نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الشيخ المفيد ودوره في تثبيت هوية التشيع

الإمام الخامنئي دام ظله

هنا نص الدراسة التي قدمها ولي أمر المسلمين آية الله الخامنئي(مدّ ظله العالي) إلى مؤتمر الشيخ المفيد، وباعتبار أهميتها العالية ارتأت بقية الله أن تنشرها على حلقات تعميماً للفائدة.
فالمفيد هو عملاق من عمالقة العلم والمناظرة، ودائرة معارف متنوعة لكلّ المذاهب وقد كانت له مع الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف مراسلات هامّة.

* عصر المعصوم:
من الأخطار التي هدّدت الكيان الكلي لمذهب أهل البيت عليهم السلام مع بداية عصر الغيبة - وبالذات بعد انتهاء فترة الأربعة والسبعين عاماً التي استغرقتها الغيبة الصغرى وانقطاع الشيعة كاملاً عن الإمام المهدي (أرواحنا فداه) - هي الأخطاء والانحرافات التي تصدر بدوافع عمدية أو غير عمدية من أشخاص ينتسبون إلى المذهب؛ وبالشكل الذي يؤدي إلى حذف بعض الأشياء أو زيادتها عليه.
ومن ملامح التهديد في هذه الفترة أيضاً ما يترتب على تضاؤل دقّة ووضوح المعالم الأصولية للمذهب؛ من احتمال نفوذ الخطوط الانحرافية المتأتية من المسالك الإعتقادية أو الاتجاهات الموضوعة، وتسرّبها إلى المذهب وامتزاجها بحقائقه.
 

ففي عصر الإمام عليه السلام لم يكن مثل هذا الاحتمال وارداً وبالتالي كان الخطر مُنتفياً، فشخص الإمام كان مركز الاستقطاب ومحور الإطمئنان الذي تُقاس به الأشياء و (الأفكار) ويُحكم عليها من خلاله.
إذاً، فطالما كان الإمام موجوداً فليس بمقدون الأخطاء أن تمكث طويلاً بين الناس، لأنّ هذا الموقع المعصوم كان يتصدّى لتبيان الأخطاء الأساسية وكشفها في المواطن الحسّاسة.
وبذا كانت الشيعة على اطمئنان من أن ينال الخط الكلّي العام للمذهب أيّ انحراف، فالحجّة قائمة وبالتالي فإنّ كشف الحقيقة سيكون أمراً بيناً.
إنّنا نلتقي في تاريخ حياة الأئمة عليهم السلام بأسماء أشخاص صدر الطعن أو الرد عليهم بصراحة من الأئمة عليهم السلام لما أحدثوه من بدع وأسسوا من أخطاء وروّجوا من عقائد باطلة كما هو شأن محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطّاب، أو ابن أبي العرافر المعروف بالشلمغاني (حدثت هذه المسألة في عصر الغيبة الصغرى) وكثير من نظائرهم.

بل ونجد في حياة الأئمة ومن خلال ممارستهم لدورهم أنّ الإمام كان يتدخّل للتوجيه حين يشهد (المجتمع الشيعي) اختلافاً بين فريقين من الأصحاب يتحلّى كلاهما بالصدق والإخلاص، بيدّ أنّ الخلاف بينهما يصل بدافع اختلاف الرأي إلى عزل المجموعة أو الطرد وإساءة الظن بهما؛ فكان تدخل الإمام في مثل هذه المواطن يتمثّل بأسلوب الدفاع عن المجموعة أو الشخص المطعون ومدحه، مما يعني تأييد الإمام لعقيدة هؤلاء وتصويبه لها، أو دفع الانحراف الذي كان باعثاً على جذب سوء الظن.
 

مثال ذلك ما حَدَث بالنسبة ليونس بن عبد الرحمن حين طَرَدَهُ القميون لروايات مُنكرة نُقلت عنه، فقد صدر النص فيه عن الإمام: "رحمهُ الله كانَ عبداً صالحاً" أو: "إنّ يونس أول من يجيب علياً إذا دعا" - راجع رجال الكشي في شرح حال يونس بن عبد الرحمن - وكذلك ما حصل لبني فضّال حين أصبحوا لما لهم من وثاقة وعلم، مآلاً لطلاّب علوم أهل البيت، فقد صدر النص بحقّهم: "خذوا ما رووا وذُروا ما دروا..." وذَلك في إشارة لمنع تسرّب عقيدتهم "الفطحية" بين أوساط المجتمع الشيعي.
نظائر هذه الأمثلة والشواهد كثيرةً في تاريخ علاقة الأئمة بمُعاصريهم من الأصحاب.
وبهذا يتبيّن أنّ الإمام عليه السلام كانَ في عصر حضوره هو الحارس اليقظ الحافظ لمعالم المذهب؛ والذي يأخذ على عاتقه مسؤولية صيانة أصوله الكلية.

* عصير الغيبة ومسؤولية العلماء
أمّا في عصر الغيبة، وبالتحديد في عصر الغيبة الكبرى، فإنّ الأمر اختلف تماماً، ففي هذه المرحلة لم يعد الإمام - لغيابه - هو الموقع الذي يُلبّي الاحتياجات المتزايدة، بل تحولت المسؤولية في ذلك إلى علماء الدين. ومن جهة ثانية انفتح الباب واسعاً لاختلاف الأفكار والرؤى والأفهام في أصول الدين وفروعه، وذلك لما بين العلماء والخبراء أنفسهم من اختلافٍ وتفاوت طبيعي لا يمكن رفعه، لافتقارهم إلى محور بارز وقطعي.
ومن الطبيعي أن تندسّ من بين النظرات المختلفة التي تبرز إلى السطح، عناصر من اتجاهات منحرفة أو تتسلّل مُؤثرات من المذاهب الأخرى غير الشيعة الإثنا عشرية (مثلاً: الزيدية، الإسماعيلية، الفطحية، و...) مما يقود إلى التأثير على نقاء البناء العام لمذهب أهل البيت عليهم السلام وتهديد ما عليه من إنقام وإحكام؛ بل ربما قادت هذه المؤثرات على المدى الطويل إلى حدوث تغيير كلّي في وجهة المذهب ومَساره.
في مثل هذه البرهة من الزمان تبرز إلى الوجود واحدة من أهم وظائف علماء الأمة وقادتها؛ وهي الوظيفة التي يعني القيام بها حفظ المذهب؛ ويُعادلُ إنجازها جهاداً مصيرياً.

وهذه الوظيفة تتجلّى في تشكيل التشيّع في إطار نظام فكري وعملي، وتحديد معالمه وحدوده العقيدية والعملية وذلك بالاستفادة من الميراث الفذ لكلام أهل البيت عليهم السلام ونصوصهم.
وبهذا الشكل تتحدّد معالم الهوية المستقلة المحدّدة لمذهب أهل البيت عليهم السلام بما يجعله ميسور الفهم وقابلاً للاستفادة من قِبَل أتباعه.
ولا ريب أنّ هذا العمل يعطي لعلماء الشيعة ومفكريهم إمكانية الفصل بين الانحراف الأصولي الذي يعني الخروج عن إطار مباني المذهب في الفقه والكلام؛ وبين مجرد الإختلاف في النظر الذي يجري داخل إطار المذهب.
 

من المؤكد أنّ مثل هذا العمل لم ينجز قبل عصر الشيخ المفيد رحمه الله. فالميول القياسية في فقه ابن الجنيد والنزعات الاعتزالية في كلام نوبخت، هُما اثنان مِن أبرز الأدلة على هذا الادّعاء، وَهُما في كلّ الأحوال، لا يعدوان أن يكونا مجرّد نتيجتين مترتبتين على غياب المعالم الواضحة للتشيّع في مجال أصول الدين وفروعه.
الفراغ والغوغائية الفكرية
 

ففي المجال الفقهي نجد أنّ عدم اعتماد المباني العقلية والأصولية في الاستنباط وتفريع الفروع على الأصول التي تعد من التعاليم الثابتة لأئمة أهل البيت عليهم السلام وفي المقابل الانزلاق إلى وادي القياس، هُما منحيان يدلاّن على مظاهر الانحراف غير المتعمّد عن المذهب، ونتيجة لافتقاده المعالم والحدود الواضحة.
أمّا في مجال الكلام، فقد تمثلت أبرز مظاهر الإنحراف الناتجة عن عدم تحديد معالم المذهب؛ في الخلط بين الكلام الشيعي والكلام المعتزلي.

وبالنسبة للظاهرة الأخيرة، ثمّة عوارض تُعدّ إلى حدٍ ما كثيرة وفادحة ألمّت بالمذهب نتيجة غياب الحدود الواضحة، يمكن أن نشير إلى بعضها بما يلي من نقاط:
أ‌- نجد أنّ متكلمين كباراً ومعروفين كبني نوبخت كانت لهم في الكثير من المسائل المطروحة في علم الكلام نزعات اعتزالية، وجنحوا - كالمعتزلة تماماً - إلى جانب العقلانية المفرطة في فهم المباحث الكلامية.

ب‌- انتحل المعتزلة أسماء شخصيات شيعية كبيرة ونسبوها إلى الاعتزال. مثالُ ذلك ما حصل للعالم والمتكلّم الشيعي المعروف الحسن بن موسى النوبختي ومعاصره.

ج- القبول باجتماع التشيّع والاعتزال في شخصيّة واحدة؛ بل مال البعض إلى أن يُعرّف بعض الشخصيات الكبيرة المعروفة بأنّها شيعية ومعتزلية في الآن نفسه. والأغرب من ذلك أنّ بعض هؤلاء قَبِلَ هذا الادّعاء
وصَدّقه وأخذ يكرّره! كما هو الحال في مثال الصاحب بن عباد الذي يقول في شعرٍ له:
أو قوله لو شق قلبي ليُرى وسطه
سطران قد خُطا بلا كاتب
العدل والتوحيد في جانب
وحبّ أهل البيت في جانب
: قلت: إنّي شيعي ومعتزلي.

يحصل هذا الخلط في الوقت الذي نعرفُ أنّ أياً من المعتزلة لا يقبل العلامة الأساس المميّزة للاعتزال الماثلة في أصل "المنزلة بين المنزلتين" تتعارض وتتنافى مع مسلّمات التشيّع!
د-قَبِل بعض علماء الشيعة أصلاً من أصول المعتزلة الخمسة من دون أن يعدّ نفسه أو يعدّه الآخرون معتزلياً. على سبيل المثال نجد أنّ النجاشي يكتب في باب محمد بن بشر الحمدوني أنّه: "صحيح الإعتقاد، وكان يقول بالوعيد".

هـ- الزعم أنّ الكلام الشيعي مستقى بنحو كلّي من المعتزلة والإستدلال بالذات في إثبات المدّعى على أنّ أصلّي التوحيد والعدل دخلا التشيّع عن طريق الاعتزال.
هذا الكلام كُرّر مراراً في كتب الملل والنحل وفي كلمات والمتكلمين من يستفون معلوماتهم من المصادر غير الشيعية كما هو حال المستشرقين مثلاً.
بل رُدّد الكلام نفسه في عصر الشيخ المفيد كما نجد ذلك واضحاً في مسائل المتكلّم والفقيه الحنفي المعتزلي من أهل "صاغان" الذي وَصَفَه الشيخ المفيد في "المسائل الصاغانية" بـ "الشيخ الضال" فقد كتب هذا الشيخ مشيراً بهذا الوهم الباطل إلى الشيخ المفيد نفسه:
"...ومتكلم لهم من أهل بغداد، كأن قد سرق الكلام من أصحابنا المعتزلة".
 

طبعاً بقي الباحثون والدارسون الشيعة - باستثناء أولئكَ الذين يقتبسون معلوماتهم - كالمستشرقون - من غير المصادر الشيعية أو من المستشرقين أنفسهم - بمنأى عن هذا الخطأ، وذلك ببركة ما قامَ به المفيد، وبفضل العمل الكبير الذي أنجزه على هذا الصعيد.
حدود المذهب الأصولية والفقهية
تأسيساً على ما مرّ من المقدمات نتبين أهمية عمل الشيخ المفيد بوصفه الرجل الذي أخذ على عاتقه مسؤولية رسم الحدود الواضحة لمذهب أهل البيت. فقد بادر هذا النابغة الكبير، إحساساً منه بما يقتضيه عصره واستناداً إلى ما له من قدرات علمية، إلى خوض هذا الميدان، بحيث أنجز عملاً يتسم بالأهمية والحساسية، لم يسبقه إليه أحد.
والحق أنّ علينا أن نذعن أن المفيد خرج من عهدة هذا العمل على خير ما يرام.
 

ومن الواضح أنّنا لا نزعم أنّ أحداً لم ولن يقع بعد إنجاز المفيد في خطأ في فهم محتوى التشيّع أو يصاب بالجهل والضلال، وإنّما أردنا القول أن فهم فقه وكلام مدرسة أهل البيت عليهم السلام أصبح مبسوطاً بين يدي الباحثين والدارسين والراغبين بفهمه، ولكن هذه المرة، وهو محاط بعلائم مميزة وخصائص فريدة تمنع من الخلط أو الاشتباه في ما بينه وبين النحل الأخرى.
لقد نهض المفيد في الطريق لتأمين هذا الهدف، بسلسلة من الأعمال العلمية التي يستحق كلّ جانب منها البحث والتحقيق المستقل، بيد أنّي سأكتفي بالإشارة إلى عناوين هذه الأعمال في حقلي الفقه والكلام.

ففي الفقه صنّف الشيخ كتاب "المقنعة" الذي يعدّ تقريباً دورة كاملة في الفقه، وقد انتهج فيه الصراط المستقيم والخط والوسط في منهج الاستنباط الفقهي الماثل في الجمع بين استخدام الأدلة اللفظية والقواعد الأصولية، مع اجتناب القياس والاستحسان وبقية الأدلة غير المعتبرة (سنعود للكلام عن هذه النقطة مرة أخرى).
علاوة على ذلك، أبدع الشيخ في تصنيف كتاب "التذكرة بأصول الفقه" بحيث يمكن أن نقول - بالاستناد إلى الكتاب - إنّها المرّة الأولى التي تبلورت فيها قواعد الاستنباط الفقهي التي أفتى على أساسها (سنعود إلى هذا الكتاب مرّة أخرى في بحث الفقرة الآتية).
إضافةً لما مرّ صنّف الشيخ كتاب "الإعلام" الذي جمع فيه موارد من الأحكام المجمع عليها بين فقهاء الشيعة، وأبرز إلى جوار ذلك عدم إفتاء فقهاء أهل السنّة بأيّ واحد من هذه الأحكام التي نالت إجماع فقهاء المذهب.
لقد بحث الكتاب عدداً من أبواب الفقه بهدف نقل الإجماع الموجود.

وفي مجال ترسيم الحدود بين فقه الإمامية وفقه الأحناف فقد صنّف الشيخ أثراً قيماً بعنوان "المسائل الصاغانية" الذي كان في واقعه جواباً لإشكالات آثارها فقيه حنفي على فقه الشيعة.
وفي مجال العطاء الفقهي - أيضاً - يعدّ كتاب "النقض على ابن الجنيد" واحداً من الأعمال الأساسية للشيخ، حيث يعكس العنوان طبيعة الحدود القاطعة التي يراها للمعالم والثغور الفقهية لمذهب أهل البيت عليهم السلام.
طبعاً لا يمكن وضع اليد على حكم قطعي حول محتوى هذا الكتاب طالما ظلّ مفقوداً وإنّما ثمّة مرجحات تدلنا على أن هذا الكتاب يتحلّى بمضمون علمي وأسلوب مقنع، وهذه المرجحات نستفيدها من معرفتنا بطبيعة أعمال المفيد وماله من حجة قوية في البحث والجدل المذهبي، إضافةً إلى سعة اطّلاعه على الأصول الدينية، واستحكامه الفكري في ترتيب مقدمات الاستدلال العقلاني، وموقعه القاطع من النزعة القياسية لابن الجنيد التي نلمح مثالاً لها في "المسائل الصاغانية".
ولا ريب أنّ عمل المفيد هذا، كان له أثره في قطع مسار هذه النزعات وعدم استمرارها بين فقهاء الشيعة.

* عقائد المذهب
والآن نأتي إلى العمل الأوسع والأهم الذي قام به الشيخ على هذا الصعيد - تثبيت معالم الهوية المستقلة للتشيّع - في حقل علم الكلام. فقد سعى الشيخ بما يتمتّع من ذكاء وفطنة، إلى أن يضع الشواخص الكافية التي تميّز عقائد الشيعة عمّن سواهم من النحل الكلامية الأخرى، وذلك بما يضمن عدم نفوذ العناصر العقيدية للفرق الإسلامية أو الشيعية الأخرى، إلى حيّز الدائرة الخاصّة لعقائدية الإمامية؛ وبما يمنع نسبة الأفكار الخاطئة التي لا صلة لها أبداً بالإمامية إلى مذهبهم.
ورغم ما عرف به الشيخ من مناظرة جميع المذاهب الأخرى ومباحثة كلّ الاتجاهات الفكرية التي كانت على السطح في زمانه؛ من أشاعرة ومعتزلة ومرجئة، وخوارج ومشبّهة، وأهل حديث، وغلاة، ونواصب؛ وباقي الفرق الأخرى صغيرة وكبيرة ممن ينتسب إلى الإسلام؛ إلاّ أنه ركّز في مواجهته الفكرية على الاعتزال واتجاهاته المعروفة أكثر من غيره حتّى كان مآله في كتب ورسائل متعدّدة، صغيرة وكبيرة، أن يؤكّد على نقد المعتزلة وردّ نظراتهم في مباحث مختلفة.
 

ويكمن سرّ ذلك، في أنّ المعتزلة تتميّز من بين الفرق الإسلامية الأخرى بتشابه بعض أصولها الشيعية، وهو الأمر الذي دعا إلى تبلور الشبهة التي تقول أنّ الاعتزال أصل في نشأة الكثير من عقائد الشيعة، بل لم نعدم من ذهب إلى أكثر من ذلك ليزعم أنّ الاعتزال هو التشيّع مع فوارق بسيطة بين الاثنين! هذه الحالة أوجدت بدورها ظاهرة خاطئة تزعم أنّ كليات الكلام الشيعي متولدة عن الكلام المعتزلي؛ أو الزعم أنّ أصول الكلام المعتزلي؛ وما يترتب على ذلك - كما بيّنا - من تصورات خاطئة.
وفي الواقع، إنّ تناول عقائد المعتزلة في كتب المفيد، هو مصداق مهم ودال على خصوصيّة المهمّة التي اضطلع بها الشيخ في حماية كلمات التشيّع وإثبات استقلاله وأصالة نظامه الكلامي.
وفي هذا المسار يعدّ كتاب "أوائل المقالات في المذاهب والمختارات" أهم ما كتبه هذا الشيخ الجليل في التدليل على الفرق بين الشيعة والمعتزلة، فهو يذكر بنفسه في مقدمة الكتاب أنّه سيميّز بين الفريقين حتى في ما اتفقوا عليه من بعض المسائل الأصولية كمسألة العدل مثلاً، لتبيّن المسار المستقل لكلّ منهم.
 

إنّ كلمات المفيد في مقدمته القصيرة تكشف وكأنّ الشيخ كان يسعى من وراء تصنيف هذا الكتاب إلى وضع أصل ومرجع عقيدي مطمئن، يكون بمثابة الإطار المرجعي لمن يريد أن يحرز الإيمان التفصيلي بالمباني الفكرية للمذهب. ففي هذا الكتاب عمد الشيخ حتّى إلى نقد بعض علماء الشيعة ممن كان قد التقط قبل ذلك بعض آراء المعتزلة الأمر الذي أثّر على نقاء البناء الخاص للكلام الشيعي - يلاحظ ذكره الصريح لبني نوبخت.
 

وهذا بالضبط ما يجلي لنا طبيعة الراية التي رفعها الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) للمرّة الأولى والماثلة في المهمة التي اضطلع بها في حراسة حريم المذهب والدفاع عن نظامه الفكري - بالمعنى الذي فصلناه سلفاً.
بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ مهمّة الشيخ في تعيين الحدود العقيدية الفارقة بين الشيعة والمعتزلة اقتصرت على كتاب "أوائل المقالات" وإنّما عمد إلى متابعة المهمة نفسها في كتبه الأخرى، وذلك باعتماد أساليب مختلفة - جاءت أحياناً من حيث انتخاب الأسلوب والشكل البديع والجانب - ولكن مع ذلك فإنّ ثمّة خصوصية يمكن مشاهدتها على نحو كامل في كتاب "أوائل المقالات" يمكن أن نبينها كالتالي: فصّل في بعض موارد الكتاب إلى رؤية اشتراك في العقيدة الرأي بين الشيعة والمعتزلة، وعندها نجد الشيخ يعمد إلى انتخاب نمط من العرض يكشف من خلاله استقلال مذهب أهل البيت في المسألة وينفي أيّة شبهة قد توحي بتبعية الشيعة إلى المعتزلة.

على سبيل المثال، يقول في باب نفي الرؤية على الله تعالى: "أقول: إنّه لا يصحّ رؤية الباري سبحانه بالأبصار، وبذلك شهد العقل ونطق القرآن وتواتر الخبر عن أئمة الهدى من آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليه جمهور أهل الإمامة وعامة متكلميهم إلاّ من شذّ منهم لشبهة عرضت له في تأويل الأخبار، والمعتزلة بأسرها توافق أهل الإمامة في ذلك وجمهور المرجئة وكثير من الخوارج والزيدية وطوائف من أصحاب الحديث".

ففي هذا الكلام يظهر رأي الشيعة وهو مستند إلى أدلّتهم المعتبرة؛ أي الكتاب والسنة المتواترة؛ يظافرهم في ذلك أيضاً ما عليه الدليل العقلي، وبالتالي فلا حاجة بهم في أخذ مثل هذا الرأي من المعتزلة أو غيرهم، وإنّما تتفق المعتزلة في هذه المسألة مع الشيعة.
وواضح أنّ هذا النمط من البيان يستبطن القول إنّ المعتزلة تدين إلى الشيعة فيما ذهبت إليه (لا العكس).
 

وثمة أيضاً مثال آخر نقتبسه من باب "علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها" حيث يقول الشيخ:"أقول: إنّ الله تعالى عالم بكل ما يكون قبل كونه، وأنّه لا حادث إلاّ وقد علمه قبل حدوثه، ولا معلوم وممكن أن يكون معلوماً إلاّ وهو عالم بحقيقته، وإنّه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وبهذا قضت دلائل العقول والكتاب المسطور والأخبار المتواترة عن آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو مذهب جميع الإمامية، ولسنا نعرف ما حكاه المعتزلة عن هشام بن الحكم في خلافه، وعندنا أنّه تخرّص منهم عليه وغلط ممن قلّدهم فحكاه من الشيعة عنه..." ومعناه فيما ذهبنا إليه في هذا الباب جميع المنتسبين إلى التوحيد سوى الجهم بن صفوان من المجبّرة وهشام بن عمرو الفوطي من المعتزلة..."
فهنا أيضاً نجد أنّ طريقة الأداء والاستناد إلى دليل العقل والقرآن والحديث المتواتر، تشهد هي الأخرى باستقلال الشيعة في إنشاء هذا الرأي؛ وتوحي وكأن المعتزلة كما الفرق الأخرى قبل به أيضاً.

من جهة أخرى، يحصل أحياناً وأن يتفق الشيعة والمعتزلة في جزء من مسألة معروفة. وهنا يعمد الشيخ إلى بيان نقاط التفارق بين الشيعة والمعتزلة، أو الفرق الأخرى، لكي لا يكون الاتفاق في عنوان المسألة موجباً للخلط والخطأ في جوانبها الأخرى.
مثال ذلك، أنّ الشيعة والمعتزلة يقول كلاهما باللطف والأصلح، بيد أنّ المفيد يعمد للقول مباشرةً في نهاية بيانه لباب اللطف: "وأقول: إنّ ما أوجبه أصحاب اللطف من اللطف، إنّما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنّوا [أي المعتزلة والآخرون] أنّ العدل أوجبه [على الله] وأنّه لم يفعل لكان ظالماً" وذلك منعاً للالتباس في فهم المسألة، ودرءاً لما يمكن أن تتحمله الشيعة من خطأ رأي المعتزلة فيها.
ونجد الشيخ أيضاً يصرّ في الموارد التي يتفق فيها نظر شواذ من متكلمي الشيعة مع المعتزلة؛ على ذكر هؤلاء بالكناية أو التصريح، وردّ آرائهم لكي لا تحسب آراؤهم الشاذة على عقيدة الشيعة ولا تدخل في حساب التشيّع.

 

نجد ذلك واضحاً على سبيل المثال في تناوله لمسألة العصمة، فبعد أن يثبّت رأي الإمامية في عصمة الأئمة عليهم السلام حتّى عن الصغائر، بل وعن السهو والنسيان أيضاً، نراه يقول: "على هذا مذهب سائر الإمامية إلاّ من شذّ منهم وتعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد من هذا الباب، والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلكن ويجوّزون من الأئمة وقوع الكبائر والردة عن الإسلام" وكأن المفيد يشير في كلامه إلى الشيخ الصدوق (رحمة الله عليه) في هذه الأمثلة.
وفي سائر كتاب "أوائل المقالات" يتضح الدور البارز للشيخ المفيد في تحديد معالم المذهب والوقوف في موقع الحارس المنتبه الذي لا يسمح بالاختراق، وذلك فيما عليه من إصرار كامل على بناء الأطر العقيدية والكلامية للشيعة ولما ينتهي إلى تميّز شخصية الأتباع ويحول دون الخلط والالتباس مع الفرق والنحل الأخرى.
 

هذا الهدف تابعه المفيد في كتب أخرى، وإنّ بأساليب مختلفة تقريباً. ففي كتاب "الحكايات" مثلاً الذي تناول في جزء مهم منه عقائد المعتزلة تحت عناوين كلامية مختلفة، وردّ عليها خصّص فصلاً بعنوان "اتهام التشبيه" يقول فيه راوي الحكايات - وكأنّه السيد المرتضى -: "فإنّي لا أزال أسمع المعتزلة يدّعون على أسلافنا أنّهم كانوا - كلّهم - مشبّهة .. وأرى جماعة من أصحاب الحديث من الإمامية يطابقونهم على هذه الحكاية، ويقولون: إنّ نفي التشبيه إنّما أخذنا من المعتزلة!" ثمّ يطلب - الراوي - من الشيخ المفيد أنّ يروي له حديثاً يبطل ذلك.
وحين يصل الدور إلى المفيد يتحدّث أولاً عن خلفية هذه التهمة وجذورها، ويذكر أنّ روايات أهل البيت عليهم السلام في ردّ التشبيه تتجاوز حدّ الإحصاء، وبعد أن ينقل حديثاً للإمام أبي عبد الله عليه السلام يقول: "فهذا قول أبي عبد الله عليهم السلام، فكيف نكون قد أخذنا ذلك عن المعتزلة لولا قلّة الدين!؟"
 

إنّ ما نلمسه هنا من اهتمام الشيخ الجليل في ردّتهم التشبيه والجبر والرؤية عن عقائد الشيعة، هو بنفسه مصداق بارز آخر يجسّد دور الشيخ في الحماية، من خلال تثبيت معالم الهوية المستقلة لمذهب أهل البيت عليهم السلام - الذي هو عنوان بحثنا في هذه الفقرة فحين نأخذ بنظر الاعتبار ما قام به المفيد في كتاب "أوائل المقالات" وسائر كتبه الكلامية الأخرى مثل: "تصحيح الاعتقاد"، و "الفصول المختارة"، وغيرهما؛ من بيان لعقائد الشيعة وترسم الفوارق بينها وبين عقائد النحل الكلامية الأخرى، خصوصاً الاعتزال، نلمس حرصه الواضح لبناء التشيّع وبيانه في إطار نظام فكري منسجم له حدوده وثغوره الواضحة.

* الإمامة علاقة فارقة
ولا ريب أنّ العلامة الفارقة (الشاخصة) التي تميز هذا النظام الفكري إنّما تمثل بمسألة الإمامة. بمعنى أنّنا لا نجد أية نحلة أخرى تشترك مع الشيعة في هذه المسألة، وأن الاعتقاد بها (الإمامة) هو مناط نسبة الفرد أو المجموعة إلى المذهب الشيعي.
صحيح أنّ للشيعة اختلافات مهمة مع الفرق الأخرى في الكثير من معتقداتها؛ إذ رغم ما بينها وبين هذه الفرق من تشابه في عناوين المسألة - مثل التوحيد والعدل والصفات ونظائرها - إلاّ أنّها تختلف معها في الروح والمعنى أو بعض الفروع والجزئيات، بيد أنّ التمايز في مسألة الإمامة بين الشيعة وبقية الفرق الإسلامية يتجلّى على نحو أوضح وبيّن بصراحة أكثر.
لذلك نجد أنّ الشيخ المفيد علاوة على ما يفعله في كتبه المفصّلة مثل "أوائل المقالات" وغيره من افتتاح الكلام بمسألة الإمامة؛ نجده أيضاً صنّف رسائل متعدّدة قصيرة وطويلة حول المسألة وحرّرها بعناوين مختلفة.
ومن المناسب، أن نذكر هنا هذه النقطة، وهي: أن كون مسألة الإمامة هي "النقطة الشاخصة في النظام للمفيد - بالمعنى بيناه هو غير الاعتقاد الذي ذهب إليه أحد المستشرقين حين اعتبر الإمامة "محور النظام الفكري" للمفيد. فمحور النظام الفكري للشيعة ومتكلميها - المفيد وغيره - هي مسألة الصانع وتوحيد الباري تعالى. فعلى هذه المسألة تبتني ومنها تتفرع مسائل أخرى مثل: صفات الحق تعالى. فعلى هذه المسألة تبتني ومنها تتفرع مسائل أخرى مثل: صفات الحق تعالى، التعداد والمعنى ونسبتهما إلى ذات الحق عزّ اسمه، مسألة النبوة وفروعها، العدل، الإمامة، وما يرتبط بالتكليف والقيامة وغيرها.
بيد أنّ الذي يؤسف له حقاً أنّ المستشرقين ومن ليس له إحاطة كافية بالمفاهيم الإسلامية، يقع بنظائر هذه الأخطاء في فهم مراد عالم كبير كالشيخ المفيد.

لذا حري بهذه المؤتمرات أن تصلح - بما تنطوي عليه من مباحث - الفهم المنحرف لهؤلاء وتبين الحقائق.
فالباحث الغربي الذي كتب عن أفكار الشيخ المفيد حيناً إلى افتقاد هذا الرمز الكبير للنظام الفكري الواضح، وذهب تارة أخرى إلى أنّ له نظاماً فكرياً ولكنه مبتن على الإمامة.
وقد اتضح كما بيّنا خطأ هذين الرأيين. فالنظام الفكري الشيخ الجليل بائن على نحو جلي في كتبه ورسائله المتعدّدة، ومحوره بعد مسألة "المعرفة" التي تُعدّ مقدمة طبيعية للمسائل العقيدية؛ هي مسألة ذات وصفات الباري؛ التي تتفرع عنها سائر المسائل الأساسية بحسب مراتبها.
أمّا مسألة الإمامة، فهي - كما ذكرنا - العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة التي تميّز هذا المذهب عمّا سواه من المذاهب؛ والعقيدة التي يُعرف بها متبع التشيّع (الشيعي).
وربما استطعنا أن نقيس هذه المسألة بموقع مسألة "المنزلة بين المنزلتين" دى المعتزلة. فمن بين الأصول الخمسة للاعتزال، لا تعدّ هذه المسألة أول وأهم ولا الأصل الأعمق للاعتزال، كما التوحيد والعدل، بيد أنّها مع ذلك تعبّر عن خصوصية الاعتزال.
فمسألة "المنزلة بين المنزلتين" هي العلامة البارزة، بل ومنشأ وجود الاعتزال، بحيث لا يصدق إطلاق وصف الاعتزال على من لا يعتقد بها.
مثل هذه الخصوصية تجسدها "الإمامة" في النظام الفكري للشيعة.

يتضح ممّا مرَ، أنّ الشيخ المفيد - وهو النابغة الكبير في تاريخ الشيعة - كان الشخص الأول الذي اضطلع بمهمة إرساء الفقه والكلام في المذهب الشيعي على قواعد وحدود منضبطة. ففي علم الكلام شكّل من مجموع عقائد الشيعة نظاماً فكرياً منسجماً ومحدداً، بحيث منع اختلاطه وحال دون تداخله مع المذاهب والفرق الإسلامية الأخرى، أو مع الاتجاهات الشيعية من مجموع عقائد الشيعة غير الإمامية.
وفي علم الفقه هيّأ لدورة فقهية تقوم على منهج الاستنباط المبتني على الأصول المكتسبة من تعاليم أهل البيت عليهم السلام وسدّ الطريق على الأساليب غير المعتبرة كالقياس الناقص والابتدائي، وكذلك منهج أهل الحديث.
وبعبارة أخرى: كان المفيد الشخص الذي ثبّت معالم الهويّة المستقلّة لمذهب أهل البيت عليهم السلام.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع