آية الله مشكيني
في الحلقة الماضية أشرنا إلى ثلاث صفات أساسية من صفات المحسنين وهي: إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة، فهل يكفي الإنسان أن يتصف بهذه الصفات الثلاث ليكو من المحسنين الذين رضي الله عنهم؟ هذا ما سوف نعرفه في هذه الحلقة، بالإضافة إلى تبيين الحركة التكاملية للإنسان.
من المؤكد أن الإنسان لا يمكن أن يكتفي بهذه الصفات الثلاث حتى ينال الرضا الإلهية، فالله تعالى عندما يقول أن المحسن هو الذي يصلي فهذه إشارة إلى أحد مظاهر الارتباط بالخالق. كل العبادات التي يقوم بها الإنسان هي من مظاهر الارتباط والعلاقة بالله. فالصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... كلها من الواجبات التي لا يجوز إهمالها بأي حال، وما ذكر الصلاة إلا من باب المثال كونها أقوى وسائل الارتباط بالله تعالى.
وأما الزكاة فهي مثال عن علاقة الإنسان بالمخلوق فالإسلام ينظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان: الأب، الأم، الأستاذ، التلميذ، الصديق وحتى العدو. والمطلوب من الإنسان أن يلتزم بالأحكام الإلهية في كل علاقاته وارتباطاته بالبشر.
أما ذكره الآخرة فالمقصود جميع أصول الدين، لأن من يعتقد بالمعاد لا بد أن يكون معتقداً بالمبدأ وبالرسالة التي تنظم مسير الإنسان بين المبدأ والمعاد.
وخلاصة القول أن المحسنين هم الذين يؤمنون بأصل الدين كافة ويقومون بعباداتهم يشكل جيد وتام العلاقة مع الخالق)، ويلتزمون الأحكام الإلهية في معاملاتهم (العلاقة مع المخلوق). وهداية القرآن هي لمثل هؤلاء الأشخاص.
جاء في ذيل الآية ﴿وبالآخرة هم يوقنون﴾ فما المراد من اليقين؟ اليقين هو اعتقاد وإيمان باطني في الإنسان بأمر يقوى ويشتد على أثر العمل والالتزام به. فعن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسم بين العباد شيء أقل من اليقين.
* درجات التكامل
كل إنسان لا بد أن يعبر أربع درجات في تكامله الروحي وهذه الدرجات هي:
1- الإسلام.
2- الإيمان.
3- التقوى.
4- اليقين.
الإسلام هو الإقرار بالشهادتين بحيث عندما يعرض على الإنسان أن الله واحد لا شريك له وأن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم مرسل من الله تعالى وأن القرآن كتاب الله يقول أقر بذلك واسلِّم به فهذا هو المسلم ولو لم يتجاوز ذلك الإقرار اللفظي وهذه هي الدرجة الأولى.
بعد الإقرار الأولى ينبغي أن يطمئن القلب ويذعن للواجبات والمحرمات، هذا الإذعان القلبي الأولى يطلق عليه الإيمان وهو الدرجة الثانية من درجات التكامل الروحي عند الإنسان.
الدرجة الثالثة هي التقوى. القلب المحرك الذي يدفع الإنسان للعمل، وعندما يدخل الإيمان إلى القلب يصبح عمل الإنسان متلائماً مع إيمانه واعتقاده القلبي.
فنراه يترك لذة النوم والدفء ليؤدي صلاة الصبح في الشتاء القارص، ويترك الطعام والشراب طيلة النهار في الحر الشديد ليؤدي فريضة الصوم وهكذا. الدافع للقيام بمثل هذه الأعمال هو التقوى أما الدرجة الرابعة والتي هي أسمى مراحل التكامل الروحي فهي اليقين. واليقين هو قوة باطنة وحالة من الإيمان القلبي الشديد مزيلة لكل مراحل الشك والتردد ودافعة إلى العمل بالأحكام على نحو الانقياد والطاعة والتسليم مائة في المائة.
* ﴿أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾
ليتضح معنى الآية الكريمة لا بد من الحديث بشكل موجز عن طبيعة حركة الإنسان نحو التكامل. فممّا لا شك فيه أن الناس جميعاً وبغض النظر عن المخلوقات الأخرى في حركة دائبة نحو التكامل الأمر الذي تؤكده الآية الشريفة في سورة الانشقاق: ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه﴾ (الانشقاق/6). وهذه الحركة التكاملية لها أبعاد متنوعة نأتي فيما يلي على ذكر بإيجاز:
1: الحركة في البعد الفكري
يحتاج الإنسان إلى الهداية في حركته التكاملية بأبعادها المختلفة سواء الفكرية منها أم الروحية أم العملية. والله تبارك وتعالى أمّن هذه الهداية للقافلة البشرية فقال: ﴿أولئك على هدى من ربهم﴾.
لقد أعان الله تعالى عقول البشر وهدى أفكارهم لتصل إلى مراتب الكمال من خلال عملية التفكير الصحيح والمنطق السليم. يدخل الطفل أولاً إلى الصف الأول في المدرسة، ثم شيئاً فشيئاً تنمو قدراته الفكرية والعقلية ويتدرج من صف إلى صف حتى يصل إلى المرحلة الجامعية."
ثم يترقى إلى ما بعدها من المراحل. وهذا المثال يوضح الحركة التكاملية للإنسان في بعدها الفكري. الله سبحانه هدى هذه الحركة من خلال إرسال الأنبياء والكتب السماوية والإلهامات الإلهية بحيث يستطيع الإنسان من خلال الاهتداء بهذه الوسائل أن يصل إلى أعلى مراتب الكمال في البعد الفكري.
2: الحركة في البعد الروحي
في البعد الروحي والأخلاقي هناك حركة أيضاً في الإنسان نحو الكمال. قد يكون الإنسان رعديداً، جباناً، بخيلاً، متكبراً ومعجباً بنفسه، ولكن من خلال اتباع تعاليم الأنبياء والاهتداء بهديهم يتعرف على مقابلاتها من الصفات الحسنة وشيئاً فشيئاً يستبدل صفاته السيئة بها. وعندها يزول الجبن ويصبح شجاعةً ويتخلص من البخل ويصبح سخياً ويتحلى بالتواضع بدلاً من التكبر والغرور.
لقد عانى الأنبياء وقاسوا مرارات عظيمة من أجل تبيان قيمة البعد الأخلاقي للإنسان والتأكيد عليه. حتى أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنما بعثت لا تمم مكارم الأخلاق". وكان كلما نظر في المرآة يقول: "اللّهم كما حسنت خَلقي فحسّن خُلُقي".
3: الحركة في البعد العملي
البعد الثالث في الإنسان هو الحركة في الأعمال والأفعال التي يقوم بها. فالطفل وبالنظر إلى ضعف قراراته الفكرية والعقلية تتسم أفعاله باللغو واللهو ويصبح أكثر توجهه نحو اللعب والمرح. ثم وبالتدريج تتسم أفعاله بالحكمة والخدمات المتبادلة فيقوم بالأفعال التي تجلب له الخير ويبتعد عما يسبب له الضرر وهكذا.
والمجتمع الإنساني أيضاً يتحرك نحو التكامل في هذا البعد العملي. ومما لا شك فيه أن الحاجة إلى الهداية في هذا البعد الحساس ماسة جداً وقد أوضحت التعاليم الإلهية ما ينبغي على الإنسان العاقل أن يقوم به مما يسبب له السعادة في الدنيا والآخرة وما يجب أن يبتعد عنه لما يؤدي إلى التعاسة والشقاء.
بعد هذه المقدمة نعود إلى الآية الكريمة: ﴿أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾.
أما قوله تعالى: ﴿أولئك على هدًى﴾، ففي لغة القرآن يستعمل لفظ "على" بمعنى الاستيلاء والتسلط على الشيء، فكأنه يقول أن المحسنين في قلب قطار الهداية الإلهية يسيرون على الصراط المستقيم بالتسديد والتأييد الإلهي وقوله عقبها مباشرة ﴿من ربهم" إشارة لطيفة إلى أن هذه الهداية من ناحية المربي لهم، وهذه الهداية هي من نوع التربية والله تعالى هو الذي يربيهم.
والفكرية ناضجة وراشدة ويتوجه إلى العالم طالباً التعرف على تكليفه ومسؤوليته في هذا العالم. طبعاً الحركة السابقة على هذه ليست سوى حركة تكوينية مماثلة لحركة سائر الحيوانات والنباتات، أما عند ما تتوجه الروح لمعرفة تكليفها ووظيفتها فهنا تبدأ الحركة الإنسانية.
وهنا لا بد من توضيح نوعين من الحركة لدى الإنسان:
1- الحركة الجسمية.
2- الحركة الروحية والمعنوية.
نقطة البداية لحركة الإنسان الجسمية هي انعقاد النطفة في رحم الأم. هذه الحركة الجسمية لا ربط لهابا لحركة الروحية للإنسان وهي خارجة عن بحثنا. فالحركة الجسمية حركة دائرية تبدأ من التراب وتنتهي عند التراب. يقول تعالى: ﴿منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى﴾.
أما الحركة الروحية للإنسان فهي حركة مستقيمة عندما يتوجه الإنسان للتعرف على نفسه وعلى العالم من حوله ويفهم الواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، فما عليه إلا أن يسير في حركة مستقيمة نحو لقاء الله تعالى والتنعم في جوار رحمة الحق، أو أن هذا الإنسان يتنكب عن الصراط ويسير في حركة تسافلية نحو الحضيض حيث يستقر عند غضب الله تعالى ويرد جهنم وبئس القرار. فمنتهى حركة الإنسان دائماً عند الله عزّ وجلّ أما إلى رحمته أو إلى غضبه ولذلك كانت الآية عامة لجميع الناس في سورة الانشقاق حين قال تعالى: ﴿يا أيها الإنسان أنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه﴾. فالجميع يكدح إلى الله تعالى ليلاقيه ولكن المحسن يلاقي رحمة الله والمسيء يلاقي غضبه أعاذنا الله منه.
إذاً، يمكن لنا أن نستخلص التالي:
أولاً: الحركة الجسمية حركة دائرية أما الحركة الروحية فهي حركة مستقيمة.
ثانياً: الحركة الجسمية حركة جبرية غير اختيارية (وبتعبير آخر حركة تكوينية) بمعنى أن الإنسان إذا اختار الالتزام بتعاليم الأنبياء، في الأبعاد الثلاثة (الفكرية، الأخلاقية، العملية) فإنه يصل إلى الكمال وأن أعرض عن تعاليم الأنبياء وتنكب عن هديها فإنه يهوي في حضيض المذلة والعذاب الأبدي.
الله سبحانه وتعالى يهدي ويصلح ويربي المحسنين في هذه الأبعاد الثلاثة حتى ييسّر لهم الوصول إلى لقاء الله وإلى جوار رحمته حيث الفلاح والفوز العظيم ﴿وأولئك هم المفلحون﴾.