صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

أحبّ عباد الله(6): عبدٌ نظر فأبصـر

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي


﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: 4). يمتلك الإنسان خصائص تجعله الموجود الأفضل بالنسبة إلى المخلوقات الأخرى. وإذا كان يمتلك الاختيار والإرادة اللذين يتميّز بهما عن المخلوقات الإلهية، فهو أيضاً يمتاز على الآخرين بالصّورة والسّيرة. ومن أبرز ما يمتاز به الإنسان امتلاك الهداية التكوينيّة والتشريعيّة، الهداية الباطنيّة والداخليّة:
العين والأذن الباطنيتان، والقلب الباطني.

يصرّح مولى الموحدين عليّ  عليه السلام أن الإنسان يمتلك حياةً إنسانيةً فيها من الاستعدادات والقدرات ما يمكنه من السير في طريق الهداية وتأدية الوظائف الدينية والإلهية ليصل إلى مرتبة يصبح معها موجوداً كاملاً.
ذلك أن هذا الإنسان بما يمتلك من حياة إنسانية تظهر له كافة الفضائل والكمالات الإنسانية وهو الذي يستفيد منها.
وهذا الإنسان نفسه يمتلك حياةً حيوانية. فإذا نمت وتطورت صفاته الحيوانية، يتحول إلى موجود لا روح فيه، بل إلى ميت. ويكون كجميع الحيوانات، لا بل أدنى منها بمراتب عديدة.

* بصيرة محبي الله
"نظر فأبصر وذكر فاستكثر وارتوى من عذبٍ فراتٍ سهُلت له موارده فشرب نهلاً وسلك سبيلاً جدداً"1.
وإذ يتابع الأمير في هذه الخطبة خصائص المحبّين الذين اختارهم الله تعالى، يبدأ بعبارة "نظر فأبصر". والنظر والفكر في الملك والملكوت هو الحصول على البصيرة الباطنية وحقيقة الأشياء. ويجب الالتفات إلى أن عبارة "فأبصر" لا يراد منها المشاهدة الفيزيائية والظاهرية، بل المقصود المشاهدة والبصيرة التي تأتي على أثر إضاءة نور الهداية في قلب السالك. وهذا النور ينقل رؤية الإنسان لإدراك حقيقة وباطن الأشياء ومشاهدة عظمة وجلال الوجود.

*تجلّي الحياة الإنسانية
ظهر من تعاليم القرآن والروايات أن للإنسان، عدا عن الأعين الظاهرية، أعيناً أخرى. كما أنّ له غير الأذن الظاهرية أذناً أخرى يسمع بها الحقائق التي يهتدي بها.
فهو يشترك مع الحيوانات الأخرى في امتلاكه أعيناً وآذاناً ظاهرية ويمتلك حياةً هي منشأ النمو والسلوك والحركات وتوسيع النسل، يشترك فيها مع الحيوانات. لذلك فإن امتلاك الإنسان للحياة الحيوانية والأعضاء والجوارح والآثار المترتبة عليها ليست امتيازاً له؛ لأن بعض الحيوانات أفضل منه في هذه الجهة فعين العُقاب مثلاً أكثر دقة من عين الإنسان فيرى صيده من مسافات بعيدة.
ولكن يمتاز الإنسان في امتلاكه حياةً إنسانية، أعطاها الله تعالى، هي مظهر الحياة الأعلى والأشرف له، لا بل هي مقام خلافة الإنسان من قبل الله تعالى، إذ يمتلك الإنسان أعيناً وآذاناً باطنية يدرك بها الحقائق والمعارف الإلهية.

* الأحياء والأموات الحقيقيون في القرآن الكريم
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف: 179). فالإنسان يمتلك بالإضافة إلى الحياة الحيوانية حياةً إنسانية ذات مقومات خاصة ولهذه الحياة موت يتناسب معها. وقد أشار القرآن الكريم في بعض الآيات إلى هذا الموت فأطلق عبارة الأموات على الذين يمتلكون حياةً حيوانيّة إلا أنهم يفتقدون للفضائل الإنسانية والتفكّر والتعقّل في الحقائق. مثال ذلك الآية الشريفة: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (الروم: 52).
وتحدثت آية أخرى حول الفرق الأساس بين الإنسان الذي لا يستفيد من الحياة الإنسانية والإنسان الذي يستفيد منها وذكر ثمرة الحياة الإنسانية ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (الأنعام: 122).

إذ يعتبر القرآن الكريم أنّ الذين يمتلكون حياةً إنسانية يستفيدون من هداية الأنبياء الإلهية. والذين لم تحصل لهم هذه الحياة قلوبهم ميتة، لا يمكنهم الاستفادة من الهداية الإلهيّة ومن نورانية القرآن. ويتحدث الله تعالى حول دور القرآن في الهداية وعن اللائق لها: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (يس: 69 ـ 70).
أما أصحاب القلوب الميتة والذين لا يستفيدون من الحياة الإنسانية من وجهة نظر القرآن فهم الذين أغلقوا على أنفسهم أبواب الفهم وتعقّل الحقيقة ومعرفة مسير الكمال والسعادة؛ لأنّهم جعلوا معبودهم أهواءهم ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (الفرقان: 43 ـ 44).


* الضّالّون أضلّ من الأنعام
يعتبر الله تعالى الضالّين أضلّ من الأنعام، لأن الحيوان لا يعمل ما يلحق به الضرر ويمتنع عن تناول الأعشاب والأعلاف الضارة به. وبعض الحيوانات تلجأ عند مرضها لتناول أعشاب خاصّة حيث تداوي نفسها بها.
الإنسان الذي يمتلك العقل والقوى التي ترشده إلى الكمال، يصبح أضلّ من الأنعام عندما لا يستفيد من الإمكانيّات التي تُقدّم له السعادة.
إذا كان الله تعالى يتحدث عن الحياة الإنسانية ويعتبر الذين يمتلكون حياة حيوانية، وهم ضالون عن الحياة الإنسانية، أمواتاً، لا بل يعبّر عنهم بأنهم عمي، فلا يجب أن نظن أن هذا الكلام تخيّلي وشعري؛ بل هذه الأمور هي وقائع لا يمكن إنكارها، وهي أمور قابلة للإدراك والمعرفة عند أهلها. ألا يوجد حقائق لا يمكن لبعض الناس إدراكها ومشاهدتها؟ هذه الأمور من هذا الصنف، فهم قد حصروا أنفسهم في حدود المحسوسات. وإن ما يتلقونه بحواسهم لا ينفذ إلى حواس قلوبهم حيث أقيم حجاب بينها، وبالتالي فهم عاجزون عن مشاهدة وسماع الحقائق والوقائع التي هي وراء الحجب الظلمانيّة والظاهريّة.

* الهداية الباطنية والداخلية
أعطى الله تعالى للإنسان أذناً وعيناً باطنيتين، إلا أن هذين العضوين يصبحان فعّالين في ظلّ هداية الأنبياء واتّباع التعاليم الإلهية وإلا فهم عميٌ وصمٌ. وكذلك نحن نمتلك أعيناً نشاهد بها إذا لم تكن مصابة بآفة، بل يجب أن تكون سالمة. بعض الأوقات تكون العين سالمة، ولا يمكن الرؤية كما هو الحال في الليل، إذ يشترط أن يشعّ نورٌ إلى المرئي ليراه الإنسان. وكذلك في المشاهدات الباطنيّة والمعنويّة يجب أن يمتلك الإنسان أولاً عيناً في القلب وقد أعطى الله الاستعداد لكافة البشر لامتلاكها، إلا أن أعين بعض الناس عمياء لأنهم لا يستفيدون من هذا الاستعداد. وبعد ذلك يجب أن يضيء نور الهداية الخارجية من قبل الله بواسطة أنبيائه على جوانب الحقائق والمعارف الباطنية والمعنوية، لتتهيأ الظروف لإمكان المشاهدة المعنوية بواسطة أعين القلب.
لذلك كان الإمام  عليه السلام يتحدث حول المؤمنين بالله والذين يخافونه فاعتبر أنهم أشخاص أضاء نور الهداية في قلوبهم فرفعوا بواسطة ذلك حجب الظلمات عنهم وأضاؤوا أعين قلوبهم بالحقائق التي لا يشاهدها الآخرون فيشاهدون أموراً لا يراها الضالون.

*يجب العمل لنرتقي
لا طريق لنا إلى مقام الأنبياء وأولياء الله الخاصّين المطّلعين على كامل الأسرار والحقائق. ولا يجب توقع الوصول إلى مراتبهم؛ إلا أنّه على الأقل يجب العمل لنرتقي عن مستوى الأنعام، ولنرتفع عن المرتبة الحيوانية. علينا للوصول إلى المقام الإنساني أن يكون نظرنا إنسانياً وإلهياً. ومنشأ الفهم والإدراك هو الهدف الذي لأجله وجدنا. بهذه الصورة الكمالية وهذا البرنامج، نصل إلى الكمال المقصود والسعادة والرضوان الإلهي وإلا فسنكون مشمولين بقول الله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (النجم: 29 ـ 30).


1- نهج البلاغة، الخطبة 87.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع