نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناجاة المريدين (8): بالغافلين رحيمٌ رؤوفٌ

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


"فَيا مَنْ هُوَ عَلَى الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ مُقْبِلٌ، وَبِالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ عآئِدٌ مُفْضِلٌ، وَبِالْغافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ رَحِيمٌ رَؤُوفٌ، وَبِجَذْبِهمْ إلى بابِهِ وَدُودٌ عَطُوفٌ".

قدّم الله تعالى مجموعتين من العوامل والوسائل للفت انتباه الغافلين عن مظاهر جماله وجلاله:
المجموعة الأولى: العوامل والأسباب التشريعيّة، ومن جملتها نزول الكتب السماويّة، ومنها القرآن الكريم وإرسال الأنبياء.

المجموعة الثانية: العوامل والأسباب التكوينيّة، وهي مجموعة كثيرة التنوّع، بحيث لا يمكن التعرّف إلى جميع عواملها وأسبابها.

*أسباب الالتفات والتوجّه إلى الله
يمكن، وبإرشاد من القرآن الكريم وتعاليم أهل البيت عليهم السلام، الاطّلاع على مقدار محدود من هذه العوامل، وتقديم تصنيفات لأنواع عديدة من التدابير الإلهيّة لجلب انتباه العباد إلى الله تعالى.

من جملة تلك التدابير الإلهيّة، رشحات وجلوات لطفه ورحمته الموجودة في بواطن الحيوانات والإنسان، والتي على أساسها تتحرّك العواطف والمودّة فيما بينها. فإذا لم يقع الإنسان في شرك الأنانيّة والغرور، وإذا لم يُمتْ قلبَه الإفراطُ في الاهتمام بالملذّات الدنيوية، وإذا امتلك قلباً يقظاً خالياً من القسوة وامتلك وجداناً عارفاً، عند ذلك فإنّ وجود تلك العواطف والمحبّة يهديه إلى مبدأ الرحمة والرأفة الإلهيّتين، ويعلم حينها مقدار محبّة الله لعباده وهو الذي جعل أفئدتهم عامرة بمحبة بعضهم لبعض.

إنّ أصفى وأخلصَ وأعمقَ وأنقى تلك العواطف، هو عاطفة ومحبة الأب والأمّ لولدهما، بالأخصّ عاطفة الأمّ على ولدها؛ بحيث لو أنّ شخصاً ادّعى أنّ عدم تلك المحبة يؤدّي إلى انقراض الإنسان لم يتحدّث عبثاً. وإنّ وجود تلك المحبة والرأفة وسيلة للإدراك والمعرفة المحدودة برحمة ورأفة الله اللامتناهية، وهو الذي زرع في قلوب العباد، بالأخصّ الأمهات والآباء، رشحة من محبته ليؤمّن لهم ذلك السرور والنجاح والاحتياجات العاطفيّة والحياتيّة.

*لماذا أوصانا الله بشكر الأب والأم؟
انطلاقاً من سبيل معرفة محبّة الوالد والوالدة لمعرفة محبة الله ونعمه اللامتناهية، جعل الله تعالى شكره في رديف شكر الوالد والوالدة، ودعا الجميع للالتزام بذلك حيث قال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (لقمان: 14).

أما السرّ التربويّ في الوصيّة، بشكر الوالد والوالدة إلى جانب شكر الله تعالى في الآية الشريفة؛ فهو أنّ الإنسان إذا لم يدرك مقدار نعمة الأب والأمّ وغفل عنها، وإذا لم يمارس عملية شكر الأب والأم، عند ذلك يصبح إنساناً غير شاكر، وهذا يعني أنّه لن يكون شاكراً لكافة النِعَم الإلهية الموجودة بين يديه.

إنّ الالتفات إلى عواطف ومحبة الأب والأمّ وسيلة لمعرفة محبة الله للإنسان والاهتمام بلطف ومحبة المعبود الذي زرع رشحة من بحر حبّه اللامتناهي في قلب الأمّ الذي يجعل الأمّ على استعداد للتضحية بنفسها من أجل ابنها.
إنّ الأم التي تحمل شيئاً يسيراً من حبّ الله في قلبها، لا تطرد ابنها إذا ما ارتكب خطأً، بالأخصّ إذا كان منشأه الغفلة وعدم العناد، ولا تبخل عليه بحبها، بل تجذبه إليها. فهل يُتصوّر أن يطرد الله تعالى العباد الغافلين عنه ويبخل عليهم بلطفه ومحبته؟

*رأفة الزوجين مظهر من الرحمة الإلهيّة
إنّ رحمة ومحبّة الزوج والزوجة لبعضهما بعضاً واحدة من مظاهر محبة الله. يقول الله تعالى في هذا الخصوص: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 21).

إنّ المحبّة بين الزوجين مظهر للمحبة والتدبير الإلهيّ، وهي وديعة إلهيّة مزروعة في فطرة الإنسان، ووسيلة للالتفات إلى محبة وعناية الله بالعباد. كما أنّ محبة الأصدقاء لبعضهم بعضاً والمحبة الموجودة بين المعلم والتلميذ وكافة أنواع المحبة والعواطف الموجودة بين البشر والتي جميعها ذات منشأ فطريّ، هي من جملة التدابير الإلهيّة لحفظ العلاقات بين البشر، وهي وسائل أيضاً للالتفات إلى مبدأ الرحمة والمحبّة والعطف، وهي تدابير إلهية لأجل جذب البشر نحو ذاته تعالى.

*التدابير الإلهية لجذب الأشخاص الغافلين
قد يصل الأمر بالإنسان إلى عدم الاستفادة من النِعَم الإلهية، وإلى نسيان دورها. وبالتالي، لا ينجذب بواسطتها إلى الله ورحمته الواسعة، بل أكثر من ذلك يهرب من ذكر الله وينسى وجوده. هذا الشخص، يهرب من المجلس الذي يجري الحديث فيه عن الله وعبوديته وطاعته، ويتوجّه نحو المجلس الذي يقدّم الفرصة للاستفادة من الملذات المادية [الحلال]. إلّا أنّ الله لا يوكل هؤلاء الغافلين إلى أنفسهم، إذا كانت آيات الرحمة والرأفة الإلهيّتين لم تنبّههم، فقد فتح الله تعالى أمامهم تدابير وطرقاً أخرى؛ وكل ذلك لينجذب هؤلاء نحو الرحمة الإلهية وليستفيدوا من لطف الله اللامتناهي. طبعاً إذا حافظ العباد على عقد العبودية مع الله وإذا بقي مصباح الإيمان يضيء قلوبهم، فسيكونون مشمولين بالرحمة والمحبة الإلهية وسيزيل الله بتدابيره الغفلة من قلوبهم وسيوجههم نحو ألطافه ورحمته. ولكن إذا خَفَتَ نور الإيمان من قلوبهم وحلّ مكانه الكفر والعناد والعداء لله وأوليائه، فسيشملهم الغضب الإلهي.

نعم، الله تعالى لا يترك العباد الغافلين لأنفسهم ولا يبخل عليهم بعنايته ورحمته اللامتناهيتين. أما الذين غرقوا في مظاهر الدنيا وجمالها، والذين خدعتهم وساوس الشيطان، ويعتقدون بأن أكثر الأمور أهمية هو المقام والمنصب والمحبوبيّة عند الناس، فهم يبذلون جهودهم للحصول على موقع بين الناس. وعندما لا ينجذب هؤلاء لآثار لطف الله ورحمته وإلى مظاهر جلاله وجماله. وعندما لا يحيدون عن الاهتمام بمظاهر الدنيا وملذّاتها، فإنهم يستمرون في طريقهم المنحرف، ليصلوا في النهاية إلى الطريق المسدود؛ لأن خاتمة عبادة الدنيا والانحراف عن مسير الحق، هو الطريق المسدود، فلا وجود لطريق سوى طريق الحق يمكّن الإنسان من الوصول إلى المقصد.

*الهداية عامّة وخاصّة
يمكن حمل الآيات المتعلّقة بضلال الغافلين عن ذكر الحقّ في حرمانهم من الهداية الإلهية على أن الله تعالى قد وضع هذا الطريق أمام الغافلين ليلفت انتباههم في النهاية إلى رحمته.

مثال ذلك ما جاء في الآية الشريفة: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (المائدة:51)؛ المقصود من الهداية هنا، ليس الهداية الإلهية العامة؛ لأنّ المؤمن والكافر وكافة العباد يمتلكون الهداية الإلهية العامّة، بل المقصود الهداية الإلهية الخاصّة، حيث يصل الأفراد المحرومون منها إلى الحضيض فلا يجدون منفذاً أمامهم ويدركون أنّهم يتحرّكون نحو الطريق الباطل وأنّهم صرفوا عمرهم في الضلال.

على أثر هذا التدبير الإلهيّ الذي أوصل الغافلين إلى حدود اليأس والسقوط حيث يشعرون أنّ الأبواب باتت مؤصدة أمامهم وأن ليس هناك من يرشدهم إلى الطريق، هنا، يفتح الله أبواب رحمته على أثر نور الإيمان الذي ما زال موجوداً في قلوب الغافلين، وذلك في أوج اضطرارهم ويأسهم من الأسباب والوسائل المادية، فيكون الملجأ لهم وينجيهم بعونه من الهلاك الأبديّ. يقول الله تعالى حول هذا التدبير الإلهيّ: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (العنكبوت: 65).

نعم، قد يوفّر الله تعالى ظروفاً تجعل الإنسان يائساً من كلّ طريق يقصده أو باب يطرقه. ولكنّه في نهاية الطريق وفي أوج اليأس يصرخ "يا الله" ليطلب من الله أن يلاقيه.

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي قدس سره نقلاً عن المرحوم آية الله القاضي الطباطبائي قدس سره: قد يبتلي الله عبداً سنواتٍ بالفقر أو المرض والمشكلات ليصرخ في النهاية بعبارة "يا الله". لذلك فالتوجّه إلى الله والنورانية التي تستقرّ في الإنسان على أثرها، قيّمة ومفيدة إلى مستوى أنه من اللائق تحمّل سنوات من الصعوبات والآلام والبلاءات لأجلها. عندما ييأس الإنسان من كلّ شيء يظهر في قلبه الالتفات إلى لطف الله ورحمته.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع