يعتبر كتاب "الشيعة والحاكمون" لمؤلفه العلامة الشيخ محمد جواد مغنية واحداً من أهم الكتب التي عرضت لتعاطي الشيعة والحاكمين بعضهم مع الآخر عبر التاريخ الإسلامي، ابتداءً من عصر صدر الإسلام وحكم الخلفاء الراشدين، مروراً بالعصرين الأموي والعباسي، فالعثماني، ومن ثمّ انتهاءً بحكم آل سعود والوهابيين. هذا وقد عرض المؤلف في بداية هذا الكتاب للكلام عن بدء التشيع ونمائه وانتشاره، كما عرض في نهاية الكتاب، لكتاب "أبو سفيان شيخ الأمويين" للكاتب محمد السباعي الحفناوي، منتقداً ومهفتاً لما جاء فيه من الكذب على الله ورسوله، والتدجيل والتزوير للتاريخ الإسلامي الأصيل.
وقد أشار المؤلف إلى محتوى كتابه ومضمونه في مقدمته حين قال:
"وهذا الكتاب يكشف عن هذا الموقف الأثيم المشين الذي أضعف الإسلام والمسلمين، وترك لهم من الضغائن والأحقار ما يتوارثونهم جيلاً بعد جيل. إنّه يصوّر مظالم (المستبد الفاسد) الذي تآمر بلا شورى، وتآمر وتنمّر على كلّ من لا يقره على الإثم والفساد والعدوان".
وفي الوقت نفسه يصوّر الكتاب ثبات أهل الحقّ عليه، وتمسكهم به، وتضحيتهم بالأرواح والأطفال من أجله، كما يكشف الكتاب عن الانفجار الذي زعزع أركان الظالمين، وأودى بعروشهم، وقضى عليهم الواحد تلو الآخر.
وما يزيد من أهمية الكتاب، كون مؤلفه من ألمع وأبرز الشخصيات الإسلامية في الربع الثالث من هذا القرن، علماً وحكمةً وورعاً، وجهاداً ومقارة للظلم والاستكبار والاستعمار، وسعة أفق واطلاع، ما يجعله منهلاً ينهل منه ناشدوا الحق وطلاب الحقيقة ولا ننسى كتاباته القيّمة التي لعبت دورها في الصراع الإسلامي والطروحات الفكرية الأخرى التي راجت في أوساطنا منتصف هذا القرن والتي كان أهمها كتابيه "فلسفات إسلامية" و "عقليات إسلامية".
يقع الكتاب في 239 صفحة من القطع الكبير، صادر عن دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر.
في البداية تناول المؤلف عن عهد الرسول وما كان عليه المسلمون فيه من الوحدة والاتحاد، واتباع مصدر واحد للتعاليم الإلهية، هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ومن ثمّ اختلافهم بعد انتقاله إلى ربّه، في بعض الفروع التي لا تخرج أحداً منهم عن ربقة الإسلام. وأشار إلى أهم الفرق الإسلامية في هذا المجال، وعرضهم على الترتيب وهم: الشيعة، الخوارج، المعتزلة، الأشاعرة.
بعدها عرض المؤلف للإجابة عن الأسئلة التالية: ما معنى التشيع؟ وما السبب في وجوده؟ ومتى وجد؟ وكيف نما وترعرع؟
فرأى أنّ معنى الشيعة هو الإتباع والإشياع، وتطلب هذه التسمية على أتباع علي عليه السلام والموالين له، الذين يرون إمامته بالنص.
أمّا سببه، فهو ديني صرف، لا كما حاول البعض تصويره بأنّه أمر سياسي بحت، بل هو فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقوله.
أمّا فعله صلى الله عليه وآله وسلم فهو اختياره علياً أخاً له ونجياً، وقيامه بتربيته وتنشئته منذ عهده بالحياة، واهتمامه بتعليمه وتهذيبه، حتّى أصبح كما شاء ويريد، واعتماده صلى الله عليه وآله وسلم عليه ساعة العسرة.
أمّا قوله فقد تجلى في أحاديث نبوية كثيرة أولها قوله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزول الآية ﴿وانذر عشيرتك الأقربين﴾ : "هذا وارثي ووزيري ووصيتي وخليفتي عليكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا"، وآخرها حديث الغدير، وما بينهما أحاديث جمّة منها حديث المنزلة وحديث الثقلين.
وبالنسبة لبدء التشيع، فقد ذهب المؤلف إلى اقترانه بتاريخ نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإمام بالخلافة، ورؤية جمع من الصحابة أفضلية علي عليه السلام على أصحاب الرسول على الإطلاق.
