمن فيه كل خائف ما لم يكن عليه حد من حدود الله ينبغي أن يؤخذ به"، قلت: فيأمن فيه من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً؟ قال: هو مثل من مكر "يكر خ ل" في الطريق فيأخذ الشاة والشي‏ء فيصنع به الإمام ما شاء قال: وسألته عن طائر أُدخل الحرم، قال: لا يؤخذ ولا يمس لأن الله يقول: ومن دخله كان آمناً.


(1) سورة آل عمران، الآيتان: 96 و 97.
(2) مجمع البيان، (ج 2، ص‏347).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع