نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مع الإمام القائد: فلسفة عاشوراء



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآل الطاهرين..
بالرغم من كثرة وأهمية ما قيل وما كُتب من قبل العلماء والمفكرين البارزين حول أسباب وأهداف ثورة الإمام الحسين، إلا أن المؤكد أنه يمكن الخوض لسنوات طويلة في موضوع هذه الثورة المباركة وأسبابها وأهدافها ونتائجها.
فلكما أمعنّا النظر أكثر في قضية عاشوراء وثورة الإمام الحسين عليه السلام، سنجد أن تلك الثورة تتسع للتفكير والبيان أكثر فأكثر. وكلما ازددنا تفكيراً في هذه النهضة الكبرى، ستظهر أمامنا حقائق جديدة لم نكن نعرفها من قبل.

 

هذا هو الموضوع الأول الذي يمكن الكلام فيه حول الثورة الحسينية.
وهذا الموضوع يجري البحث فيه - عادة - على طول أيام السنة من خلال المجالس التي تعقد في المناسبات المختلفة، ولكن لا بد من التعرض له والخوض فيه بشكل أكبر وأدق وأعمق خلال أيام شهر محرم الحرام كما فعل خطباؤنا الأعزاء إن شاء الله.

أما الموضوع الآخر الذي يمكن الخوض فيه بمناسبة حلول شهر محرم الحرام والذي قليلاً ما يتم التعرض له والخوض فيه فهو موضوع مراسم عزاء الحسين بن علي عليه السلام.

فمن المؤكد أن من أهم ميزات المجتمع الشيعي دون غيره من الأخوة المسلمين هو امتلاكه لذكرى عاشوراء وفاجعة كربلاء الأليمة.

ومنذ اليوم الذي أُقيمت فيه مجالس العزاء التي تُذكر فيها المصائب التي جرت على أبي عبد الله عليه السلام وأهل بيته الأطهار، تدفق نبع من المعنوية والمعارف الإسلامية في أذهان وقلوب محبي أهل البيت عليه السلام، وما زال ذلك النبع متدفقاً إلى اليوم وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله. والمنشأ لكل هذا الخير والبركة هو التذكير المتواصل بيوم عاشوراء لكي تبقى ذكرى فاجعة كربلاء حية في ضمير أبناء الأمة.
فذكرى عاشوراء ليست مجرد ذكر البعض الخواطر والذكريات والأحداث فقط، وإنما هي تبيان لحادثة في غاية الأهمية ولها عدد غير محدود من الأبعاد والجوانب التي تركت أعمق الآثار في حياة الأمة الإسلامية على مر التاريخ.

إذن، فالتذكير بهذه الفاجعة هو موضوع يمكن أن يتبلور عن كثير من الخيرات والبركات لأبناء هذه الأمة، لذا تلاحظون أن قضية البكاء والإبكاء على الإمام الحسين عليه السلام كانت تحتل مكانة متميزة في زمن الأئمة عليهم السلام.

فلا يتصور أحد أنه مع وجود المنطق والاستدلال، فما هي الحاجة للبكاء وما هي الحاجة للبحث في قضايا قديمة من هذا القبيل؟
إن هذا النوع من التفكير بيِّن البطلان، لأن لكل من هذه الأمور دوراً في بناء شخصية الإنسان وتكامله. فالعواطف لها دورها والمنطق والبرهان لهما دورهما المهم أيضاً. فالعاطفة لها دور في حل كثير من المشاكل والمعضلات التي يعجز المنطق والاستدلال عن حلها.

ولذلك حينما نراجع تاريخ الأنبياء سوف نرى أنه أوائل بعثتهم كان يلتف حولهم أناس لم يكن المنطق والبرهان هما الدافع الأساسي لإيمانهم ولالتفافهم حول أولئك الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.

فلا تجدون في تاريخ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم - وهو تاريخ مدوَّن وواضح. بأن رسولٌ اجتمع في أول البعثة مع مجموعة من الكفَّار وبرهن لهم بالأدلة العقلية على وجود الله ووحدانيته أو بطلان عبادة الأصنام - مثلاً - فالاستدلالات العقلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءت بعد أن تقدمت الدعوة وانتشر أمرها، أما في المرحلة الأولى فقد كان عمل الدعوة يقوم على أساس كسب المشاعر والعواطف الصادقة لدى الناس.
ففي هذه المرحلة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول للكفار: إن هذه الأصنام التي تعبدونها ما هي إلا أحجار لا تضر ولا تنفع. من دون الحاجة إلى ذكر الدليل العقلي والمنطقي على بطلان عبادتهم لتلك الأصنام.

ولم يكن يستدل للناس بالأدلة العقلية والفلسفية على وجود الله ووحدانيته، بل كان يكتفي بالقول: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، فلم يبرهن للناس عقلياً أو فلسفياً بأن الاعتقاد بـ "لا إله إلا الله" يؤدي إلى فلاح الإنسان وسعادته، بل أن هذه العبادة تخاطب مشاعر الإنسان وأحاسيسه الصادقة.
طبعاً أن كل مشاعر وأحاسيس صادقة وسليمة تنطوي على برهان فلسفي واستدلال عقلي. لكن المسألة هي أن كل نبي عندما كان يريد البدء بالدعوة لم يكن يطرح الدليل العقلي والفلسفي من أجل هداية الناس، بل إنه كان يبدأ بتحريك العواطف والأحاسيس الصادقة والسليمة التي تحمل المنطق والاستدلال في ذاتها. وهذه الأحاسيس والعواطف توجه أنظار الإنسان إلى ما يعيشه المجتمع من ظلم واضطهاد وتمايز طبقي، وما يمارسه أنداد الله من البشر "شياطين الأنس" من ضغط وإرهاب ضد أبناء ذلك المجتمع. أما طرح البراهين العقلية والمنطقية فكان يبدأ حينما تستقر الدعوة وتأخذ مجراها الطبيعي.

فمن كانت له القابلية العقلية والفكرية - في هذه المرحلة -، فسوف يستوعب بعض الاستدلالات العقلية والفلسفية الميسرة التي كان يطرحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما الذي لم يكن يمتلك تلك القابلية، فيبقى في المرحلة العقلية الابتدائية التي يعيشها.

طبعاً ليس شطراً أن يكون الإنسان الذي يمتلك قوة استدلال أكبر أعلى شأناً من غيره من الناحية المعنوية، فقد تكون عواطف بعض أصحاب المستوى الفكري المتواضع أصدق وأسلم، وارتباطهم وتعلقهم بالنبي وبمبد،أ الغيب أقوى وحبهم أصدق وأعمق. وهذا من شأنه أن يكسبهم مكانة معنوية أعلى ومرتبة أسمى عند الله سبحانه وتعالى. فلكل من العاطفة والاستدلال دوره ومكانته، فلا العاطفة تستطيع أن تحتل مكان الاستدلال العقلي، ولا الاستدلال بإمكانه احتلال مكان العاطفة.

وحادثة عاشوراء تنطوي في طبيعتها وذاتها على بحر زاخر من العواطف الصادقة. فهذه الفاجعة جاءت نتيجة لثورة إنسان عظيم ومعصوم، إنسان لا يمكن التشكيك بمقدار ذرة في شخصيته المتسامية. ويقر جميع المنصفين في العالم بتعالي هدفه وهو "إنقاذ المجتمع من براثن الظلم والاستعباد". وقد أعلن عن هذا الهدف بوضوح عندما قال:
"أيها الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعده الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان ولم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقاً على الله أن يُدخله مَدخله".
إذن فالهدف من الثورة هو الوقوف بوجه الظلم والطغيان.

وقد تحمل الحسين عليه السلام من أجل هذا الهدف المقدس أشقّ أشكال الجهاد والصراع من أعداء الله، لأن أشق أشكال الكفار هو الكفاح في الغربة، فالاستشهاد والقتل بين الأهل والأحبة ووسط تشجيع عامة الناس ليس بالأمر المستصعب جداً.

ففي صدر الإسلام حينما كانت تحدث مواجهة بين الحق والباطل وكان على رأس الجيش الإسلامي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أو أمير المؤمنين عليه السلام، كان الجميع يتبارى للذهاب إلى ساحة الحرب استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يودّعونهم ويدعون لهم، فكانوا يقاتلون العدو ويُقتلون وهم بين أهلهم وأحبتهم. فليس من الصعب جداً أن يقوم الإنسان بمثل هذا العمل. ولكن الصعب هو القسم الآخر من أشكال الكفاح وهو الكفاح الشاق والمليء بالمتاعب والعقبات، حيث ينزل الإنسان إلى ساحة الحرب وهو يرى أن جميع أفراد المجتمع يقفون ضده، أو يتغافلون عن نصرته، أو يحاولون الابتعاد عنه، وحتى الذين يؤيّدونه في قرارة أنفسهم لا يجرؤون على إعلان هذا التأييد بألسنتهم.

ففي فاجعة كربلاء لم يجرؤ حتى أمثال عبد الله بن عباس أو عبد الله بن جعفر - اللذين كانا من بني هاشم ومن تلك الشجرة الطيبة - على إبراز تأييدهما للإمام الحسين عليه السلام في مكة أو المدينة.
إذن فجهاد الغرباء من أشق وأصعب أشكال الجهاد في سبيل الله. فالجميع يقف بوجه ذلك الإنسان المجاهد ويعرض عنه حتى الأصدقاء.
حتى إن الإمام الحسين عليه السلام حينما دعا أحدهم إلى نصرته رفض نصرة ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرض فرسه على الحسين عليه السلام بدلاً من ذلك. فهل توجد غربةً أعظم من هذه الغربة؟ وهل يوجد كفاح في الغربة أشق من هذا الكفاح؟

وفي خوضه لهذا الصراع رأى الإمام الحسين عليه السلام بأم عينيه مقتل أولاده وإخوانه، وأبناء أخوته، وأبناء عمومته، وجميع بني هاشم، حتى أنه شاهد مقتل ولده الرضيع الذي كان له من العمر ستة أشهر فقط.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان يعلم عليه السلام أنه بعد استشهاده سوف تقوم تلك الذئاب الكاسرة بالهجوم على عياله وأطفاله لإخافتهم وإرعابهم ونهب أموالهم وبالتالي أسرهم وتوجيه الإهانة لهم والاعتداء على بنت أمير المؤمنين عليه السلام زينب الكبرى عليها السلام التي كانت من الشخصيات البارزة في العالم الإسلامي.

وقد واصل أبو عبدالله كفاحه المرير على الرغم من علمه بجميع تلك الأمور تفصيلاً. فلاحظوا كم كان ذلك الجهاد الذي خاضه أبو عبدالله شاقاً ومريراً. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يعاني هو وأهل بيته وأصحابه من شدَّة العطش نتيجة لمنعهم من الوصول إلى ماء الفرات، فقد كان الأطفال والصبيان والشيوخ وحتى الأطفال الرضع يتلظّون من شدة العطش! حيث لم يكونوا قد ذاقوا قطرة من الماء منذ مدة طويلة.
فلكم أن تتخيّلوا الآن كم كان شاقاً وعظيماً ذلك الجهاد الذي خاضه إمامنا الحسين عليه السلام.

فأي إنسان لا تهتز عواطفه من فاجعة استشهاد مثل هذا الإنسان العظيم الطاهر المعصوم الذي كانت الملائكة تتسابق لرؤية وجهه المنير والذي كان يتمنى الأنبياء والأولياء أن يكونوا في منزلته؟
وأي إنسان حر يعرف مغزى تلك الفاجعة ويفهم أهدافها ثم لا يشعر بالارتباط القلبي والعاطفي معها؟

فهذا النبع المعنوي والعاطفي بدأ بالتدفق وما زال. عصر يوم عاشوراء حينما وقفت زينب - على ما ورد في النقل - على التل الزينبي وخاطبت جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلة:
"يا رسول الله صلى عليك مليك السماء هذا حسينك مرمَّل بالدماء مقطع الأعضاء مسلوب العمامة والرداء" وبدأت بقراءة عزاء الإمام الحسين بصوت عال، وبعد ذلك قامت بإفشاء ما أرادوا كتمانه من خلال خطبها وكلماتها الرنَّانة في كربلاء والكوفة والشام والمدينة المنورة. هذه هي فاجعة عاشوراء وهذه هي أبعادها وأهدافها.
والحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الله سبحانه وتعالى سوف يسأل الإنسان يوم القيامة عن جميع النعم التي منَّ بها عليه، وإن من أعظم النعم الإلهية علينا هي مجالس العزاء التي تُقام إحياءاً لذكرى فاجعة عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام.

وللأسف إن إخواننا من المسلمين غير الشيعة قد حرموا أنفسهم من هذه النعمة العظيمة التي بإمكانهم استثمارها إذا أرادوا. طبعاً هناك القليل منهم من يقيم مراسم العزاء لأبي عبد الله عليه السلام لكنه ليس رائجاً عندهم كما هو رائج عند الشيعة بهذا الشكل الواسع الذي يعرفه الجميع.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي الفائدة التي يجب أن تجنى من هذه الذكرى ومن هذه المجالس؟ وما هو الطريق لشكر هذه النعمة؟
أما الجواب على هذه الأسئلة وأمثالها فهو ملقى على عاتقكم أنتم.
فهذه النعمة الكبيرة هي التي تربط القلوب بمنابع الإيمان بالله وبالغيب مباشرة، وهي التي جعلت الحكام الطواغيت على طول التاريخ يرتجفون خوفاً وفزعاً من عاشوراء ومن قبر الإمام الحسين عليه السلام. فقد بدأ هذا الخوف منذ زمن بني أُمية وتواصل إلى يومنا هذا.

وقد شاهدتم نموذجاً لهذا الخوف والفزع في أثناء أحداث الثورة الإسلامية المباركة. فحينما حل شهر محرم - في أيام الثورة الإسلامية - لم يتمكن النظام الشاهنشاهي الرجعي الكافر والفاسد من القيام بأي عمل وشُلَّ عن الحركة تماماً.
وتشير التقارير المتبقية من زمن ذلك النظام المنحط بصراحة إلى أن النظام البهلوي ومع حلول شهر محرم الحرام قد فقد السيطرة على كل شيء وفلت زمام المبادرة من يده في جميع أرجاء البلاد.

وقد عرف إمامنا الراحل رضي الله عنه - ذلك الرجل الحكيم وصاحب النظرة الثاقبة - كيف يستغل أيام عاشوراء من أجل السعي إلى تحقيق أهداف الإمام الحسين العظيمة، فقد أعلن رضي الله عنه بأن محرم هو شهر انتصار الدم على السيف، وبهذا المنطق - وببركة شهر محرم - انتصر الدم على السيف في إيران الإسلامية وكما خطط له الإمام الراحل رضي الله عنه.
هذه إحدى النماذج التي شاهدتموها ولمستموها في أثناء أحداث ثورتنا الإسلامية المباركة.

إذن لا بد من استثمار هذه النعمة الإلهية بشكل كامل وبنَّاء من قبل العلماء وأبناء الشعب معاً. أما استثمار أبناء الشعب لهذه النعمة فيتمثل في إقامة مجالس العزاء وتوسيعها على أكبر نطاق ممكن والمشاركة الفعَّالة والجادة فيها.
ويجب أن تكون تلك المشاركة بقصد الاستفادة الحقيقية وليس مجرد إتلاف للوقت أو محاولة الحصول على الثواب الأخروي - بالشكل الذي يتصوّره بعض السذج من الناس -، فمن المؤكد أن المشاركة والحضور في هذه المجالس يستتبعه الثواب الأخروي.
ولكن السؤال: ما هو السبب في الحصول على الثواب من خلال المشاركة في مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام.

فمن المسلم أن هذا الثواب يتحصل نتيجة لسبب من الأسباب وما لم يتحقق ذلك السبب فإن الثواب لا يحصل قطعاً. ولكن البعض يغفل - للأسف - عن هذه النقطة ويعتبر أن مجرد الجلوس في المجالس الحسينية كافٍ في الحصول على الثواب الأخروي.

إذن يجب على أبناء الأمة معرفة القيمة الحقيقية والأهمية البالغة لتلك المجالس والمشاركة الجادَّة فيها وجعلها وسيلة لتعميق الارتباط القلبي والنفسي بينهم وبين الحسين عليه السلام وآل النبي عليه السلام واتخاذها - تلك المجالس - للوصل بينهم وبين روح الإسلام والقرآن.

هذا ما يتعلق بالناس حول الاستفادة من هذه المجالس. وأما ما يرتبط بعلماء الدين، فإن القضية أكثر تعقيداً، لأن مجالس العزاء تقوم على أساس اجتماع عدد من الناس ومشاركة أحد الخطباء الذي يتولى إقامة العزاء حتى يستفيد الآخرون. ولكن كيف يجب أن تقام مراسم العزاء؟ أنه سؤال موجَّه إلى جميع من يشعر بالمسؤولية في هذه القضية، وباعتقادي، أن هذه المجالس يجب أن تتميز بثلاثة أمور:

الأول: هو تكريس محبة أهل البيت ومودّتهم في القلوب، لأن الارتباط العاطفي ارتباط قيّم ووثيق، وعليكم أن تعملوا في هذه المجالس على تكريس مودة الحسين بن علي عليهما السلام وأهل بيت النبوة في قلوب المشاركين وتوثيق ارتباطهم بمصادر المعرفة الإلهية أكثر فأكثر. وأما إذا وجدتم وضعاً في هذه المجالس لم يؤدِّ - لا سمح الله - إلى تكريس مودة أهل البيت في قلوب المستمعين أو من هم خارج المجلس وإنما يؤدي - لا سمح الله - إلى ابتعادهم واشتمئزازهم من مجالس العزاء، فإن هذه المجالس تفقد عندئذٍ واحدة من أهم فوائدها وأهدافها، بل تصبح مضرّة في بعض الأحيان. فانظروا ماذا ستفعلون أنتم الذين تؤسسون هذه المجالس وأنتم الذين تخطبون فيها حتى تتعزز العلاقة العاطفية للناس بالحسين بن علي عليهما السلام وأهل بيت النبوة يوماً بعد يوم نتيجة المشاركة في هذه المجالس.

الأمر الثاني: الذي يجب أن تتميز به المجالس الحسينية هو إعطاء صورة واضحة عن أصل قضية عاشوراء للناس وتبيانها لهم، وأن مجالس العزاء على الحسين بن علي عليه السلام يجب أن لا تكون مجرد منبر لخطابات غير هادفة، لأن هناك في هذه المجالس أُناساً يتميزون بالتفكر والتعقل والتأمل في الأمور وما أكثرهم في مجتمعنا ببركة الثورة الإسلامية سواءاً من الشباب والشيوخ والنساء والرجال الذين يتساءلون مع أنفسهم لماذا جئنا إلى هذا المجلس وبكينا على الحسين عليه السلام؟ ما هي أصل القضية؟ لماذا يجب البكاء على الإمام الحسين؟ لماذا جاء الإمام الحسين إلى كربلاء وأوج قضية عاشوراء؟ هذه الأسئلة يجب أن يجاب عنها في المجالس الحسينية حتى تتعزز معرفة المستمع بأصل قضية عاشوراء، وإذا لم تتطرقوا في منابركم وخطبكم ونعيكم إلى هذا المعنى ولو بالتنويه والإشارة، فإن هذه المجالس ستفقد ركناً من الأركان الثلاثة التي أشرت إليها، ومن الممكن أن لا تستحصل الفائدة المتوخاة من المجلس أو قد تؤدي - فرضاً - إلى الضرر لا سمح الله - هذا الأمر الثاني.


أما الأمر الثالث:
الذي يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار في مجالس العزاء، فهو تكريس المعرفة الدينية والإيمان الديني. إذ أنه لا بد من التحدث عن تعاليم الدين في هذه المجالس بشكل يعزز إيمان المستمع ومعرفته بالله سبحانه، ولا بد من الموعظة والتطرق إلى حديث شريف صحيح السند أو رواية تاريخية لاستخلاص العبر منها، أو تفسير آية شريفة من القرآن الكريم أو نقل موضوع ما تطرق له كبار العلماء والمفكرين الإسلاميين، يجب أن لا يكون الأمر بأن يرتقي خطيب على المنبر ويتحدث بدون رؤية وبكلام غير هادف، أو يتطرق في النعي إلى مواضيع هشة من حيث الفحوى، ليس فقط لا تؤدي إلى تعزيز الإيمان وتقويته، وإنما تؤدي إلى إضعافه. وإذا حدث مثل هذا الأمر، فإننا سوف لا نبلغ الفوائد والأهداف المتوخاة من هذه المجالس.

وأقول لكم أنه تشاهد - وللأسف - مثل هذه الأمور أحياناً حيث يتطرق الخطيب أحياناً إلى أمور ضعيفة من حيث الاستدلال والإسناد العقلي والنقلي، ويعتبر هداماً من حيث التأثير في ذهن المستمع الذي هو من أهل المنطق والاستدلال العقلي.

هناك بعض الأمور المدوّنة في كتاب ما وليس لدينا دليل على صحة هذه الأمور أو سقمها، ولكن عندما تتطرقون إليها من على المنبر، فإنها وبالرغم من عدم ثبوت سقمها إنما تثير أسئلة وإشكالات حول الدين لدى المستمع الذي قد يكون طالباً جامعياً أو تلميذاً أو شاباً أو مقاتلاً أو ثورياً ممن تفتحت أذهانهم وأفكارهم ببركة الثورة الإسلامية، وأنه من الأفضل إلا تتطرقوا إلى هذه الأمور والمواضيع حتى لو كانت صحيحة السند، ولكنها تؤدي إلى الضلال والانحراف، دع عنك أنها تفتقد في معظمها إلى السند الصحيح الموثق.

قد يكون هناك موضوع أو أمر سمعه شخص من شخص آخر بغض النظر عن صحة وسقم السند، أو استشفه من قصيدة وبادر على نقل هذا الموضوع من كتاب وقع بأيدينا على سبيل الفرض، فنحن يجب أن لا نتطرق إلى هذا الموضوع الذي لا يمكن تسويقه أو تبريره إلى المستمع، وخاصة إذا كان ممن يتميز بالوعي والذكاء والبحث في دقائق الأمور، لأنه ليس واجباً أن نقول كلما نعلم أو ننقل ما دُوِّن في الكتب.
إن الجانب المهم من القضية الثقافية في مجتمعنا اليوم إنما ترتبط بالشباب، ولا أعني الطلبة الجامعيين وحدهم كما كان مصطلحاً قبل الثورة الإسلامية، وإنما أعني جميع الشباب من الرجال والنساء والطلبة وغيرهم الذين تفتحت أذهانهم أزاء مختلف القضايا، وأصبحوا ينظرون إليها بعين التبصر والتحقيق، فإنهم معرّضون للشبهات ويريدون أن يفهموا الأمور ببصيرة.

إن القضية الثقافية في عهدنا هو إلقاء الشبهات من جانب الأعداء، إنهم يلقون الشبهات ولا يمكن أن نفرض على من لا يؤيدنا أو لا يقبل أفكارنا بأن يخرس ولا يتكلم. إنهم يفتعلون الشبهات ويرّوجونها ويثيرون الشكوك في النفوس، أنتم تقولون بضرورة التصدي للشبهات وعدم إشاعتها في حين أن البعض يرتقي المنبر دون التوجه إلى هذه المسؤولية الخطيرة، ويتفوّه بكلام ليس فقط لا يحل أية مشكلة في ذهن المستمع، وإنما يزيد هذه المشاكل تعقيداً. فلو ارتقى أحدنا المنبر وتفوه بكلام أثار شكوكاً حول الدين فلي أذهان عشرة أو خمسة أو حتى واحد من الشباب دون أن نعرفه، فكيف يمكن التعويض عن هذه الخسارة وإزالة الشكوك؟ وهل يمكن أساساً التعويض عن ذلك؟ وهل يغفر لنا الله ذلك؟

هذه هي الأمور الثلاثة التي يجب أن تتميز بها مجالس العزاء: تكريس المودة للحسين بن علي عليه السلام ولأهل بيت النوبة، وتعزيز العلاقة والارتباط العاطفي بهم، وإعطاء المستمع صورة واضحة عن واقعة عاشوراء، وتكريس المعرفة الدينية ووشائج الإيمان بالله سبحانه وتعالى لدى المستمع، وأنه يكفي لو تحقق الحد الأدنى من ذلك.

فنحن لا نقول بأن جميع المنابر يجب أن تستوعب كل هذه الأمور، يكفي أن ينقل الخطيب حديثاً معتبر السند ويبادر إلى تفسيره ويبين معانيه للمستمع دون أية إضافات من التي لا داعي لها وتبعد المستمع عن المعنى الحقيقي للحديث، أو أن يبادر الخطيب إلى تفسير آية شريفة من المصادر المعتبرة بعد التدقيق والتأمل فيها حتى يتحقق الهدف المنشود، ولذكر المصاب تكفي الاستفادة من كتاب "نفس المهموم" للمرحوم المحدّث القمي، فإنه يُبكي المستمع ويثير تلك العواطف والمشاعر الجيَّاشة التي تتوخاها، ولا داعي للتعرض إلى أمور تبعد المجالس الحسينية عن الفلسفة الحقيقية لإقامتها، وإنني أخشى من أن لا نتمكن من القيام بواجبنا ومسؤولياتنا - لا سمع الله - وخاصة في هذا العصر الذي هو عصر إحياء الإسلام وتجليه وتجلّي أفكار أهل بيت النبوة عليهم السلام.

هناك أمور تُقرب الناس إلى الله وتعزّز تمسكهم بتعاليم الدين، ومن هذه الأمور هي مراسم العزاء التقليدية وأن ما أوصانا الإمام - رضوان الله تعالى عليه - بإقامة مراسم العزاء التقليدية هو المشاركة في المجالس الحسينية ونعي الإمام الحسين عليه السلام والبكاء عليه واللطم على الصدور في مواكب العزاء، وهي من الأمور التي تعزز المشاعر الجيَّاشة إزاء أهل البيت.

غير أن هناك أموراً خلاف ذلك وتبعد البعض عن الدين حيث شوهدت - وللأسف - خلال الأعوام الثلاثة أو الأربعة الماضية أعمال تروّجها بعض الأيدي على ما يبدو، أنهم يروّجون بعض الأيدي على ما يبدو، أنهم يروّجون في مجتمعنا بعض الأعمال التي تثير علامات استفهام في أذهان المشاهدين. لقد جرت العادة في قديم الأيام وبين عوام الناس أن يعلّقوا إقفالاً بأجسامهم في مراسم العزاء، فانبرى لها كبار العلماء واندثرت هذه العادة، غير أنها ظهرت مجدداً في الآونة الأخيرة، وسمعت أن البعض يعلّقون الإقفال بأجسامهم في مواكب العزاء، إنه عمل خاطئ يقوم به هذا البعض، وكذلك بالأمر بالنسبة لشّج الرؤوس بالسيوف أي ما يصطلح عليه بـ"التطبير" الذي يعتبر عملاً مخالفاً هو الآخر.

أنا أعلم بأن البعض يقول بأن الحق كان مع الإمام الذي لم يتطرق إلى موضوع شجّ الرؤوس وما الذي دعاك إلى هذا الموضوع، كلا، ليس الأمر بهذا الشكل، فلو كان الإمام - رضوان الله عليه - حياً لتصدى لظاهرة شجّ الرؤوس بالسيوف على الصورة التي روّجت خلال السنوات الأربع أو الخمس بعد انتهاء الحرب، أنه عمل خاطئ أن يشجّ البعض رؤوسهم بالسيوف، وما هو الحاصل من إراقة دمائهم بهذه الصورة؟ وكيف يمكن اعتبار هذا العمل من مراسم العزاء؟ أجل من مراسم العزاء اللطم على الرؤوس والصدور، ولكن ليس من العزاء أن شجّ الإنسان رأسه بالسيف ويريق دمه حتى لو كانت المصيبة قد حلّت بأعز أعزائه، أنها بدعة وليست من الدين، ولا شك في أن الله لا يرضى على ذلك.

إن علماء السلف الذين لم يتصدوا لهذه القضية إنما كانت يدهم مغلولة في هذا المجال، أما اليوم فإنه عصر الحكومة الإسلامية وعصر تجلّي الإسلام وينبغي أن لا نقوم بأعمال تشوّه سمعة المجتمع الإسلامي الذي يتميز بمودة أهل البيت عليهم السلام ويفخر بأنه يتبرك بالاسم القدسي لولي العصر - أرواحنا له الفداء - وباسم الإمام الحسين عليه السلام واسم أمير المؤمنين عليه السلام.

كيف؟ ينبغي أن لا نقوم بأعمال تصوِّر أبناء هذا المجتمع بأنهم أناس خرافيون وغير منطقيين أما المسلمين وغير المسلمين في العالم، وفي الحقيقة أنني كلما وجدت بأنه لا بد أن أحذّر أبناء شعبنا العزيز من هذه الظاهرة التي هي في الواقع بدعة وخلاف لتعاليم الدين ليكفّوا عن هذا العمل. فأنا لست راضياً عمن يتظاهرون بشجّ الرؤوس، وأعرب هنا أنه كان في زمن ما يجتمع عدد من الناس في مكان محدود وليس أمام الآخرين ويشجّون رؤوسهم دون أن يتظاهروا بهذا المعنى، ولا شأن لأحد بهم سواء صح هذا العمل أو لم يصح. فإنه كان محدوداً وليس تظاهراً أمام الآخرين، أما أن ينطلق عدة آلاف من الأشخاص فجأة في أحد شوارع مدينة قم أو طهران أو إحدى مدن خراسان وآذربيجان وهم يحملون السيوف ليشجّوا بها رؤوسهم، فإن هذا العمل يعتبر خلافاً بلا ريب ولا يرضى عنه الإمام الحسين عليه السلام، ولا أدري من أين نشأت هذه الأعمال التي جاؤوا بها إلى مجتمعاتنا الإسلامية.

وهناك بدعة غريبة ابتدعوها مؤخراً في كيفية الزيارات. أنتم تعلمون أن جميع أئمة الهدى عليهم السلام كانوا يزورون المرقد الطاهر للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمراقد المطهرة لأئمة أهل البيت عليهم السلام في المدينة المنورة والعراق وإيران، ولكن هل سمعتم أن أحداً من الأئمة أو من العلماء كان يزحف على صدره من باب الحرم إلى الضريح أثناء الزيارة، فلو كان هذا العمل مستحباً أو مستحسناً لقام به علماؤنا الكبار، إلا أنهم لم يقوموا بمثل هذه الأعمال، وحتى أنه نُقل بأن المرحوم آية الله العظمى البروجردي - رضوان الله عليه - ذلك العالم الورع والمجتهد البارز وذو الأفكار النيرة منع حتى تقبيل العتبة لدى دخول الحرم المطهر لأي من الأئمة عليهم السلام، ورغم أن هذا العمل قد يكون من المستحبات كما جاء في كتب الأدعية، وأتذكر أن هناك رواية باستحباب تقبيل العتبة، ولكل المرحوم البروجردي إنما منع ذلك حتى لا يُتصور أي نوع من السجود يتبجح به الأعداء لتوجيه الاتهامات إلى الشيعة.

ليس صحيحاً أن يدخل فجأة عدد من الناس إلى الحرم المطهر للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ويزحفون على صدورهم مسافة مائتي متر نحو المرقد، كلا، إنه عمل خاطئ، أنه استهانة بالدين وبحرمة الزيارة، من يروّج هذه الأمور بين الناس. ليكفوا عن ذلك، أنه من عمل الأعداء.
عليكم أن تبيّنوا هذه الحقائق للناس حتى تتفتح أذهانهم. الإسلام دين منطقي، والفهم الشيعي للإسلام هو الأكثر منطقية من غيره، ولا أحد يتمكن من أن يتهم الشيعة بضعف منطقهم، لأن علماء الكلام من الشيعة كانوا كالشموس الساطعة في عهدهم، سواء الذين عاصروا حياة الأئمة كمؤمن الطاق وهشام بن الحكم وسواء الذين جاؤوا بعد الأئمة كبني نوبخت والشيخ المفيد وغيرهم والمتأخرين من علماء الكلام الشيعة كالمرحوم العلامة الحلي وغيرهم.

فنحن الشيعة أهل المنطق وأهل الاستدلال المنطقي، وأن الكتب الخاصة بالشيعة مفعمة بالاستدلالات المنطقية القوية ككتب المرحوم شرف الدين وكتاب الغدير للمرحوم العلامة الأميني في عصرنا الحاضر التي تستند إلى أدلة أقوى من الإسمنت المسلح.

هذا هو التشيع وليس تلك الأعمال التي لا تستند إلى أي دليل وهي أشبه بشيء من الخرافات، فلماذا يروّجون هذه الأعمال؟ إنه من الأخطار الكبرى التي يجب على علماء الدين وحماة العقيدة أن ينتبهوا إليها.

لقد أشرت إلى أنه قد يكون هناك من يقول من منطلق التعاطف أنه كان الأفضل أن لا يتطرق فلان إلى هذه الأمور في الوقت الحاضر، ولكن ليس الأمر بهذه الصورة، كان عليّ أن أتطرق إلى هذا الموضوع، فإن مسؤوليتي أكثر من الآخرين، كما أن على الآخرين أن يحذروا من هذه الأعمال وعليكم أن تشيروا إلى الأمور، وأن الإمام الراحل - رضوان الله عليه - ذلك القائد الجريء إنمنا كان يتصدى بمنتهى القوة ودون أية اعتبارات لكل ثغرة تشم منها رائحة الانحراف، ولو كانت هذه الأعمال رائجة بهذه الصورة على عهده لتصدى لها بلا ريب.

كما أن بعضاً من الذين تعلّقوا بهذه الأمور سيتأثرون نفسياً ويقولون لماذا هذا الجفاء من فلان إزاء الأمور التي نتعلق بها؟ ولماذا تطرق لها بهذه اللهجة؟ وطبيعي أن هؤلاء في معظمهم من المؤمنين الصادقين إلا أنهم على خطأ واشتباه، وأن هذا الأمر مسؤولية كبيرة يتحملها السادة العلماء والخطباء أينما كانوا. فمجلس العزاء على الحسين بن علي عليه السلام هو ذلك المجلس الذي يجب أن يكون منشأً للمعرفة ومتميزاً بالأمور الثلاثة التي أشرت إليها آنفاً.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن عليكم بالموفقية وأن يلهمكم القوة والشجاعة والجد في متابعة ما فيه رض الله وتبيين ذلك، وستقومون بهذا الواجب إن شاء الله.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع