مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناجاة المريدين (7): على المُقْبِلين عليه مُقْبلٌ

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


عن الإمام السجّاد عليه السلام: "فَيا مَنْ هُوَ عَلَى الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ مُقْبِلٌ، وَبِالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ عآئِدٌ مُفْضِلٌ، وَبِالْغافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ رَحِيمٌ رَؤُوفٌ، وَبِجَذْبِهمْ إلى بابِهِ وَدُودٌ عَطُوفٌ".
يدور هذا المقطع من المناجاة حول التعريف بطالبي الله والباحثين عنه، حيث يكون هدفهم الوصول إلى القرب الإلهي. الأمر الضروري في هذا المسير المليء بالتعرّجات، امتلاك قدوة ودليل في السير والسلوك للوصول إلى الكمال. ومن اللازم أيضاً، التعرّف والاهتمام، بعناية الله تعالى، بسالكي طريقه.


*القرب هدف الخواصّ
يظهر من خلال دراسة مقاطع "مناجاة المريدين" [في الأعداد السابقة]، وجود هدف أعلى من الأهداف التي يسعى الناس للوصول إليها من خلال أدعيتهم، وهو هدف يسعى أولياء الله وأحباؤه الخواصّ الوصول إليه، وهو ما يُعبَّر عنه باسم "القرب الإلهي".
ويعمل الناس للوصول إلى مصالح في الآخرة قد أدركوا نماذج عنها في الدنيا. ويبادرون للقيام بوظائفهم والإتيان بتكاليفهم لأجل الوصول إلى الثواب في الجنّة ونعيمها والنجاة من العقاب الإلهيّ ومن عذاب جهنم ويغفلون عن وجودِ هدفٍ أعلى مطلوب بالذات، أي "القرب الإلهي".

*من أقصر الطرق إلى الله: مرافقة الطليعة
يبيِّن الإمام عليه السلام في مناجاته التعريف بالباحثين عن الله الذين يريدون الوصول إلى القرب الإلهي، ويطلبون من الله تعالى إرشادهم إلى أقصر الطرق، وأقلّها خطراً؛ ليتمكّنوا من الوصول إلى هدفهم الأساس بسرعة.
من المسائل التي تعرَّض إليها الإمام عليه السلام في مناجاته، الحاجة إلى القدوة والطليعة في السير والسلوك، وعبور مسير التعالي والتكامل الصعب؛ لأنّ وجود القدوة في كلّ حركة، خاصّة في السير والحركة المعنوية، له دور أساس في نجاح الإنسان. إذا تمكّن الإنسان أثناء مسيره من مرافقة شخص لائق، عارف بالمسير الموصل إلى المعبود، قطع الطريق بسرعة واطمئنان. من هنا، حاول الإمام عليه السلام التعريف بأوصاف القدوة والطليعة في السير والسلوك والوصول إلى القرب الإلهيّ.

*إدراك عناية الله ورحمته دافع للمسير
المسألة الأخرى التي يوضحها الإمام عليه السلام تتعلّق باهتمام وعناية المعبود بسالك طريقه. فإذا عرف الإنسان بعد معرفة الطريق والمقصد والمرافقين، ما هي العناية التي أحاطه الله تعالى بها، ازداد عزمه على قطع طريق القرب إلى الله. لذلك يشير الإمام عليه السلام إلى هذه المسألة قائلاً: "فَيا مَنْ هُوَ عَلَى الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ مُقْبِلٌ، وَبِالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ عآئِدٌ مُفْضِلٌ، وَبِالْغافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ رَحِيمٌ رَؤُوفٌ، وَبِجَذْبِهمْ إلى بابِهِ وَدُودٌ عَطُوفٌ".

يتمحور هذا المقطع حول بعض صفات الله تعالى، والتي هي اللّطف والعناية والفضل والإحسان بحقّ العباد المطيعين، وكذلك الرحمة والرأفة بحقّ الغافلين. أمّا سبب ذكر هذه الخصائص والصفات، فهو لأنّ الإنسان يتأذّى إذا تحدّث مع شخص ولم يعرْه الانتباه. ولكن إذا علم الشخص أنّ مخاطبه يحيطه بالكثير من العناية والاهتمام واللّطف، وحتّى الرحمة والرأفة بالغافلين والذين ابتعدوا عنه، فهو في هذه الحال لن يبخل، بل سيوفّر كلّ مقدّمات جذب الآخر وجلب انتباهه؛ ويزداد فيه الدافع نحو الحديث معه أضعافاً.

