آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي(حفظه الله)
نستكمل في هذا المقال دلالات مناجاة الإمام زين العابدين عليه السلام: "إِلهِي فَاسْلُكْ بِنا سُبُلَ الوُصُولِ إِلَيْكَ وَسَيِّرْنا فِي أقْرَبِ الطُّرُقِ لِلْوُفُودِ عَلَيْكَ وَقَرِّبْ عَلَيْنا البَعِيدَ وَسَهِّلْ عَلَيْنا العَسِيرَ الشَّدِيدَ".
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).
والخطاب في الآية موجّه إلى كافّة البشر، وليس إلى المؤمنين فقط. لذلك، فالمقصود من الحركة في هذه الآية، الحركة التكوينيّة والملاقاة العامّة ورجوع الجميع إلى الله تعالى. وعلى هذا الأساس، ليست هذه الملاقاة فخراً وامتيازاً لأحد.
* الاستفادة من المسير اختيارية
وكما أنّ كافة الموجودات، ومن جملتها الإنسان، جاءت إلى هذه الدنيا بالجبر ومن دون اختيار، فهي سترجع إلى الله تعالى وتلاقيه بالجبر أيضاً ومن دون اختيار. إلا أن الإنسان، وبالإضافة إلى امتلاكه هذه الحركة التكوينية، يمتلك حركة اختيارية يمتاز بها، مع الجن، على سائر الموجودات. فإذا تمكّن الإنسان من الاستفادة من هذا المسير، والحركة الاختيارية كامل الاستفادة، يصبح مقامه أعلى من الملائكة. وأما إذا لم يتمكّن من الاستفادة الصحيحة من ذلك، سقط إلى أدنى درجات الانحطاط والحضيض. إنّ هذا المسير الاختياري والكمالي خاصّ بالذين يؤمنون بالله، وأما الذين لا يؤمنون بالله تعالى فهم محرومون منه.
*الله غاية المسير
مفهوم كون الله تعالى غاية السير الاختياري والتكاملي للإنسان يلزم منه كون الله تعالى هدفاً ومقصداً للسير الاختياري والتكاملي للإنسان. إن الإنسان، في البداية، عندما يكون بعيداً عن الله تعالى تتقلّص المسافة بينه وبين الله بواسطة هذا المسير. وعندما يصل إلى نهاية المسير، يكون قد اقترب بالكامل من الله تعالى. عندما يسافر الإنسان من مدينة إلى مدينة، تتقلص المسافة بينه وبين المدينة الثانية من خلال الحركة، وتزول هذه المسافة عندما يصل إلى المدينة التي يقصدها.
فالمؤمن الذي يعمل للوصول إلى الله تعالى، يجب أن تكون سلوكيّاته وعباداته ذات صبغة إلهيّة وأن يكون قصده التقرّب. إنّ قصد التقرّب إلى الله تعالى هو لازم للإيمان ومطلوب بالذات للمؤمن. فكل من يعتقد بالله تعالى، يعمل ويسعى للتقرّب والوصول إليه، حتى لو لم يكن ملتزماً بلوازم هذا الاعتقاد. فقد يختار طريقاً غير صحيح ويظن أنه يوصله إلى الله تعالى؛ كما أن عبّاد الأصنام كانوا يحاولون التقرب إلى الله تعالى عن طريق التمسّك والتوسّل بالأصنام وعبادتها، وهذا خيال باطل. يقول الله تعالى في هذا الشأن: ﴿أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر: 3).
* طلب القرب: بالذات وبالعرض
يرغب جميع المؤمنين في القرب والوصول إلى الله تعالى، إلّا أن هذا القرب مطلوب بالذات للبعض وهو مطلوب بالعرض، للبعض الآخر؛ بمعنى أن هدفهم من القرب إلى الله تعالى الاستفادة من نِعَم الجنة، والرحمة الإلهيّة، والحور، وقصور الجنة وهي من لوازم وآثار القرب إلى الله تعالى. وبما أن هذه المجموعة تعلم أن الوصول إلى الله تعالى إنما يتم من خلال القرب، فهم يعملون للقرب منه.
إذا كان مقرراً أن يصلوا إلى النعم الأخرويّة الخالدة من دون العمل للقرب إلى الله، فلن يبادروا إلى البحث عن القرب الإلهي. أما الذين يعتبرون القرب إلى الله مطلوباً ذاتاً لهم، فهم يعملون للقرب حتى لو لم يكن هناك جنّة أساساً. إذا كان رضا الله تعالى بالنسبة لهؤلاء يقتضي، مثلاً، إدخالهم جهنم ألف سنة، فهم سيرضون بذلك وسيرجحونه على ما يخالف الله تعالى.
من هنا جاء في حديث المعراج عن قول روح السالك الواصل إلى رضوان الحق: "إلهي عرفتني نفسك فاستغنيت بها عن جميع خلقك. وعزتك وجلالك لو كان رضاك في أن أُقطّع إرباً إرباً وأُقتل سبعين قتلة، بأشد ما يقتل به الناس، لكان رضاك أحبّ إليّ"(1).
* يحبونها لأنها من المعبود
ولتبسيط الفكرة، فإن هذين النوعين مشهودان في العلاقات الإنسانية، فتارة يتّجه الإنسان للقاء صديقه لأنه يريد تأمين احتياجاته أو توفير ما فيه مصلحته؛ لذلك يهتم به بقدر ما يهتم صديقه به وبضيافته وإكرامه وتلبية ما يريد منه؛ وتارة أخرى، يتّجه لصديقه بدافع الشوق والصحبة والمحبة، فيكون كل ما يجمع بينهما لذيذاً ولو كان مالحاً أو مراً، بل لن يهتم بتفاصيل الضيافة والشكليات الأخرى.
إنّ الشخص المشتاق للقاء الله، والذي تشتعل فيه نيران لقاء المحبوب، والذي يبحث عن رضا المعبود، حاضر وجاهز لذلك حتى لو كان رضا المعبود يقتضي الاحتراق بنار جهنم. طبعاً إن الله تعالى لا يعرض محبيه على النار، بل أعدّ لهم ضيافة عظيمة في الجنة ووضع بين أيديهم نعماً خالدةً لا مثيل لها. الغرض مما تقدم هو توضيح أساس معرفة محبّي الله، الخواص الذين يفكرون بالقرب إلى الله، الذين يحبون النعم الإلهية؛ لأنها جاءتهم من المعبود فقط.
*الله هو النعمة هو الجنة
من الواضح أن كافة المؤمنين يطلبون القرب إلى الله تعالى. إلا أن البعض يطلب القرب إليه لأجل الاستفادة من لوازم القرب ومن النعم الإلهية، فيكون ذلك القرب إلى الله مطلوباً عرضاً عندهم. في المقابل، هناك من وصل إلى أعلى مراتب معرفة الله، فكان القرب إلى الله مطلوباً ذاتاً لهم. وأما الاستفادة من لوازمه فهو مطلوب بالعرض. نشاهد ذلك في الأدعية ومناجاة المعصومين عليهم السلام ومن جملة ذلك هذه المناجاة، التي ورد فيها طلب الوصول إلى هذه المرتبة العالية من القرب. لذلك ليس في هذه المناجاة أي حديث عن الجنة والنار، بل تحدّث الإمام عليه السلامفي خاتمتها عن أن الله تعالى هو النعمة وهو الجنة. وهذا يحكي عن الفناء في الجمال الإلهي. أما الثابتون في مراتب المعرفة المتدنّية، فيكون الطمع بالجنة والخوف من النار هاماً عندهم.
والواضح أيضاً، أن للإنسان سيراً تكوينياً نحو الله تعالى، كما أن له سيراً اختيارياً أيضاً. وهذا السير يؤدي إلى كماله وتعاليه. البعض يتحمل مشقات كبيرة وجهوداً واسعة لفهم معنى السير إلى الله والقرب إليه. هؤلاء ينبغي لهم شكر الله تعالى على ما هم عليه. أما العاجزون عن فهم معنى القرب إلى الله فحاوَلوا توجيه اهتمامهم نحو العبارات التي تحكي عن القرب إلى الله في القرآن. وقالوا إنّ متعلّق القرب في تلك العبارات محذوف فأرجعوا القرب إلى الله، إلى القرب من رحمة الله تعالى واعتبروا أن الآية الشريفة: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾ (النجم: 42) كأنها تقول: إنّ إلى رحمة ربك المنتهى. هؤلاء لا يمكنهم أن يتصوروا للإنسان شيئاً آخر غير رحمة الله ونعمه الأخروية.
*المعرفة والعزم نعمة كبرى
المسألة التي أشرنا إليها أن هناك طرقاً خاصة للوصول إلى القرب الإلهي. ويمكن الوصول إلى الله من خلال السير على هذه الطرق فقط. ليس صحيحاً أن كل شخص يمكنه اللجوء إلى ذوقه ومزاجه ليختار طريق الوصول. لذلك يجب المبادرة لمعرفة طرق الوصول وبالأخص الأقرب منها.
إنّ الوصول إلى هذه المعرفة، والاعتقاد بها، هو توفيق ونعمة كبرى وضعها الله تعالى بين أيدي محبّيه. قد يتمكن بعض الأشخاص، ومن خلال قراءة القرآن والروايات، من معرفة طرق القرب إلى الله أو معرفة آثار وبركات عبادة الله وأعمال الخير، إلا أنهم لن يصلوا إلى مرتبة امتلاك العزم للعمل بمعرفتهم. إن الذي يعطي العزم للعمل هو الاعتقاد بتلك الحقائق وهذا هو الذي يدفع الإنسان للعمل. إذا أدرك الشخص ثواب الصلاة أول الوقت فلن يقصر في ذلك ولن يؤخر صلاته. وأما إذا لم يصل إلى هذا الإدراك فلن يختلف الأمر لديه بين الصلاة في أول الوقت أو في آخره؛ وهذا ما يجعله محروماً من فضيلة وثواب الصلاة في أول وقتها.
1.بحار الأنوار، المجلسي، ج77، ص27.