إن مقام النفس الأول ومنزلها الأسفل، هو منزل الملك والظاهر، وفي هذا المقام تتألق
الأشعة والأنوار الغيبية في هذا الجسد المادي والهيكل الظاهري ففيه تجهز الجيوش،
وميدان المعركة هو نفس هذا الجسد، وجنوده موجودة في أقاليمه السبعة يعني (الأذن،
العين، اللسان، البطن، الفرج اليد والرجل) وهي موزعة تحت تصرف النفس، فإذا تحكمت
القوى الشيطانية عليها جعلتها في خدمة الشيطان، وتصبح هذه المملكة خاصة بالشيطان،
وفي حال أخضعت هذه المملكة لحكم العقل والشرع أصبحت مملكة روحانية وعقلانية ولم يجد
الشيطان محط قدم فيها. إذاً فجهاد النفس هو الجهاد الأكبر الذي يعلو على القتل في
سبيل الحق تعالى، وعلى أساس ذلك يتعين تعاسة أو سعادة الإنسان، فلنيل السعادة هناك
مجموعة من الشروط يجب تطبيقها والسير فيها:
* التفكر:
يقول إمام الأمة الخميني قدس سره: "اعلم أن أول شروط مجاهدة النفس والسير باتجاه
الحق تعالى، هو التفكر" والتفكر في هذا المقام هو أن يفكر الإنسان بعض الوقت في أن
مولاه الذي خلقه في هذه الدنيا، وهيَّأ له كل أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً
سليماً وقوى سالمة لكل واحدة منها منافع تحيّر ألباب الجميع، ورعاه وهيَّأ له كل
هذه الكتب "الرسالات" وأرشد ودعا إلى الهدى.. فما هو واجبنا تجاه هذا المولى مالك
الملوك؟ هل أن وجود جميع هذه النعم هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانية وإشباع
الشهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات، أم أن هناك هدفاً وغاية أخرى؟ إن الإنسان
إذا فكر للحظة واحدة، عرف أن الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وان الغاية من هذا
الخلق، أسمى وأعظم وأن هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحد ذاتها، يقول الإمام
الخميني قدس سره يخاطبها أي النفس: "أيتها النفس الشقية التي قضيت سني عمري الطويلة
في الشهوات ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة، واستحي من مالك
الملوك... فكّري قليلاً في أحوال أهل الدنيا، والسابقين وتأملي متاعبهم وآلامهم كم
هي اكبر وأكثر بالنسبة إلى هنائهم، في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لأي
شخص". وعلى أي حال، فادع ربك بعجز وتضرع أن يعينك على أداء واجباتك التي ينبغي أن
تكون أساس العلاقة فيما بينك وبينه تعالى، والأمل أن يهديك هذا التفكر المقترن بنية
مجاهدة الشيطان والنفس الأمَّارة إلى طريق آخر، وتوفق للترقي إلى منزلة أخرى من
منازل المجاهدة.
* العزم:
إن المقام الثاني بعد التفكر هو "العزم"، إن العزم هو جوهر الإنسانية، ومعيار ميزة
الإنسان، وان اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه وأن يوطّن الإنسان نفسه،
ويتخذ قراراً بترك المحارم وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيام حياته،
وبالتالي يعمل أن يجعل من ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعياً، بحيث يقتدي بالنبي الأعظم
وال بيته صلى الله عليهم أجمعين، ويتأسى بهم في جميع حركاتهم وسكناتهم، وما يفعلون
ويتركون، وهذا أمر ممكن، لأن جعل الظاهر مثل هذا القائد وأهل بيته أمرٌ مقدور لأي
فرد من عباد الله. ففي أي طريق في المعارف الإلهية، لا يمكن إلاَّ بالبدء في ظاهر
الشريعة فلا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة وتكشف العلوم الباطنية وأسرار
الشريعة، فالعزم ليس بالأمر اليسير فلا بد أيضاً من السعي للحصول على العزم.