إنّ التعرّف إلى عناية واهتمام الله تعالى بالعباد، يؤمّن الأرضيّة لإدراك تجلّيات صفات الجلال والجمال الإلهيين، ويؤدّي دوراً على مستوى سرعة حركة الإنسان نحو الله، والوصول إلى القرب الإلهيّ.

*أوّل خطوة: الالتفات إلى لطفه
إنّ إدراك المعاني المتعالية المتعلّقة بالله تعالى، ومن جملتها لطفه وعنايته بالعباد، يدفعنا إلى إنزالها إلى المستوى الأدنى، وإلى مستوى العلاقات العادية بين الأشخاص؛ لأنّ إدراك المفاهيم والنماذج المتعالية يَمُرُّ عبر النماذج والمفاهيم القابلة للإدراك. من هنا يجب القول: إذا أراد الإنسان إقامة علاقة مع إنسان آخر، سواء كان دافعه الاستفادة من ماله وعلمه، أو التمهيد للوصول إلى مقام أو منصب، أو كان الدافع الاستئناس والصداقة، يجب أن يقوم بجلب انتباه الطرف الآخر. إذا أراد الطالب أو التلميذ مثلاً جلب انتباه الأستاذ ليستفيد أكثر من وجوده، فيجب أن تصدر عنه أفعال وحركات وسلوكيات تؤدّي إلى المطلوب.

قد يتمكّن الإنسان، ومن خلال حركاته الابتدائية، من جلب انتباه الطرف المقابل. في هذا الحال، تسهل الأمور أمامه ويتمكّن من الوصول إلى أهدافه بسرعة. وتارة قد يبذل الإنسان جهوداً لمدة سنوات ليتمكّن من جلب انتباه شخص آخر.

هناك الكثير من الأمور الدنيوية التي يصل فيها الإنسان إلى ما يريد، بعد بذل جهد وصرف وقت. إلّا أنّ عظمة العلاقة مع الله تعالى في أنّه يحيط الإنسان بلطفه، بمجرد أن يلتفت إلى المعبود الوحيد. ليس هناك من فاصلة كبيرة بين الإنسان والله، بل يتمكّن الإنسان من الخلوة والأنس بالله تعالى بسهولة. فلا وجود لأيّ مانع من قبل الله تعالى أمام العباد.
أمّا الذي يحرم الإنسان من العلاقة بالله فهو الأنانيات والأهواء النفسانية، والوساوس الشيطانية. إذا تمكّن الإنسان من التخلّص من هذه الموانع، تعلّق بالله، وبذلك يتوجّه إليه اللطف والعناية الإلهية اللامحدودة.

* القرب: أكبر رأسمال وجوديّ
هل هناك قيمة وفخر أعلى من أن يدعونا الله تعالى بذاته نحو أكبر رأسمال وجوديّ، الذي هو السعادة الأبدية والقرب إلى الله، وقد أرشدنا إلى أقرب الطرق للوصول إليه وأزال من أمامنا الموانع؟! قد يكون إدراك مقام القرب إلى الله والأنس به صعباً عند أغلب الناس. إذا تمكّن الإنسان بجهوده وبتوفيق من الله من إدراك هذا المقام وعظمته، وأدرك أن ذلك هو الهدف الأعلى والنهائي، ثم قارن بين هذا الهدف والأهداف الدنيوية، عَلِمَ حينها أنّه من الجدير أن يبذل جهوداً ويصرف وقتاً لمدة مئة عام للوصول إليه.

وإذا كان الإنسان يبذل جهوده للوصول إلى المقاصد الدنيوية، ويزيد جهده كلّما كان المقصد أكبر، لا بدّ له من بذل جهود كبيرة أيضاً للوصول إلى هذا الهدف الأخرويّ المتعالي والقيّم. وليس غريباً أن يصرف عمره للوصول إلى هذا الهدف المتعالي، إلّا أنّ الله تعالى رؤوفٌ رحيمٌ عطوفٌ بالعباد، لدرجة أنه ينشر رحمته فوق رؤوسهم بمجرد التفاتهم إليه، ويحيطهم بعنايته بمجرد أن يبذلوا أدنى جهد للارتباط به، ويغمرهم بإحسانه ونعمته وفضله اللامتناهي.

كما أنّه لم يحرم العباد الغافلين من رحمته رغم أنّهم انصرفوا نحو الدنيا والأهواء النفسانية والوساوس الشيطانية. وهذا ما سيأتي لاحقاً.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع