آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
يسعى المؤمنون، باستمرار، بحثاً عن المعارف المتعالية للوصول إلى النعم الدنيويّة والأخرويّة. ويناجون الله تعالى طلباً للقرب منه، ويتوسلون لذلك بأهل البيت عليهم السلام . كذلك يعتبر المؤمنون، الذين وصلوا إلى مراتب معرفة الله العالية، أن القرب من الله تعالى مطلوب ذاتي لهم. ويحصل هذا الأمر عن طريق السير الاختياري وبأساليب وطرق خاصة ممكنة... لا بالأساليب المزاجيّة التي لا توصل إلى مكان.
*معارف عالية
وتشتمل الأدعية والمناجاة الواردة عن أئمتنا عليهم السلام على معارف عالية وحِكَم، لا نظير لها، ومسائل عرفانية خالصة يُغفل عنها عادةً، بل قليلاً ما يتمّ التعرّض لها. صحيح أننا غير قادرين على فهم حقيقة تلك المعارف الخالصة إلّا أن ذلك لا يمنع الحديث والحوار حولها. وينبغي أن لا نبخل باستنتاجاتنا من تلك المعارف حتى لو كانت ناقصة. يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "نَصَر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(1).
لذلك وفي إطار هكذا رسالة عظيمة، تتعرّض لدراسة مناجاة الإمام السجاد عليه السلام "مناجاة المريدين"، أي مناجاة طالبي الله تعالى، علّنا نستفيد من معارف هذا الإمام العرفانية الخالصة ليكون لنا نصيب في تقديم هذه المعارف للآخرين.
*أقرب طرق الوصول
يقول الإمام عليه السلام في المقطع الأول من تلك المناجاة: "سُبْحانَكَ ما أَضْيَقَ الطُّرُقَ عَلى مَنْ لَمْ تَكُنْ دَلِيلَهُ، وَما أَوْضَحَ الحَقَّ عِنْدَ مَنْ هَدَيْتَهُ سَبِيلَهُ، إِلهِي فَاسْلُكْ بِنا سُبُلَ الوُصُولِ إِلَيْكَ وَسَيِّرْنا فِي أقْرَبِ الطُّرُقِ لِلْوُفُودِ عَلَيْكَ وَقَرِّبْ عَلَيْنا البَعِيدَ وَسَهِّلْ عَلَيْنا العَسِيرَ الشَّدِيدَ".
يستفاد من العبارات الأولى للمناجاة، أن المناجي الذي هو في صدد الوصول إلى الله والقرب منه، يبحث عن طريق يوصله إلى الله. لذلك، نراه يتوسّل الدعاء للوصول إلى هذا المقصد فيؤكد بالقول: إن الطريق ضيق، على من لم تكن دليله، بل سيكون ذاك المسير صعباً حيث لا يوصل إلى أيّ مكان، لأن الطريق يتضح بهداية الله تعالى.
إن الذين أظهْرتَ لهم الطريق الأقرب والأقل خطراً من بين الطرق المتعددة، سينجلي لهم الطريق في ظلّ هدايتك وسيصلون إلى المقصد. وسيكون الطريق واضحاً لديهم، وضوح الحق من الباطل. وأما مطبّات وتعرّجات طريق الهداية فلن تؤدي بهم للوقوع في الإبهام والشك والتردّد.
*سموّ الهدف يهوّن صعوبات الطريق
طبعاً، في كل طريق صعوبات، بالأخص إذا كان الهدف عالياً ونفيساً، وعندما تصبح الصعوبات أكثر، يجب على عابري هذا الطريق تحمّلها. ويجب عليهم بذل جهودهم أيضاً للوصول إلى الهدف، انطلاقاً من المعرفة والرؤية الضروريتين.
إن الإنسان الجاهل، والفاقد للمعرفة، لن يتمكّن من العبور على مسير التعالي والكمال، وسيبتلى بالاعوجاج والانحراف عن المسير.
يؤدي الجهل، والشبهة، والتردّد إلى اتباع قاطعي طريق السعادة. لذلك نراهم يتحرّكون وراء كل منادٍ. وبالتالي لا يمكن أن يصلوا إلى السعادة والكمال: ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ (النور: 40). والأسوأ من ذلك الشخص المبتلى بالجهل المركب الذي يختار طريق الشقاء، وهو يظن أنه يتحرك في طريق السعادة. يقول الله تعالى عن هؤلاء الأشخاص: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: 103 - 104).
*الله يدلّ على الطريق
من الواضح أنّ الضلال والانحراف والحيرة هي عقوبة على الأعمال القبيحة التي يأتي بها الإنسان عن علم ومعرفة. وأما الله تعالى فلا يظلم أحداً. والإنسان هو الذي يظلم نفسه، وهو الذي يمهّد بيده الأرضيّة للحرمان من سعادته.
نفهم من المقطع الأول من المناجاة أن الهدف النهائي للإنسان هو الوصول إلى الله تعالى. يجب أن يعمل الإنسان للوصول إلى المعبود. إن مناجاة المريدين هي للباحثين عن الله تعالى والذين يرغبون في الوصول إلى المعبود. ثم هناك طرق متعددة للوصول إلى الله؛ فعلى الإنسان أن يطلب من الله إرشاده إلى الطريق الأقرب والأقل خطراً.
*حركة جميع الموجودات.. نحو الله
يُفهم من التعاليم القرآنيّة والروائيّة أنّ ما هو موجود في هذا العالم، هو في حال سير وحركة نحو مقصد وغاية واحدة، نحو الله تعالى.
وأشار الله إلى هذه الحقيقة بعبارات متعددة:
1 - ﴿أَلَا إِلَى الله تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ (الشورى: 53).
2 - ﴿وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾ (هود: 123).
3 - ﴿أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ (التين: 8).
إذ يشير تعالى إلى أن الخزائن اللامتناهية لما هو موجود في هذا العالم هي عنده تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ (الحجر: 21).
يظهر من عبارة ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ أن خزائن وذخائر الموجودات الممكنة غير متناهية؛ لأن الله وما عند الله غير محدّد. أنزل الله تعالى إلى هذا العالم من هذه الخزائن مقداراً محدّداً ومعينا، لأن من جملة خواصّ العالم، الذي نعيش فيه مع موجودات أخرى، أنّه محدود، فكل ما هو موجود فيه محدود وله مقدار معيّن. إلّا أن كافة هذه الموجودات المحدودة هنا، غير محدودة عند الله. الله تعالى هو الذي أنزل إلى هذا العالم من خزائنه وإلى الله تعالى ستعود كافّة الأمور.
*﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾
يقول الله تعالى في آية أخرى حول تدبير أمور هذا العالم وعودته إليه: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون﴾ (السجدة: 5).
على كلّ الأحوال، إنّ كلّ ما هو في هذا العالم قد أرسل إلى هذه الدنيا في قوس النزول. ثم يعود في قوس الصعود إلى الله تعالى. وبما أن الإنسان جزء من الأشياء والموجودات في هذا العالم، فله مسيران نزولي وصعودي. تشير الآيات المتعلقة بحشر الإنسان ورجوعه إلى الله ولقائه به، إلى المسير الصعودي.
1- الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص403.