كنا قد تحدثنا عن الطرق الثلاث لمعرفة النبي وهي: إخبار الأنبياء السابقين، النظر في سيرة النبي ودعوته، والمعجزة، وذكرنا أن المعجزة لا تبقي للناس على اختلاف طبقاتهم أي عذر أو ذريعة، فهي حجة تامة بالغة، فهل يوجد لرسول الإسلام محمد بن عبد الله معجزة تثبت صدق دعوته أم لا؟
* المعجزة الخالدة
إن أكثر المعاجز التي جاء بها الأنبياء كانت محدودة، بمعنى أن هذه المعاجز كانت حجة على عدد محدود من الناس ولا تصلح لأن تكون حجة على جميع الناس في كل عصر ومصر. ومنها عصا موسى عليه السلام وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام وناقة صالح ونار إبراهيم (عليهم السلام). كما أن الكثير من معاجز الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من هذا القبيل كانشقاق القمر وتسبيح الحصاة وتسليم الشاة وامتثال الشجرة لأوامره.
وهذه المعاجز وإن كانت حجة بالغة في وقتها إلا أنه بديهي أنها ليست حجة على الناس في هذا العصر، ولما كان الإسلام خاتم الأديان ومحمد خاتم النبيين، وجب أن تلازمه معجزة خالدة بخلوده وباقية ببقائه، تكون حجة على جميع الناس على مر العصور، فكان القرآن الكريم.
* وجوه الإعجاز
لا يمكن لأي عالم، مهما بلغ علمه، أن يحيط بجميع وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : "ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره...". ولذا فمن الأفضل أن نتحدث عن وجوه إعجاز في القرآن، لا وجوه الإعجاز، بما يتسع له المجال.
كانت العرب تعرف بقوة في البيان لا تضاهى، وسرعة في البداهة لا تجارى، وكانوا أصحاب همة وعزيمة، وحمية وعصبية وقد تحداهم القرآن على الإتيان بمثله، وبلغ الغاية في التحدي عندما قرع آذانهم ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ﴾، (البقرة24)، ومع ذلك بان عجزهم وضعفهم، يقول الطبرسي: "إن كل فعل لا يقع من فاعله، مع توافر دواعيه، وقوة بواعثه عليه، فإنه يدل على تعذره، ومع شدة حاجة العرب إلى المعارضة لم يقع منهم مثل ما جاء به القرآن فكان ذلك دليلاً على تعذره".
فما هي بعض هذه الوجوه الإعجازية التي تفرد بها القرآن الكريم؟
1- الفصاحة والبلاغة
بلغت العرب شأواً بعيداً في أساليب البلاغة وفنون الأدب، بحيث لم يذكر التاريخ لأمة من الأمم عنايتهم في كمال البيان، وجزالة النظم، وسهولة المنطق وحسن اللفظ كما ذكر عنهم، وكان كلامهم، على اختلاف فنونه، إما شعراً أو نثراً، وقد جاء القرآن بكلام قرن بين الإيجاز والبلاغة، والبيان والفصاحة وهو بلسان عربي مبين، ليس شعراً ولا نثراً، يفهمه العرب، وهو خارج عن مألوفهم وتحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا إلا النفور والالتجاء إلى خوض الحروب، وبذل الأنفس والأموال لصد دعوته، دونما جرأة على مجاراته، وكانوا ينهون الناس عن الاستماع إليه ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ (فصلت26) ويأمرونهم بأن يضعوا أصابعهم في آذانهم لما كان له من تأثير عجيب على نفوسهم، حتى قال كبيرهم- الوليد بن المغيرة- بعدما سمع شيئاً من آياته "لقد سمعت كلاماً لا يشبه كلام المخلوقين، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمغدق وإن أسفله لمثمر وإنه ليعلو ولا يعلى عليه".
2- عدم وجود الاختلاف فيه
يقول تعالى ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾. (النساء: 82).
فعلى الرغم من تنزل القرآن نجوماً على مدى ثلاث وعشرين سنة لا يوجد فيه أي اختلاف، لا من حيث المضمون حيث نجد انتظام المعاني وترابطها سواء في أصول العقائد أو مسائل الأخلاق أو قوانين التشريع وغير ذلك، ولا من حيث الأسلوب الذي حافظ على قوة إيحائه وصلابة روحه مهما تغيرت الظروف، فالآيات التي نزلت في أوقات الشدة والاضطهاد مثل ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ (الروم: 60)، لا تقل شأناً في القوة والمتانة عن الآيات التي نزلت في عهد الجهاد وكثرة الأنصار ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ (التوبة: 73).
3- أمية الرسول
لو سلمنا جدلاً إمكانية صدور كلامٍ مثل القرآن من إنسان عالم وأديب، فما لا يمكن التسليم به أن يصدر هذا الكلام وهو قمة في الفصاحة والبلاغة من إنسان أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يعهد منه طيلة حياته أن اختلف إلى العلماء أو اقتبس من علومهم شيئاً، ومن هنا، يعتبر القرآن أن أمية الرسول نافية لأي شك أو ريب في حقانية دعوته وصدقها، يقول تعالى: ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (العنكبوت: 48)، وفي مكان آخر يقول: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (يونس:16).
4- المواضيع العلمية
لم يكن القرآن كتاباً علمياً، ولكنه تعرض لإشارات علمية أذهلت العلماء الطبيعيين لما فيها من الدقة بحيث تنطبق انطباقاً تاماً على أحدث النظريات العلمية التي لم يكن من الممكن التصديق بها بل وتصورها قبل 1400 سنة.
ومن هذه الآيات الشريفة: الآية 30 من سورة الأنبياء ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾. وفيها إشارة إلى كيفية نشوء الكون (أو المجموعة الشمسية) وأنها كانت كتلة واحدة في الأصل ثم انفصلت الأجرام عن بعضها البعض تدريجياً كما فيها إشارة إلى أصل الحياة وهو الماء.
وفي الآية 125 من سورة الأنعام ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ وفيها إشارة إلى انخفاض نسبة الأوكسجين كلما ارتفعنا عن سطح الأرض.
وفي الآية 22 من سورة الحجر ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ إشارة إلى دور الرياح في هطول الأمطار ونقل لقاح النبات.
وفي الآية (1) من سورة النجم ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ إشارة واضحة إلى أن النجوم لها ولادة ونمو ثم موت كسائر المخلوقات الحية.
وفي الآية 30 من سورة النازعات ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ إشارة إلى بيضاوية الأرض لأن الدحية هي البيضة.
وفي الآية 49 من سورة الذاريات ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ إشارة إلى أن الزوجية منبثة في كل الموجودات من حيوانات ونباتات وجمادات، وحتى الذرة فيها الإلكترون السالب الشحنة والبروتون الموجب الشحنة.
والمواضيع العلمية المشار إليها في القرآن كثيرة نكتفي بما أوردنا حيث أخذنا منه مقدار الحاجة.
انطوت السور القرآنية على كثير من إخبار القرون الأولى والأمم الغابرة والشرائع الدائرة منذ بدء الخليقة حتى بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، في وقت لم يكن يعرف القصة الواحدة إلا المتفرغ من أحبار أهل الكتاب.
فقد عرض القرآن الكريم قصص الأنبياء جميعاً وسرد وقائعها وصور مشاهدها كأنك تشاهدها أمام عينيك، وأزال الغبار عن الدسائس والافتراءات وأبطلها جميعاً. ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا .....﴾ (هود: 49).
كما أن القرآن أخبر بوقوع أحداث مهمة وقد وقعت جميعاً كما أنبأ دون أدنى خلاف، فمنها الآيات (2 و3 و4) من سورة الروم ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ وقد وقع الغلب للروم في أقل من عشر سنين كما تفيد كلمة ﴿بِضْعِ﴾.
وفي الآية 45 من سورة القمر ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ وقد انهزم جمع المشركين في بدر على ما في المسلمين من الضعف والقلة.
وفي الآية 27 من سورة الفتح ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ﴾ وقد حصل ذلك في عام الفتح.
كانت هذه نبذة وجيزة عن وجوه الإعجاز في القرآن الكريم وهي لا يمكن حصرها أو الإحاطة بها، إلا أنه في الختام لا بد أن نشير إلى أن الإمام الخميني قدس سره يرى أن أعظم وجوه الإعجاز في القرآن الكريم على الإطلاق أنه الكتاب الأوحدي الحاوي لجميع مراتب الهداية الإلهية، فالقرآن أساساً هو كتاب هداية ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 2)، وقد جمع بين دفتيه جميع المراتب الممكنة واستحق بذلك أن يكون الكتاب الأبدي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسوف يبقى كما أخبر الأمير عليه السلام "بحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون".