هذا البحث مستقى من البحث القرآني التفسيري للعلامة المجاهد آية الله مشكيني في معرض تفسيره للسورة المباركة "لقمان " ونحن بعد اطلاعنا عليه ووقوفنا على أهميته، ارتأينا تقديمه لقراء مجلة بقية الله الأعزاء لتعميم الفائدة. وقد قمنا بشيء من التصرف في بعض جوانبه حيث اقتضت الحاجة دون أي تحريف أو إخلال والله المستعان. ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم . تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ﴾ (لقمان/ 1- 3).
تعتبر سورة لقمان من السورة المكية المتضمنة لمعانٍ عميقة مرتبطة بالأخلاق الإسلامية الرفيعة وتتألف من أربع وثلاثين آية.
* ألم:
اختلف المفسرون في المراد من الحروف المقطعة التي تبتدئ بها بعض السور القرآنية ومنها هذه السورة الكريمة. وهنا بعض الآراء:
1- إن هذه الحروف رمز بين الله تعالى وبين نبيه، ولا يمكن لأحد سوى النبي أن يعرف سرها ومغزاها. حتى قيل أنه لعل جبرائيل الأمين الذي نزل بالقرآن على قلب النبي لا يعرف سر هذه الحروف أيضاً.
2- الرأي الثاني وهو أن النبي عندما كان يتلو القرآن على مسامع المشركين كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ويحاولون التهرب من سماع الآيات الإلهية حتى لا تسحرهم كما يزعمون. فكان الابتداء بهذه الحروف: ألف، لام، ميم... من أجل جذبهم وإثارتهم للاستماع ثم يتابع المطالب التي يريد ذكرها أساساً: تلك آيات الكتاب الحكيم...
3- وهناك احتمال ثالث وهو إظهار عجز العرب عن مجاراة القرآن في بلاغته وفصاحته فكأنه يقول لهم أن هذا القرآن الذي ترونه أمامكم مؤلف من هذه الأحرف العربية: الألف واللام والميم وغيرها، وهذه الأحرف في متناول أيديكم وأنتم تعرفونها جيداً فركبوا منها العبارات التي تتضمن المعاني السامية بالفصاحة والبلاغة التي يمتاز بها القرآن.
فإذا كنتم عاجزين عن ذلك، وأنتم أمراء الفصاحة والبلاغة، فعليكم أن تعلموا أن هذا الكتاب الحكيم هو كتاب إلهي وليس من افتراءات البشر.
* تلك آيات الكتاب الحكيم
في هذه الآية الصغيرة، والآية التي تليها ﴿هدى ورحمة للمحسنين﴾، ذكر أربعة أسماء للقرآن وهي: الكتاب، الحكيم، الهدى، الرحمة. طبعاً تعتبر هذه الأسماء من الأسماء غير المشهورة للقرآن، فأكثر الأسماء شهرة هما: القرآن والفرقان. الآن نحاول التعرف على هذه الأسماء.
* الكتاب
الكتاب اسم مصدر بمعنى اسم المفعول أي المكتوب يقول تعالى في الآية 22 من سورة البروج: ﴿بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ﴾. وهذا يعني أن القرآن قبل أن ينزل على قلب النبي ويكتسي قالب الألفاظ وينتشر بين الناس كان مكتوباً في اللوح المحفوظ، بل كان موجوداً قبل خلق الإنسان كما يستفاد من الآيات الأولى في سورة الرحمن. يقول تعالى: ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ *عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنسَان ﴾(الرحمن/ 1- 3).
* الحكيم
الحكيم بمعنى المحكم والمستحكم، هذا الكتاب الحكيم يعني لا أن ألفاظه وعباراته محكمة فحسب، بل كذلك معناه ومحتواه، بحيث لا يمكن التبديل فيه أبداً، ولا تطاله يد التحريف مطلقاً.
فهذا الكتاب الإلهي لم يضف إليه كلمة ولم تنقص منه كلمة تماماً كما عبر في مكان آخر: ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾.
هدى ورحمة للمحسنين
الهدى مصدر بمعنى إراءة الطريق، وهي بمعنى الهادي والمبين للطريق، وقد قال "هدى " ولم يقل "هادياً " لأجل نكتة لطيفة وهي إظهار أن القرآن بلغ الكمال والغاية في الهداية. إذا امتلك شخص صفة العدالة نطلق عليه اسم: العادل، ولكن إذا أردنا أن نبالغ في وصفه ومدحه فنقول له: أنت عين العدل، إشارة إلى بلوغه الغاية في العدالة والاستقامة، وكذلك الإنسان المؤمن هو الذي يمتلك صفة الإيمان. ولكن عندما يبلغ كمال الإيمان يقال له: أنت الإيمان."كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام في معركة الخندق: برز الإيمان كله إلى الشرك كله".
إذاً فإطلاق "الهدى " على القرآن إشارة إلى أن القرآن كتاب الهداية في مختلف جوانبها وفي أسمى مراتبها وأكملها على الإطلاق.
وفي الواقع هناك نوعان من الهداية: الهداية التكوينية والهداية التشريعية.
* الهداية التكوينية
الهداية التكوينية عبارة عن أن الله تبارك وتعالى يجعل في ذات المخلوق قدرة واستعداداً للسير في طريق كماله اللائق به مع توفير كل الأسباب والمتطلبات اللازمة لذلك، سواء كان هذا المخلوق مريداً كالإنسان والحيوان أم غير مريد كالنباتات والجمادات.
فهذا الكون والأنظمة الطبيعية التي تحكمه بحيث تنظم حركة النجوم والكواكب والأرض وما عليها من ماء وتراب وهواء وغير ذلك، كل هذا نوع من الهداية التكوينية.
البذرة التي تزرع في الأرض وتوفَّر لها كل العوامل الطبيعية للنمو من قبيل الماء والهواء والحرارة المناسبة والأسمدة وغير ذلك مما يؤدي إلى نمو هذه البذرة وصيرورتها نبتة كاملة منها ما هو مثمر ومنها غير ذلك، تطوي كل هذه المراحل دون إرادة منها وهذا نوع من الهداية التكوينية.
والحيوانات التي جعل الله فيها استعداداً خاصاً، مضافاً إلى ما يمتلكه النباتات من استعداد يدفعه لجلب ما ينفعه ويصلح شأنه واجتناب ما يضر ويؤذيه، والقيام بما يحفظ نسله وذريته من الهلاك والاندثار مثل غريزة الإنجاب. وباختصار جعل فيه ما يحتاجه في جميع شؤون الحياة كل هذا يعتبر نوعاً من أنواع الهداية التكوينية.
القرآن الكريم يعبر عن هذا النوع من الهداية "بالوحي " كما ورد في سورة النحل قال: ﴿وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً... ﴾.
فهذا الوحي تعبير عن غريزة الإلهام المودعة في أصل خلقة النحل للسير في هذا الطريق، وهذا نوع من الهداية التكوينية.
وقد أشار إلى ذلك موسى عليه السلام في جوابه لفرعون حينما قال: ﴿ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾.
* الهداية التشريعية
وهي أن الله سبحانه وتعالى بما وهب للبشر من فكر وعقل يميزون به بين الحسن والقبيح والحق والباطل. وبما ركبهم عليه في أصل خلقتهم من الإرادة والاختيار، بحيث يمكن الاختيار بحرية، فقد أرسل إليهم الأنبياء ليبينوا طريق الهداية التشريعية للبشر.
فكما أن الطلاب يهتدون من خلال شرح المعلم لفهم المطالب العلمية وهذه الهداية هداية تشريعية لا تكوينية، كذلك القرآن هو مصداق الهداية التشريعية الإلهية، الذي يبين صلاح الفرد والمجتمع ويدعو الناس إلى طاعة الله تعالى وعبادته، وإلى الإنفاق والعدالة، واحترام الآباء والأمهات، وصلة الرحم، ومراعاة حقوق الآخرين وسد كل المسائل التي يحتاجها المجتمع الإنساني وفرد الإنسان لصلاحه وفلاحه على مستوى العقائد والأخلاق والأعمال.
هؤلاء البشر، منهم من يتقبل الهداية التشريعية ويسلّم لطاعة رب العالمين، ومنهم من يتكبر ويسير في طريق الباطل والضلال. إذاً الهداية التشريعية يمكن مخالفتها، أما الهداية التكوينية فليست قابلة للتخلف. فالهداية التكوينية للإنسان من قبيل خلقه ونموه غير قابلة للتخلف، وقد أشار إليها القرآن في أول سورة الدهر قال: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً﴾ (الدهر/ 1- 2).
ثم أشار تعالى إلى الهداية التشريعية التي يمكن أن يتقبلها الإنسان، كما يمكن أن يتخلف عنها قال تعالى: ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكراً وأما كفوراً﴾ (الدهر/3).
وعلى مستوى الهداية التشريعية للإنسان هناك نوعان من الهداية، 1- الهداية بالأصالة 2- الهداية التبعية والاستطرادية.
* الهداية بالأصالة
إن هدف القرآن الأساسي هو الهداية المعنوية للإنسان لا الهداية المادية فالقرآن كتاب هداية وليس كتاب تاريخ أو فيزياء أو غير ذلك. ولذلك فالأهداف الأساسية التي يريدها القرآن ويريد هداية الإنسان إليها هي:
1- التعرف على العقائد الحقة وتوضيح المعارف الإلهية العظيمة في مجال التوحيد ومعرفة أسماء الله وصفاته وفي بيان النبوة وأحوال يوم القيامة.
2- هداية الإنسان إلى الأخلاق السامية وتربية نفس الإنسان وتهذيبها.
3- تبيين البرنامج العملي الذي يجب أن يسير عليه الإنسان من قبيل الأحكام الفقهية الفردية والاجتماعية. ومنها مسائل الصلاة والصوم والزكاة والخمس والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من المسائل.
* الهداية التبعية
وهي التي لا تكون الهدف الأصلي للقرآن. وأن كانت تذكر بالتبع. كالإشارات العلمية الكثيرة التي تتضمنها آيات القرآن الحكيم (حتى قال البعض أنه يوجد أكثر من ألف آية يمكن استنباط إشارات علمية لطيفة منها). منها إشارته إلى حركة الشمس التي أثبتها العلم الحديث بعدما كان ذائعاً أنها ساكنة لا تتحرك. قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾ (يس/ 37).
ومنها بيان مراحل خلقة الإنسان بوصف دقيقة للغاية أثناء الاستدلال على المعاد. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ (المؤمنون/ 12- 14).
وهكذا يوجد الكثير من أمثال هذه الإشارات إلا أن المقصود الأصلي للقرآن هو بيان أحوال المبدأ والمعاد والرسالة والموت وسائر المعارف الإلهية، ويكون بيان هذه المسائل العلمية بالتبع.