أما كيف نما التشيع وترعرع، فقد رأى المؤلف أنّه انتشر وظهر "واضحاً جلياً في عصر عثمان الذي كثرت عليه المآخذ والمطاعن حتّى أودت بحياته، ثمّ اشتدت نزعة التشيع وانتشرت أكثر وأكثر لما اشتدت مظالم الحاكمين من الأمويين والعباسيين وغيرهما، وكلما أمعن حاكم في الجور، كلما انتشر التشيع لأهل البيت عليهم السلام، والإيمان بحقهم في الخلافة".
أمّا عن شروط الإمام، فقد اعتبر الشيعة أنّ من شروطه توفر العصمة فيه وتنزهه عن جميع الفواحش والقبائح من الصغر إلى الموت، تماماً كالأنبياء، وذلك أنّ الإمام هو الحافظ لشرع الله سبحانه، والقائم به فإذا انتفت العصمة انتفت الفائدة من وجوده كما ينبغي أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه في جميع صفات الكمال والجمال، وهذه لم تتوفّر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ في علي عليه السلام والأئمة من ولده.
وبالانتقال إلى الكلام عن طاعة الحاكم الجائر، هل تجب أم لا؟ ذكر المؤلف آراء علماء السنة الذين ذهبوا بأجمعهم إلى وجوب الصبر على ظلم الحاكم وحرمة الخروج عليه، وهم على خلاف مع الشيعة في ذلك، حيث تعتبر هذه الأخيرة أنّ أيّ عمل فيه معونة للحاكم الجائر بجهة من الجهات، فهو حرام، وكبيرة من الكبائر، وقصة صفوان الجمال وكرائه الجمال من هارون الرشيد، ونهي الإمام الكاظم له عن ذلك معروفة في هذا المجال. هذا مضافاً إلى الأحاديث الكثيرة الناهية عن إطاعة الحاكم الظالم، والتعاون معه، والتي حفلت بها كتب الأحاديث الشيعية.
بعد ذلك عرض للكلام عن شيوخ السوء الذين كان الحكام يوظفونهم لديهم، للإفتاء ضدّ كلّ معارض للحكم والحكومة، بتحليل دمائه واستباحة أعراضه وأمواله لقاء أموال طائلة كانت تصرف إليهم.
كما بين السبب في ذهاب أحمد أمين إلى القول بأن (التشيع كان ملجأ لكل من أراد هدم الإسلام) فعزا ذلك إلى اعتبار أحمد أمين الحاكم الجائر واجب الطاعة والخروج عليه خروج على الإسلام.
ويعلق المؤلّف على ذلك قائلاً: "وعلى هذا السبيل، فلا نعجب إذا قال أحمد أمين أنّ الشيعة هدامون، أجل، إنّهم هدامون، ولكن للضلال والفساد" ويضيف: "فإنّ الذين هدموا الدين والإسلام هم الذين صرفوا الحق عن أهله، وأخرجوه من معدنه، بيت الرسول الأعظم، حتّى طمع به الأدعياء والطلقاء، الذين ركبوا أم المؤمنين على الجمل، وطافوا بها الفيافي والقفار، والذين حرضوا على قتل عثمان، ثمّ طالبوا بدمه، وأعلنوا الحرب على الوصيّ في البصرة وصفين، والذين سمّموا الحسن وقتلوا الحسين، إنّ هؤلاء وأشياعهم هم الذين هدموا الإسلام والعروبة لا الشيعة أتباع الصادق الأمين، وأهل بيته الطيبين".
وتحت عنوان "علي وقريش" عرض المؤلف للابتلاءات التي رافقت علياً عليه السلام في حياته وللمصاعب والآلام التي قاساها، فمن بدء الدعوة وإيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذبّ علي
عليه السلام ومدافعته عنه، وفدائه بروحه إلى جنب والده أبي طالب، إلى الحروب والمعارك والغزوات التي قادها الرسول، والتي أبلى فيها علي عليه السلام البلاء الحسن، وقادها إلى الانتصارات بسيفه البتار، إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واغتصاب الحق من أهله، وصبر علي على ذلك مبتغياً مصلحة الإسلام ولم شمل الأمة، وأخيراً إلى استلامه الخلافة وابتلائه بالناكثين والقاسطين والمارقين، فأبلى بذلك البلاء الحسن، وفقأ عين الفتنة وحافظ على دين الله سالماً.
