بلال اللقيس
لا غرو أن الإساءة لرسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم التي توالت في العقد الأخير، وفي السنوات الأخيرة منه بالخصوص، تستوقف كل مراقب ومتبصر.. وغدا مجافياً للمنطق والعقل السليم محاولات تبسيط خلفيّات هذه الحوادث والتقليل من أبعادها.. وهذا ما ابتلي به بقصد أو بجهل بعض عالمنا الإسلامي وأحياناً بعض نخبه.
* لا لتبسيط الحدث!
وإذ كنا في هذا المبحث نعي ما يحمله المترَفون والمفسدون في الأرض من أحقاد واغرة تجاه قيم السّماء وما هو مقدس، والحسد الذي يحيطهم تجاه نبيّ الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته الخاتمة التي أتت لتتوّج جهود الأنبياء عليهم السلام وتؤسس بالتجربة الواقعية والنموذج الحي لقوة مشروع الحق وقيم الدين الحنيف وقدرته على مواجهة الباطل وإسقاط زيفه في حركة التاريخ.. وبناء المستقبل، فإننا نعارض بعض من ذهبوا للتخفيف من الحدث، وتبسيط خلفياته. خاصة، وأن الحدث أتى في أجواء ذكرى أيلول التي استهدفت "الولايات المتحدة الأميركية" التي اتهم فيها الإرهاب (الإسلامي)، وفي أجواء زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية (البابا بيندكتوس السادس عشر إلى المشرق) وما رافقها من مقدّمات ترتبط بطبيعة الخطاب الكنسي المستجدّ.
إذاً، إنّ توقيت الحادثة يؤشر لضرورة تفسير أعمق وأبعد لخلفيات هذه الحوادث... إذ نحتاج لملاحظة جملة معطيات ثقافية مستجدة بين فضائنا الإسلامي والغرب وظروف سياسية غائمة تعيشها الصهيونية ومن يتبناها ويتحالف معها في لحظة مأزق تاريخي لم تشهده منذ التأسيس.
بناءً على ما تقدم، سننتهج في تحليلنا الاقتراب بالتوازي بين عنصري الثقافة والبيئة السياسية والاستراتيجية المحيطة بالكيان الغاصب "إسرائيل" سمة العقد الأخير.
*فشل الأحادية
على أثر انهيار الاتحاد السوفياتي، واتجاه النظام الدولي إلى القطبية أو الأحادية الأميركية رأى المشروع الصهيوني أن فرصته قد حانت، ورمى بثقله في أحضان الرؤية الجديدة للأمن العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. وصاغت "إسرائيل" نظريتها لأمنها القومي وفقاً لهذه الرؤية الجديدة..
والرؤية العالمية الجديدة أو المنظور الجديد للأمن العالمي بالنسبة لأميركا وحلف شمالي الأطلسي مفتاحه الدور الطليعي لـ"إسرائيل" في مكافحة الإرهاب، والدول المارقة في المنطقة.. وعلى هذه الرؤية ومن ضمنها صغّرت "إسرائيل" نفسها لتحقيق الهدف، وبدأ يتراءى لها أن الحلم الصهيوني غدا قاب قوسين من التحقّق وتزعّم المنطقة بأكملها.
ومعلوم أن الإرهاب الآنف الذكر هو المرتبط بالمسلمين، وهو ما ركّزت الصهيونية خطابها داخل المجتمعات الغربية عليه، وقدّمت نفسها الكيان الوحيد في المنطقة الذي هو على شاكلة الغرب وقيمه.
* التصادم مع الإسلام
وغني عن القول إن الأطروحات الفكرية التي صدرت في الغرب بعيد الحرب العالمية الثالثة (أو ما عرف بالحرب الباردة) كرّست التصادم الحتمي مع الإسلام وأشبعت المجتمعات الغربية ضخاً إعلامياً في خطابها. ونؤكد دور اللّوبيات الصهيونية وفاعليتها في الغرب وكيف استغلّت هذه العناوين أبعد استغلال ممكن.. إلّا أنّ هذه الرؤية ما لبثت أن اصطدمت بما لم يكن بالحسبان، فوجئت "إسرائيل"، كما أغلب شعوب العالم ودوله، بتراجع، بل بفشل الولايات المتحدة الأميركية ونظام القطبية الأحادية، وبالتالي قدرة أميركا على إدارة وتوجيه الشأن العالمي، وفي قلبه المنطقة العربية خلال العقد الأخير.
* مأزق الكيان الصهيوني
وأُتبعت الإخفاقات الأميركية بالأزمة المالية التي سرعان ما تحوّلت إلى أزمة اقتصادية واجتماعية، ضربت بأسس النموذج الغربي الذي طالما قدَّم نفسه للآخرين من مدخل الرفاه والاقتصاد لتظهر تناقضاته وتهافت قيمه وعمق أزمته.. وطغت على السطح التناقضات العميقة التي لم تكن بائنة لعموم الناس. في مقابل تراجع الحضور والنفوذ الأميركي في منطقتنا، تقدم كما بات معلوماً محور المقاومة بحلقاته المتعددة وحقّق إنجازات كبيرة على هذا الصعيد بما عُرف بقوس الصعود في الأدبيات السياسية.
كل ذلك كان له كبير الأثر في واقع ومستقبل المشروع الصهيوني وكيان "إسرائيل" وازدياد هواجسه. والمستجد الملفت، أن الصهاينة وللمرة الأولى ربما بدأوا يتحدثون في محافلهم ومؤتمراتهم الرئيسة عن "حرب طرية" تُشَنُّ عليهم من قوى المجتمع المدني في الغرب، ويتلمسون تحوُّلاً تدريجياً في المجتمعات الغربية اتجاه الصراع العربي الإسرائيلي وأهمية القضية الفلسطينية.
* الثورات العربية والمستجدات الثقافية
الثورات العربية "الديمقراطية" أفرزت، فضلاً عن النتائج المباشرة على الصعيدين السياسي والأمني في منطقتنا اتجاه إسرائيل، نتائج استراتيجية على ساحات أخرى، وأقصد بها المجتمع الأوروبي والغربي عموماً مفادها أن الطروحات الثقافية التي عاشها الغرب، وقادتها نظرية هانتنغتون1 سقطت، وهذا سيفسح المجال تدريجياً بشكل أو بآخر فرصة تلاقي واقتراب مع المجتمع الغربي.
بذلك تتجه "اسرائيل" لتفقد أحد مرتكزات تأليب الرأي العام الغربي على العرب والمسلمين ولو بالظاهر، وهي الديمقراطية.. وهذا ما سيكون على حساب دور "اسرائيل" بحساب الربح والخسارة الذي يعمل به الغرب على المديين: المتوسط والبعيد... الظاهر أنه بقي أمامها شعار الحرية الذي طالما قدمت نفسها على أنها راعيته الوحيدة في المنطقة فعليها أن تظهر المسلمين كجهات لا تؤمن بالحريات وحرية الرأي والتعبير... إنها رسالة إلى المجتمعات الغربية التي بدأت تقترب أو ستقترب بعد حين. ويناقش بعضهم في سعي الصهيونية اليوم لاستغلال الحالة الشوفينية2 المتنامية في "الغرب" ومحاولة لتعميق الفوبيا اتجاه المسلمين ورموزهم فضلاً عن تقديم الجالية المسلمة في الغرب كتهديد.
* أوروبا أمام خيارين
وهُنا يمكننا المجادلة بالقول: إن استغلال الحالة الشوفينية من الصهيونية تعتبر حالة ظرفية أكثر من استراتيجية، إذ لا يبدو واضحاً مسار العلاقة وأفقها بين الصهيونية وهذا الاتجاه الشوفيني، الذي يؤدي بالنتيجة لتهديد وحدة أوروبا والعودة بها إلى حالة الدول القومية كما هو معلوم. وبحسب كل المنظِّرين والمحلِّلين السياسيين إن أوروبا أمام خيارين: إما الاتجاه نحو الوحدة التامة أو التفكك والتشظّي الحتمي... وما سيتركه ذلك من أثر على "إسرائيل" التي ستنهار معه، بل قبله، إذا ما اقتربنا من هذه اللحظة.
إنّ الصحوة الاسلامية فيما لو تقدمت بثبات سيكون لها آثارها العميقة داخل أوروبا لجهة تفعيل حضور المسلمين السياسي والثقافي وترشيد خطاب المسلمين التفاعلي والتقاربي في الغرب فيما لو أُنجزت، والسعي لملاقاته ومحاكاته، وهذا ما يمكن أن تدفع إليه بحكمة الصحوة الإسلامية.
* رأسمالية متوحشة
وعلى الخط الآخر هناك شريحة واسعة من المجتمع الأوروبي والأميركي التي باتت تظاهرات ال WALL STREET رمزاً لها تلتقي مع أغلب شعوبنا العربية الإسلامية في شعاراته ومطالباته بوجه الرأسمالية المتوحشة.. وبذلك بات صوت شريحة عريضة يلاقي الشعوب العربية على مواجهة الطغيانية الليبرالية الجديدة والرأسمالية المتوحشة على امتداد العالمين العربي والإسلامي.
وهذا بدوره يعمق أزمة المشروع الصهيوني ويؤسس لأرضية مواجهة مشتركة تتخطى الحدود الجغرافية ويكون فيها الصوت موحداً بوجه قوى الاحتكار والسيطرة والتسلّط التي أنهكت الجميع منذ الحرب العالمية الثانية.
ثم إن الصحوة الاسلامية ستعيد إنتاج المزيد من الهواجس والقلق للمشروع الصهيوني وتطيح بمشروعهم.
إذاً، الصهيونية وحلفاؤها في لحظة مأزق تاريخي وأفق مسدود.. هذا في وصف الخلفية والأسباب.. وأما محاولة تعميق الصدع وتعزيز المخاوف بين العرب والمسلمين جراء الصحوة الإسلامية المباركة وآثارها المتوقعة فهو النصف الآخر...
1.صاموئيل هانتنغتون صاحب نظرية (صدام الحضارات).
2.الشوفينية (chauvinism): المغالاة في التعصّب.