محمود ريا
الإعلام، هذه الفسحة من الضوء التي استطاع الإنسان، بإرادة الله تعالى، أن يسلطها على جليد الجهل المترسخ على مدى الأزمان، بدأ يتحوّل هو نفسه إلى قيد جديد، يزيد الجليد تكدساً والجهل انتشاراً.
إنّ الدور الذي ينبغي لهذا الجهاز أن يلعبه هو ربما أوسع من الدور الذي أنشئ من أجله، وهو حتماً أعظم بكثير من الدور المعطى له الآن.
ومما لا شكّ فيه أنّ الإعلام أقدم من أي وسيلة وأعرق من كلّ أداة، أنّه واحد من وسائط العلاقات الاجتماعية التي نشأت مع الإنسان منذ اللحظات الأولى لوجوده على هذه الأرض.
ورغم انحصار الإعلام في تلك الأيام ضمن طرق بدائية وفي بقع محدودة، فإنّه كان يؤدي دوراً مهماً في إيصال المعلومات المهمّة وتعريف الناس بما يدور في محيطهم من أحداث.
واليوم، وبعد آلاف السنين، ما زال الإعلام يلعب نفس الدور الجوهري، وإن اختلفت المعطيات والوسائل وطرق التعبير وغيرها من الأمور.
وللأسف، فمع توسع حجم ومدى القدرة التي باتت للإعلام في عصرنا الحاضر، فإنّ شيئاً أساسياً من حقيقة وجود هذا الجهاز بدأ يفقد جوهره.
لقد كان الهدف من تطوير وسائل الإعلام وتعميمها، على الأقل عند الروّاد الأوائل الذين لعبوا دوراً بارزاً في إيجاد وسائل الإعلام الحديثة، هو تقديم خدمة أساسية إلى جميع أبناء هذا الكون، أي إيصال المعرفة والعلوم والمعلومات لهم في أي مكان يكونون فيه.
إلاّ أنّ ما نجده اليوم هو أن القوى المتحكمة بوسائل الإعلام، ولاسيّما منها تلك التي تعمل على المستوى الدولي، تعمل على تعميم الفراغ والنَفَس الاستهلاكي والمفاهيم غير الأخلاقية المتحلّلة من أي رباط مقدس، وذلك من أجل إفساد المجتمعات ودفعها باتجاه الضياع والتفسخ، وبالتالي التحكم بها وفرض نمط الحياة الغربي عليها.
وهكذا بدل أن يكون الإعلام عامل بناء وتقدم وتطور وازدهار، يتحول بالعكس إلى عامل هدم وتخلف وتقهقر وفساد، الأمر الذي يؤدّي إلى تعميم الجهل في المجتمعات بدل نشر روح العلم والمعرفة فينا.
ولنا في لبنان مثال على هذه الحقيقة، فمع تعدّد القنوات وتكاثر المحطات، لا نلمس الروح الخلاّقة المندفقة نحو الاستفادة من هذه الطاقات الكامنة من أجل إعطاء الأجيال المختلفة الحقيقة كما هي، إضافة إلى فتح الآفاق الواسعة أمامها للإطلاع على الحقائق الموجودة في هذا الكون العظيم، ونشر نماذج العلاقات السليمة والطبيعية بين الناس، وهداية الجميع إلى الحق والخير والقيم الإنسانية الرفيعة.
إنّ ما نلمسه في إعلامنا اللبناني هو نفس النزعة التي تسود وسائل الإعلام العالمية، أي تعميم السطحية، والدعوة إلى البطالة والعنف والرذيلة، وإظهار النماذج السيئة من البشر كأبطال ينبغي الاقتداء بهم، بما فيهم "أبطال" العنف والشذوذ والفساد وغيرهم.
والأخطر من كلّ هذا، إنّ وسائل الإعلام المحلية تركز على تعميم هذه المفاهيم الباطلة في أذهان أطفالنا، الذين يشكلون عماد بناء المجتمع الجديد، فنجد المحطات المختلفة تتنافس على كيفية دفع هؤلاء الأطفال إلى تقديس القوة والعنف والابتعاد عن مفاهيم الحق والخير، سواء عبر الرسوم المتحركة المتعددة الأشكال والألوان أو عبر الأفلام والمسلسلات التي يحرص عارضوها على التذكير بأنّها مخصّصة "لأطفالنا الأعزاء".
ولا تكتفي وسائل الإعلام المحلية بهذا الحدّ من الفساد، بل إنّها تقطع خطوة أجرأ في اتجاه دفع الأطفال إلى التحلّل من الأخلاق السامة وذلك عبر البرامج التي تستخدم أطفالاً مثلهم في جذب أبناء الجيل الجديد نحو الرقص والغناء، ولا سيّما منها ذلك الذي ينقل أكثر ما عند الغرب من فساد، ويقدمه على أنّه سير في طريق التحضّر والرقي.
إنّ الإعلام هو، كما يصر على وصفه الكثير من علماء الاجتماع والنفس، سلاح ذو حدين، فإذا استخدم في السبيل السوي يكون أداة دفع نحو صقل المواهب وتفجير الطاقات ودفعها في خدمة المجتمع والبشرية جمعاء، أمّا إذا استخدم في السبل الملتوية، كما يحصل الآن للأسف، فإنّه يكون أداة تدمير هائلة التأثير، لأنّه لا تبقي ولا تذر، وتدفع بالمجتمعات نحو الهلاك.
من هنا كان لا بدّ من العمل من أجل تقوية وسائل الإعلام التي تسلك السبيل الأول، سبيل الهداية والإرشاد، وإمدادها بالقوة التي تسمح لها بالوقوف في وجه وسائل الإعلام الأخرى، من أجل تقديم النموذج المثالي لما يجب أن تكون عليه وسائل الإعلام، وإلاّ فإنّ اللوم الذي يلقى هنا وهناك لن يعود له أيّ نفع، مهما حاول كل واحد منّا أن يتهرّب من مسؤولياته وأن يلقيها على الآخرين.