هنا انتقل المؤلف إلى الكلام عن الشيعة ومعاوية، فابتدأ بالكلام عن جرائمه التي اقترفها بحقهم، في عهد الإمام علي عليه السلام من غارات التقتيل والتخريب إلى نشر الفوضى والفساد والذعر في البلاد.
وقد جمع معاوية حوله جماعة من الأشقياء قاموا بهذه المهمات، حيث أغار سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار، فملأ البيوت والأزقة بجثث القتلى، وحمل ما وجد من الأموال ورجع إلى معاوية، وسار الضحاك بن قيس الفهري إلى الكوفة، فأسرف في القتل والفتك والسلب والنهب، وكان يقتل كلّ من رآه في طريقه. وكذا أغار النعمان بن بشير على عين التمر في العراق، فقام بالغارات المفاجئة، وفرّ كما يفرّ اللصوص، وأغار بسر بن أرطأة على المدينة، فشتم أهلها وتهدّدهم وتوعدهم وأحرق دوراً كثيرة، قال المسعودي: "قتل بسر بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خزاعة وغيرها، وكذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً".
وهكذا اتخذ معاوية خطة الغارات المفاجئة والهجوم الخاطف، ثمّ الفرار والتواري عن الأنظار، وذلك خوفاً من المواجهة المباشرة مع جيش الإمام عليه السلام، لعلمه المسبق بنتائجها الوخيمة.
"وبهذه البدع والأحداث، بانتهاك حرم الله وحرم الرسول، بقتل الرجال وذبح الأطفال، بسلب النساء أقراطها وخلاخلها، بهذه وما إليها قال المتقولون: معاوية أعرف من علي بالسياسة، أجل، لا علي ولا غير علي، أعرف من معاوية بالشر وضراوته فيه، والإقدام عليه. ومن هنا كان سياسياً عظيماً عند أشكاله وأمثاله"!
ولم يكتفِ معاوية باعتماد هؤلاء الأشخاص للتنكيل والتقتيل والتخريب، بل شكّل عصابات لهذا الأمر، ترأس هو بنفسه إحداها.
أمّا عن عهد الإمام الحسن عليه السلام فقد عرض المؤلف للتعريف بالإمام وموضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ عرض نبذة من مواصفاته ومحاسن أخلاقه، لينتقل بعدها للكلام عن الصلح الذي وقّعه الإمام عليه السلام مع معاوية، وأسبابه، وأهم هذه الأسباب:
1- تخذل أهل العراق وقعودهم عن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام، حين كان معاوية يغزوهم في عقر دارهم، فكيف إذا جدّ الجدّ واحتدم القتال.
2- طمع أكثر الشيوخ والوجهاء الذين بايعوا الإمام الحسن عليه السلام بالمناصب والغنائم "فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون".
3- وجود عدد غير قليل من المنافقين في صفوف الإمام الحسن عليه السلام.
4- تخلف الكثير عن الإمام الحسن عليه السلام حين خروجه الفعلي لقتال معاوية ومعسكرته بالنخيلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، خيانة عبيد الله بن العباس (بعد أن سيّره الإمام في 12 ألف مقاتل لدفع معاوية عن حدود العراق) وانضمامه إلى معسكر العدو، فكانت خيانته نصراً كبيراً لمعاوية.
5- إرسال معاوية كتباً للإمام، كانت أرسلت له (أي لمعاوية) تعهد فيها أصحابها بتسليم الإمام الحسن عليه السلام له أو الفتك به.
هذه الأسباب وأمثالها كانت السبب في تجرع الإمام مرّ العلقم، واضطراره إلى توقيع الصلح.
ثمّ عرض المؤلف بعد ذلك لنقض معاوية الصلح مع الحسن عليه السلام وجعله شروط الحسن عليه السلام تحت قدميه، وأعلن بصراحة عن سريرته حين دخل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة، أتروني، ما قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنّكم تصلون وتزكون وتحجّون.. إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم... وكل شرط شرطته للحسن فتحت قدميّ هاتين".
ولما كان من شروط الإمام عليه السلام على معاوية أن يعمل بكتاب الله وبسنة نبيه، وأن لا يعهد لأحد من بعده، بل يترك الأمر شوى بين المسلمين، وأن يكون الناس آمنين حيث كانوا، ولهم الحق في صياغة دمائهم وأعراضهم وأقوالهم، وأن يدع سب أمير المؤمنين عليه السلام، فقد عمد معاوية إلى نقض كلّ هذه الشروط، وجعلها وكما قال وبكل صلافة (تحت قدميه). فقد سبّ معاوية أمير المؤمنين عليه السلام، وأمر بسبّه في جميع الأقطار والبلدان فصار سبّه على المنابر وفي الجمع والأعياد سنة تتبع، ربا عليها الصغير وهرم عليها الكبير، حقداً وشنئاً ورهبة ممن قال الله سبحانه فيهم: ﴿إنّما يريد لله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا﴾ وتنفيساً لعقده الكامنة في نفسه تجاههم، والتي أظهرها بردّه على من قال له: لقد بلغت ما أمّلت، فلو كفت عن سبّ علي، فأجاب: لا حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، وانتقاماً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لعنه وأباه حتّى رأى صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان على جمل أحمر يسوق معاوية ويقوده عتبه فقال: "اللهم العن الراكب والقائد والسائق" وحفظ معاوية هذه اللعنة، وعملت عملها في نفسه، وانتظر الفرصة السانحة للانتقام من نبي الرحمة، حتّى صار الحاكم بأمره، فلم يجرؤ على التصريح بالاسم العظيم، فسبّ علياً، وهو لا يريد إلاّ محمداً، لأنّه يعلم حقّ العلم أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله".
وكذلك عمد معاوية إلى التنكيل بالشيعة وقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وتخويفهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل عيونهم، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وتشريدهم، هذا مضافاً إلى كتابة معاوية إلى عماله على الأقطار، بعدم إجازة شهادة أحد من شيعة علي وأهل بيته.
وممن قتلهم معاوية من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام كان: حجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق صاحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورشيد الهجري، وجويرية بن مسهر العبدي.
كما أوكل معاوية الأمر من بعده لولده يزيد، الماجن الفاسق، المتهتك، والمعروف السيرة، الذي خلف على الأمة الإسلامية بسنواته الثلاث التي حكم فيها وصمة عار إلى آخر الدنيا.
فقد قتل يزيد – لعنه الله – في السنة الأولى من حكمه، الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، وذبح أطفاله وأنصاره، واستباح في السنة الثانية مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهك حرمات العذارى فيها، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، ورمى في السنة الثالثة الكعبة بالمنجنيق.
هنا عرض المؤلف لما فعله يزيد قبل موته، من أخذ البيعة لابنه معاوية، الذي استقال منها بعد وفاة أبيهن فانتقل الحكم بذلك من بني سفيان إلى بني مروان.
ولم يحدث بذلك أيّ جديد، بل زاد الظلم والتعسّف والتنكيل والتقتيل بالشيعة من أوّل حاكم من حكامهم إلى آخر حاكم. وأكثر هذه العهود ظلماً كان عهد عبد الملك بن مروان الذي استعمل الحجاج على العراق والحجاز، ثمّ ما لبث أن أشركه في الحكم، فولاّه بلاد فارس وكرما وسجستان وخراسان، ثمّ ضمّ إليها بلاد عمان، واليمن، وسائر البلاد العربية.
وإليكم هذه الأمثلة اليسيرة من مظالم الحجاج، تبيّن لكم الجرائم التي اقترفها بحقّ رعيته:
قال المسعودي في مروج الذهب ج3 طبعة 1948 ص 175:
"تأمر الحجاج على الناس عشرين سنة، وأُحصي من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه، فوُجد مئة وعشرون ألفاً، ومات الحجاج وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة منهن ستة عشر ألفاً مجردة – عارية من الثياب- وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء، وكان له غير ذلك من العذاب".
وعن تاريخ ابن الجوزي: "إن سجن الحجاج كان مجرد حائط يحوي السجناء، ويمنعهم من الخروج ولا سقف له، فإذا آوى المسجونون إلى الجدران يستظلون بها من حرّ الشمس، رماهم الحرس بالحجارة، وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطاً بالملح والرماد، وكان لا يلبث الرجل في سجنه إلاّ يسيراً، حتى يسود ويصير كأنّه زنجي، وقد حبس فيه غلام، فجاءت أمّه بعد أيام تتفقده، لما قدم إليها أنكرته، وقالت هذا ليس ولدي، هذا زنجي، وحين تأكّدت أنّه ولدها، شهقت وماتت في مكانها".
وهكذا استمر الظلم والتقتيل لأهل البيت وأشياعهم إلى عهد عمر بن عبد العزيز، الذي عرفت عنهد عدالته وحسن سيرته، فقام وأسقط لعن أمير المؤمنين عليه السلام عن المنابر، ورد فدكاً إلى أولاد فاطمة عليها السلام، وسلّمها إلى الباقر عليه السلام.
وبموته مسموماً من قِبل الأمويين – لسيرته الحسنة مع العلويين، وخوفهم من انصراف الناس عنهم – عاد الظلم والجور ليكبل الشيعة في أغلاله وقيوده.
وبعد موت ابن عبد العزيز بأربع سنوات، تسلّم الحكم هشام بن عبد الملك، وفي عهده كانت ثورة زيد بن علي بن الحسين عليه السلام، الذي قاتل الأمويين في ثلة جليلة ثارت معه، واستبسل في القتال، حتّى قتل مغدوراً بسهم أصاب جبينه كانت منيته فيه حين انتزاعه.
(ولقد صنع بجثته، ما صنع بجثة جده الحسين عليه السلام من التمثيل، حيث أخرجوها من القبر بعد الدفن، مثلوا بها، وقطعوا رأسه، وصلبوه على خشبة بقي عليها خمس سنوات عارياناً، إلى أن جاء الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فكتب على عامله بالكوفة أن أحرق زيداً بخشبته، واذرِ رماده، ففعل وأذرى رماده على شاطئ الفرات.
(وبعد الوليد جاء مروان الحمار آخر الملوك الأمويين) الذي قامت الثورات ضدّه، فانفضّ أنصاره من حوله، وخرج الجيش والشرطة عن طاعته، وتخلّف الناس عن نصرته، وهان على كل إنسان، وتعقّبه العباسيون من بلدٍ إلى بلد، حتّى قتلوه في قرية "بوصير" من أعمال مصر، وبقتله انتهت خلافة بني أمية ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فقد استعرض (رض) الحكام والملوك الذي تعاقبوا على الحكم وتوارثوه، وما مارسوه من جرائم بحق رعاياهم خصوصاً شيعة أهل البيت عليهم السلام.
فقد قتلوا من الشيعة خلقاً كثيراً، وأحرقوا بيوتهم، وهدموا ديارهم، وطاردوهم من مكانٍ إلى مكان، وقتلوهم شرّ تقتيل.
وقد أضافوا أساليب جديدة من القتل والتعذيب على أساليب أسلافهم الأمويين.
فالأمويون كانوا يقتلون، ويصلبون، ويحرقون، ويذرون الرماد في الهواء، ويدفنون الأحياء تحت التراب، وكان العباسيون يعتمدون سياسة البناء فوق من يريدون قتله.
فهذا المسعودي يقول:
"جمع المنصور أبناء الحسن، وأمر بجعل القيود في أرجلهم وأعناقهم، وحملهم في محامل مكشوفة بغير غطاء، تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين، ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض، لا يعرفون فيه الليل من النهار، وأشكلت أوقات الصلاة عليهم، فجزأوا القرآن خمسة أجزاء، فكانوا يصلون على فراغ كلّ واحدٍ من حزبه، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم، فاشتدّت عليهم الرائحة، وتورمت أجسادهم، ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعاً".
ونقل صاحب "مقاتل الطالبيين" عن إبراهيم بن رياح: "إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبدالله بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بنى عليه أسطوانة وهو حي، وقد ورث الرشيد طريقة البناء على الأحياء من جدّه المنصور".
"وقتل المنصور من أبناء علي وفاطمة ألفاً أو يزيدون باعترافه. وقتل من شيعتهم ما لا يعدّ ولا يحصى، وتفنّن في ظلمهم، واخترع أنواعاً من القتل وألواناً من التنكيل".
وصدق الشاعر حيث قال:
والله ما فعلت أمية فيهم معشار ما فعلت بنو العباس
وصدق أبو نواس قوله:
ما نال منهم بنو حرب وإن ع ظمت تلك الجرائم إلا دون نيلكم
بعد ذلك أجاب المؤلف عن سؤال يطرح نفسه، وهو كيف استطاعت عقيدة التشيع الصمود والبقاء، مع أنّها حوربت بكلّ سلاح منذ اليوم الأول لتكوينها وظهورها؟
ويجيب المؤلف عن ذلك، بأنّ هذا الصمود والتكاثر يرجع الفضل فيه، إلى مبادئ أهل البيت عليهم السلام وتعاليمهم، والتي لولاها لكان مذهب الإمامية أثراً بعد عين لا وجود له إلاّ في بطون الكتب، والتي ما هي سوى شرح وتفسير لمبادئ الإسلام، وأحكام القرآن، ومقاصد السنة النبوية، وسوى قواعد وأصول لمعرفة الخير من الشر، والحق من الباطل (تماماً كالقرآن والسنة النبوية).
وبهذا يتبين أنّ السرّ في بقاء التشيع هو نفس السرّ في بقاء الكتاب والسنّة، لأنّهما المصدر الأول والأخير لهذا المبدأ، وقد لاقى الرسول الأعظم من مقاومة المشركين، وحجود المعاندين، ما لم يلقه نبي من قبل، ولاقى الشيعة من قوى الشر والبغي ما يلاقيه كل محقّ مخلص،وصمد مبدأ الرسول لأصالته وصدقه، وصمد التشيع لآلهن لأنّه فرع من ذاك الأصل، فهو دائماً عبر التاريخ تماماً كالإسلام والقرآن".
وتحت عنوان "بعد العباسيين" عرض المؤلف للكلام عن ارتفاع الضغط عن الشيعة بعد العهد العباسي، إثر بروز دولة البويهيين في إيران، والفاطميين في مصر، والحمدانيين في حلب، والذي ما لبث أن عاد ليأخذ مجراه في عهد الدولة السلجوقية، ثم في عهد الأيوبيين (وخصوصاً في عهد صلاح الدين) ومن ثمّ في عهد العثمانيين، حيث لاقى الشيعة في هذه العهود الكثير من الظلم والتنكيل والتقتيل.
كما أشار المؤلف إلى ما لاقاه ويلاقيه الشيعة في العصر الحديث من السلطات السعودية، من الظلم والاضطهاد، وهضم الحقوق، وخنق الحريات، والمنع من ممارسة الشعائر والعبادات بحرية.
هذا وقد أورد المؤلف مقتطفاً من رسالة وجهها إبراهيم الجبهان إلى شيخ الأزهر، في العدد الخامس من مجلة راية الإسلام السعودي الصادر في 1 ربيع الآخر 1380 ه، كال فيها التهم للشيعة والتشيع، وأبرز فيها خلافه معهم في الأصول، بل في أصل الأصول.
وهذا وإن دلّ على شيء كما قال الشيخ مغنية فإنّما يدل على كفر الكاتب بالله وبوحدانيته، وبالنبوة، وباليوم الآخر، وذلك أنّ هذه كلّها من أصول الدين عند الشيعة الإمامية، كما ردّ على بعض اتهامات الوهابيين الصادرة بحق الشيعة في أكثر من موضع فهفتها وبين كذبها وزورها.
بعد ذلك شنّ الشيخ مغنية هجوماً عنيفاً على الكاتب محمد السباعي الحفناوي، صاحب كتاب "أبو سفيان شيخ الأمويين" والذي سار فيه مؤلفه وفق خطوط ثلاثة رسمها له الاستعمار الكافر تمثّلت بـ:
1-النيل من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان أول من لبى دعوة الإسلام، وأبلى البلاء الحسن في نصرته.
2-الطعن في المصادر الإسلامية، وخصوصاً التاريخية القديمة منها، لأنّه أصبح المصادر وأوثقها في معرفة الحقائق وواقع الإسلام، وفي معرفة رجالات الإسلام الذي انتصرت الإنسانية بفضل مبادئهم وتعاليمهم.
3-التمجيد المغلف للإلحاد والفجور والمظالم، من خلال تمجيد الأمويين الذين تجسد فيهم الكفر والفجور والزندقة والظلم والجور والفساد.
وقد شنّ الشيخ على هذا الكتاب المزوّر للحقائق، والمكذّب للتاريخ الإسلامي، والمروج للكفر والإلحاد، والذي لم يذهب مذهبه إلاّ المستشرقون أسياده، وتظهر هذه الحقيقة واضحة جليّة عند أدنى مقارنة بين أقواله وأقوالهم.
وأخيراً، عمد الشيخ في نهاية الكتاب، إلى التعريف ببعض المفاهيم التي حدّد مقاييسها أمير المؤمنين عليه السلام، بما يتفق مع بساطة الفطرة، ودقة العلم، وهذه من أمثال: الوطن، القريب، الخلق الحسن، وسائل الإنتاج، عرج بعدها للكلام عن يوم الغدير – عيد الله الأكبر، وعيد أوليائه – الذي نصب فيه مولى المؤمنين علي عليه السلام، خليفة بالنص من قِبل الرسول، فكمل بذلك الدين، وتمّت النعمة والحمد لله رب العالمين.