* السعي للحصول على العزم:
يقول الإمام قدس سره: "أيها العزيز.. اجتهد لتصبح ذا عزم وإرادة، فانك إذا رحلت من
هذه الدنيا دون أن يتحقق فيك العزم على ترك المحرمات فأنت إنسان صوري بلا لب، ولن
تُحشر في ذلك العالم على هيئة إنسان، لأن ذلك العالم هو محل كشف الباطن وظهور
السريرة"، فالأمور التي تؤثر على العزم منها التجرؤ على المعاصي فإنه يفقد الإنسان
تدريجياً العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف، فمثلاً أكثر ما يسبب فقد الإنسان
العزم والإرادة هو الاستماع للغناء، إذاً فتجنب المعاصي يقوي العزم والإرادة، وبها
تبدأ الهجرة إلى الله تعالى وجعل ظاهر الإنسان ظاهراً إنسانياً. ومما يقوي العزم
والإرادة الطلب من الله تعالى في الخلوات أن يكون معنا في الطريق لهذا الهدف،
والاستشفاع برسول الله صلى الله عليه وآله وآل بيته عليهم السلام.
* المشارطة والمراقبة والمحاسبة:
فالمشارط هو الذي يشارط نفسه في أول يومه على أن لا يرتكب اليوم أي عمل يخالف أوامر
الله، ويتخذ قراراً بذلك، فمن الممكن أن يصوّر لنا إبليس اللعين أن الأمر صعب وعسير،
فهذا من تلبيسات هذا اللعين فيجب لعنه قلباً وواقعاً، ويجب إخراج الأوهام الباطلة
من القلب، وبعد هذه المشارطة يجب الانتقال إلى "المراقبة" وهي أن تنتبه طوال مدة
المشارطة إلى عملك وفقها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت، وإذا حصل لا سمح
الله حديث للنفس بارتكاب عمل مخالف لأمر الله فإن ذلك من عمل الشيطان وجنده، فيجب
لعنهم والاستعاذة منهم. والمراقبة لا تتعارض مع أي عمل كالكسب والسفر والدراسة، فلا
بأس بالبقاء على هذه الحال ريثما يحين وقت المحاسبة. وأما "المحاسبة" فهي أن تحاسب
النفس لترى هل أدَّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن ولي نعمتك في هذه
المعاملة الجزئية؟ يقول الإمام قدس سره: "فإذا كنت قد وفَّيت حقاً، فاشكر الله على
هذا التوفيق، وإن شاء الله يُيسّر لك سبحانه التقدم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون
عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحول إلى
ملكة فيك بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة إليك سهلاً يسيراً للغاية، وتسمى عندها
باللذة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه".
* التذكر:
ومن الأمور التي تعين الإنسان وبصورة كاملة في مجاهدته للنفس والشيطان، والتي ينبغي
للإنسان السالك المجاهد الانتباه إليها جيداً هو "التذكر". والذكرى في هذا المقام،
هي عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان، فاحترام المنعم
وتعظيمه، هو من الأمور الفطرية التي جُبِلَ الإنسان عليها والتي تحكم الفطرة
بضرورتها. فالغافل عن الله تعالى ينسى النعم العظيمة التي أنعمها الله عليه مثل
الحواس والعقل وإرسال الأنبياء والرسل عليهم السلام والكتب وتوضيح طريق السعادة
والشقاء والجنة والنار، ووهبنا كل ما نحتاجه في الدنيا والآخرة، دون أن يكون فقيراً
ومحتاجاً إلى طاعتنا وعبادتنا، فهو سبحانه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية،
وطاعتنا ومعصيتنا بالنسبة له على حد سواء، بل من اجل خيرنا ومنفعتنا نحن يأمر وينهي،
وبعد تذكر هذه النعمة والنعم الكثيرة الأخرى يُطرح السؤال التالي: ألا تحكم الفطرة
بوجوب تعظيم منعم كهذا وما هو حكم العقل تجاه خيانة ولي نعمة الله.؟
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فتذكّري يا نفسي الخبيثة أي ظلم فظيع، وأي ذنب عظيم
تقترفين إذا عصيت مثل هذا العظيم في حضرته المقدسة"، إذاً ما يجب تذكره: هو ذكر
عظمة الله تعالى، تذكر نعمه وألطافه وإننا في حضرته وانه شاهد علينا. ففي هذه
المعركة الكبرى يمكن التغلب على جنود الشيطان. وأخيراً وليس آخراً انه في جميع
الأحوال لا يجب تعليق الآمال على النفس لأنه لا ينهض بعمل غير الله تعالى، فاطلب من
الحق تعالى نفسه بتضرع وخشوع.
أسئلة حول الدرس:
1- في حال أن جنود الشيطان تغلبت على مملكة الحق فما العمل؟
2 - ما معنى التفكر؟
3- كيف يمكن الحصول على العزم؟
4- ما هي الأمور التي يجب تذكرها للقرب من الله تعالى؟