نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

منبر القادة: مدينة النبي وكلمة سواء


الشهيد السيّد عباس الموسوي قدس سره


كانت ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في المدينة، وما رافق هذه الولادة من معجزاتٍ، وحياً لكلِّ الناس، بأنَّ هناك ولادةَ مستقبلٍ جديدٍ ينتظر الجميع.

*ولادة مباركة ومعجزات مبشّرة
نحن نعرف أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وُلد عام الفيل، العام الذي حصلت فيه المعجزة الكبرى، الصِّدام بين طيور الأبابيل التي كان سلاحها حجارةً من سجيل وبين الجيش العرمرم الذي كان زاحفاً من اليمن لهدم الكعبة المشرّفة. في ذلك العام، وُلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبنفس اللحظة التي وُلد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تضعضع وتزلزل إيوان كسرى في المدائن في العراق. هذه المعجزات كانت مؤشراً كبيراً على أنّ هذه الولادة تبشِّر بمستقبلٍ كبيرٍ للبشرية.

سوف نختصر، بكلماتٍ، مسألة من المسائل الأساسية التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي حياته في المدينة المنورة، وعلاقته مع أهلها.

*أهل المدينة يستقبلون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما ضاقت عليه الأرض بما رَحُبَت في مكة، وفي الطائف، رأى أنَّ الملجأ الوحيد للرسالة وللدعوة هو المدينة المنورة، فاختار المدينةَ وهاجر إليها. ينقل التاريخ أنَّ أهل المدينة كلهم، رجالهم، ونساءهم، صغارَهم، وكبارَهم، خرجوا لاستقبال الرسول الأعظم. يعني أنَّ هناك حالةً شعبية كبيرة في المدينة خرجت لاستقبال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. أكثر من ذلك، يقول المؤرخون إنَّ اليهود الذين كانوا يسكنون المدينةَ المنورة، كانوا من جملة المستقبلين. هذا يعني أنّه لم تبق فئة من فئات الناس إلّا وخرجت لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. طبعاً من حقِّنا أن نسأل عن الأسباب والدوافع التي دفعت كلّ هذا المجتمع بكلِّ عناصره للخروج لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اليهود، مثلاً، لم يدخلوا في الإسلام، فلماذا خرجوا لاستقبال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟

يقول بعض المحلِّلين: لعلَّ هدف اليهود من وراء استقبالهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هو أنهم كانوا يعيشون حُلماً خاصّاً، وهو العودة إلى بيت المقدس، الذي كان تحت الاحتلال النصرانيّ، في تلك المرحلة. وكان اليهود يعتبرون أنَّ بيت المقدس سُلب منهم، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوف يشكِّل قوة عسكرية جديدة على مستوى المنطقة، لماذا لا يتعاملون معه لتحقيق حلمِهم؟ هذه المسألة كان يطمع بها اليهود، لذا خرجوا لاستقبال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. الجماعات الأخرى ولا سيما من الأوس والخزرج خرجوا لاستقباله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل إعزاز الرسالة الجديدة والرسول الجديد. المهمّ، خرج الناس جميعاً لاستقبال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ولكن بأهدافٍ مختلفة.

*معاملة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأهل المدينة
دخل الرسول إلى المدينة، وأراد أن يتعامل مع هذا المجتمع الذي استقبله على أبوابها، فكيف تعامل معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ سوف أذكر أسلوبين أو حالتين من حالات التعامل التي تعامل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع مجتمع المدينة المنورة:

أ- الحالة الأولى، هي تعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع المجتمع المدنيّ ككلّ، يعني مع مجتمع يثرب والمدينة ككلّ، على مستوى التعامل العامّ.

ب- الحالة الثانية، تعامله مع الفئة المؤمنة، الفئة التي كانت تخلص لهذه القيادة الجديدة.

في الحالة الأولى جمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس ووقّع وثيقة مكتوبة ومعاهدات بين الأوس والخزرج، بين المهاجرين والأنصار، وبين المجتمع الإسلاميّ وبقية الفئات لا سيَّما اليهود (في المدينة المنورة: بنو قينقاع، وفي جوار المدينة المنورة: بنو قريظة، وبنو النضير ويهود خيبر الذين كانوا يسكنون إلى شِمال المدينة المنورة). المهم، وُقِّعت هذه الوثيقة.

*الوثيقة دستور المدينة المنوّرة

سوف نتحدّث عن بندٍ من بنود تلك الوثيقة، وفيه أن لليهود ديانتهم، وللمسلمين ديانتهم. هذا البند اعتُبِر وثيقة بين المجتمع المسلم داخل المدينة وبين اليهود. والوثيقة اعتُبِرت دستور المدينة المنوّرة، فخلقت جواً من الاستقرار والطمأنينة في المجتمع، وأصبح يشعر الإنسان أنَّ هناك تبدُّلاً كبيراً قد حصل في واقع المدينة المنوّرة الذي كان فيه ما فيه من النزاع بين الأوس والخزرج، والخلافات بين العرب من المشركين وبين اليهود، وتمّ عبر الوثيقة المكتوبة نوعٌ من الاستقرار أيضاً بين اليهود والمسلمين من جهة، وبين الأوس والخزرج من جهةٍ أخرى.

هذا النحو من الاستقرار أشعر اليهود أنَّ هناك مجالاً للتحرّك، لأنَّ مثل هذه الوثيقة، من حيث المغزى والمفاد، عبارة عن إعطاء حرية العقيدة والاعتقاد. وقد حاول اليهود أن يستفيدوا من ذلك لمصالحهم ومآربهم، ففتحوا باب الحوار مع المسلمين.

* "لولا العهد"
كان اليهود يتمتَّعون بمكانةٍ اجتماعية أرقى من المكانة التي كان عليها الناس المشركون في المدينة المنوّرة. أهلُ المدينة كانوا أميِّين في الغالب، بينما اليهود أهل كتاب، وعندهم قدرة على الحوار، وقدرة على دسِّ الأحاديث، وعندهم قدرة على إقناع الآخرين بأساليب دينية، لذلك حاولوا بكلِّ الوسائل أن يشيعوا بعض الأفكار المسمومة بين المسلمين. أيُّ حادثةٍ أو فكرة كان يقولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ كان يلقى من قِبَل اليهود نحواً من التشويش على أفكاره، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقابلهم بصبرٍ كبير، ويفتح أمامهم مجال الحوار واسعاً، دون أن يسمح لأيّ مسلمٍ بالاعتداء عليهم.

أنقل مثلاً صغيراً حصل من خلال حوارٍ من قِبَل أحد المسلمين مع يهوديّ، انتهى بقول اليهوديّ للمسلم: "نحن لسنا فقراء إلى الله، وإنّما هو الفقير إلينا، ونحن الأغنياء". وكان قد أخذ يتطاول في مقام الحوار على الباري تعالى، فما كان من المسلم إلّا أن لكمه بيده، وقال له: "لولا العهد الذي بيننا وبينكم؛ لقطعت رأسك". "لولا العهد" يعني أيّ إنسانٍ مسلم كان يعتبر أنَّ هناك عهداً بين المسلمين وبين اليهود، لا يجوز نقض ذلك الميثاق، إلى أن وصلت المسألة حتّى أصبح جوُّ المدينة المنورة جوَّ حوارٍ، وجوَّ حرية.

*جوّ حرية وحوار
ضمن هذه الأجواء، جاء وفد من نصارى نَجْران، من علماء الدين المسيحيّين، إلى المدينة لمحاورةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. هذا معناه أنَّ حريةَ العقيدة والفكر التي شاعت ضمن أجواء المدينة المنورة، خلقت جواً يشعر معه الجميع بحماية العقيدة، هذا ضمن إطار قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 256). وكان ربُّ العالمين يؤكِّد على هذه الحقيقة من خلال الكثير من الآيات، والتي منها قوله: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله (آل عمران: 64). ضمن هذه الأجواء التي أحْدثَهَا الإسلام، وأحدثتها الرسالة الإسلامية الجديدة، حاول اليهود، بطريقتهم الخاصة، أن يشوِّشوا على الرسالة، وأن يتآمروا على الإسلام. وبعدما شعروا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لن يخدمهم في هدفهم تحرير القدس من النصارى شعروا باليأس.

أكثر من ذلك، خافوا من جوِّ الحوار الذي أشاعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة، ومن أن يجذب هذا الجوّ الكثير من اليهود، لأنَّ أكثر عوامّ اليهود أخذوا يستمعون إلى كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وخافوا عليهم من أن يلتحقوا بديانة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك أخذوا يؤلِّبون الناس على الرسول. بنو قريظة من داخل المدينة المنورة نقضوا عهدهم، واستعدُّوا لفتح ثغرة جديدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من داخل المدينة. آنذاك رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أمام واقعٍ جديد لا يسمح بإعطاء ولو أقلِّ الفُرص لليهود، ففتح النار عليهم وابتدأت معركته معهم، ولم تنتهِ إلا بتصفيتهم نهائياً من الجزيرة العربية.

*منطق الإسلام وروح القرآن
هذه المسألة مهمّة من أجل أن نستفيد من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لواقعنا، ولحياتنا التي نعيشها في العالم.

في الواقع، نحن لا نرفض فكرة التعايش مع الآخرين؛ فهذه المسألة هي من منطق الإسلام، وهي من روح القرآن الكريم، وهي الحالة الأولى من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال تعامله مع مجتمع المدينة ككل، بما فيه المجتمع اليهوديّ، والفئات الأخرى التي كانت تعيش مع المسلمين في الجزيرة العربية، أو على الأقلّ في المدينة المنورة.


(*) الجزء الأول من الخطبة، تاريخ 8/12/1984.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع