الشهيد مرتضى مطهري
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا"1.
إنّ هذه الوصيّة على قصرها تزخر بالمعاني والفوائد الكبيرة، ذلك أن أيّ إنسان متحضّر لا يشكّ أبداً بضرورة التربية، فكما أن الوردة أو الشجرة أو الحصان يحتاج إلى التربية، كذلك الإنسان. وهذه المسألة لا تحتاج إلى توضيح، وأكثر الناس تخلّفاً يدرك ذلك؛ ولذا نشاهد المجتمعات البدائيّة تعيش على الزراعة أو على تربية الماشية. وقد يخطئ أولئك في أسلوب التربية سواء في النبات أم الحيوان ولكنهم يعتقدون بضرورة التربيّة في هذا المضمار.
* التربية طريق الكمال
فرق كبير بين الإنسان المتحضّر والمتخلّف، فإذا كان الأخير يعتقد بأنّ الإنسان ليس حيواناً أو نباتاً حتى يحتاج إلى تربية، فرئيس القبيلة يرفض رفضاً قاطعاً أن يكون ابنه بحاجة إلى التربية، بل يعتبر ذلك إهانة موجهة لشخصه ولابنه. نعم قد يتصور أن أفراد قبيلته، وبسبب تعايشهم مع الحيوانات، يحتاجون إلى تربية، أما ابنه، الذي هو في نظره إنسان بكل معنى الكلمة، فلا يحتاج إلى التربية أو الأدب على الإطلاق.
إنّ الإنسان المتحضر لا يفكر أبداً على هذا النحو، بل على العكس، فهو يعتقد أن ابنه - باعتباره إنساناً - يحتاج إلى التربية والرعاية أكثر من الوردة والشجرة أو الحمامة والحصان.
فكما أن النباتات باعتبارها موجودات تنبض بالحياة هي أكثر كمالاً من الجمادات فإنها تحتاج إلى التربية للوصول بها إلى الكمال المنشود، ولأنّ الحيوانات أرقى كمالاً من النباتات فهي تحتاج إلى التربية أكثر، وهكذا بالنسبة للإنسان. إنه كائن أرقى وأسمى كمالاً من الحيوان، بل إن وجوده العظيم بحاجة ماسّةٍ إلى التربية والأخلاق والأدب.
* الإنسان حرٌ يفكّر ويريد
الإنسان مرتبة أخرى من الوجود تفوق عالم النبات وعالم الحيوان. الإنسان وبالرغم من احتوائه على جوانب النبات وخصائص الحيوان يمتاز بالعقل والإرادة، وهما يرفضان رفضاً قاطعاً الانصياع إلى العوامل الخارجية. إنه ليس معدناً أو حجراً حتى يستجيب لإرادة الصائغ، كما أنه ليس نباتاً ينمو لدى كل أحد، وليس ببغاءً فيلقّن ما يراد له أن يقول؛ إنّه كائن يتمتّع بالحرية والاستقلال والإرادة التي قد ترفض الخضوع لشتّى أنواع المؤثرات، إذ من المستحيل إجبار الإنسان على عمل ما، ولا بد أن يحصل في النهاية نوع من التّفكير ثمّ صدور القرار.
إنّ عمل الإنسان لا بد وأن يسبقه فكر وإرادة. ومن لا يفكر لنفسه لا ينفعه تفكير الآخرين. ومن لا يقرر بنفسه لا يجديه أن يقرر في شأنه الآخرون؛ ولقد قال الأئمة العظماء عليهم السلام: "من لم يجعل في قلبه واعظاً من نفسه لا تنفعه مواعظ الواعظين" أو "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا".
* الاستجواب الإلهي
فالإنسان يختلف عن سائر المخلوقات في مسألة التربية، إذ إن العوامل الخارجية وحدها لا تكفي. يجب أن يكون في داخل كل إنسان واعظ من نفسه، أي تنشأ في داخل النفس شخصيّتان: الأولى تأمر والثانية تطيع، الأولى تلوم والأخرى تتقبل الملامة، الأولى تحاسب والأخرى تتقبل الحساب.
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله: ﴿بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ (القيامة: 2) أي التي تلوم الإنسان على أخطائه فهي دائمة التقريع له والعتاب. لا أحد يفكر في إنكار هذه الحقيقة أبداً ولا أحد لم يشعر بها، ذلك أن كلاًّ منَّا قد ارتكب خطأً ما صغيراً كان أم كبيراً، ولا يوجد أحد لم يتعرض إلى هذا الاستجواب الإلهي.
إذاً فإن الجميع قد حدث لهم مثل ذلك بحيث تتشكل محكمة داخل نفوسهم يقف فيها الإنسان متّهماً ملوماً مدحوراً.
* تسوية حساب
إن هذه الثنائية من خصوصيات الإنسان. وهي في الحقيقة ليست ثنائية أي إن الإنسان لا ينطوي على روحين أو نفسين إحداهما تحكم والأخرى محكومة، بل هناك تركيب عجيب يتألّف من مجموعة غرائز وميول ينطوي عليها هذا المخلوق العجيب الذي يُدعى "الإنسان".
لو أراد شخصان التّعاون في إنجاز عمل ما فإنّهما يتعاهدان على ذلك. وخلال مدة التعاون يراقب كل منهما الآخر، فإذا ظهر في نهاية العام وعند تسوية الحساب وضبط الوارد والصادر والربح والخسارة أنهما قد نجحا في عملهما، وأن أحداً لم يرتكب خيانة أو خطأ ما، شدّ أحدهما على يد الآخر بحرارة. وإذا ما حصل العكس، فإن المقصّر سيتعرّض في هذه الحالة إلى سيل من العتاب والتّقريع واللّوم ومن ثم العقاب.
إن مثل هذه الحالة يعيشها الإنسان في أعماقه باعتباره مخلوقاً ينطوي على مجموعة غرائز وميول مختلفة. وفي ظلال ذلك الجو الثنائي- إذا صح التعبير- ينشأ نوع من التعاهد والمراقبة، حيث تتم تسوية الحساب في نهاية كل عام، بل وفي نهاية كل شهر أو كل أسبوع أو كل يوم، فإذا ما حصل خطأ في السلوك برز العتاب وبدأ التقريع واللوم.
ونوجز الموضوع بالتأكيد على ضرورة وجود المربّين خارج الوجود الإنساني. ولكن ذلك لا يعد كافياً للتأثير في تربيته ما لم يوجد مربٍّ وواعظ من نفس الإنسان.
1 وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج16، ص99.