آية الله الشهيد مرتضى مطهري
سوف نقدم بحثاً مختصراً حول عوامل التربية الصحيحة واكتساب الأخلاق الفاضلة في الإسلام. وأحد هذه العوامل هو التعقل والتفكر والتعلم الذي أشرنا إليه تحت عنوان الغايات والأهداف. فالفكر أو التعقل له دور المصباح وقد بحثنا حوله سابقاً.
أما العامل الثاني الذي يركز عليه السلام كثيراً فهو عامل التقوى والتزكية التي وردت في القرآن. فالتقوى تؤدي إلى تنمية الإرادة الإنسانية، تلك الإرادة التي تهيئ الإنسان للأعمال. فالوعي لا يكفي لوحده وإنما يحتاج إلى القدرة على القيام بالعمل وهذا ما يحصل من خلال التقوى وتزكية النفس. وربما نجد في المدارس غير الدينية إشارة إلى هذا البعد ولكن بالتأكيد ليس بنفس المستوى الذي نلحظه في المدارس الدينية.
والعامل الثالث الذي سوف يدور البحث حوله هو العبادة التي هي أحد عوامل التربية واكتساب الأخلاق الفاضلة فكما أن التفكر والتعقل يلعب دور الإثارة للقوة العاقلة والتزكية والتقوى لقوة الإرادة فإن العبادة تؤثر كثيراً في ازدياد المحبة والعلاقة المعنوية وإيجاد الحرارة الإيمانية في ازنسان. أي أن الإيمان الذي يكون بدوره منشأ للعبادة، فإن العبادة بدورها تقوي الإيمان. وهذا ما ورد في متن الروايات الإسلامية حول التأثير المتقابل للإيمان والعمل.
* روح العبادة
ذكرت في مرات عديدة أن روح العبادة هي ذكر الله والخروج من سبات الغفلة. ﴿أقم الصلاة لذكري﴾ وفي آية أخرى: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر﴾ (العنكبوت/45).
فقد أوحى الإسلام بالعبادة لأجل التذكر. تحت عنوان الفريضة والنافلة. وحارب كل الأسباب التي تميت روح العبادة وتوجد الغفلة، فكل ما يؤدي إلى الانصراف والغفلة عن الله إما أن يكون حراماً أو مكروهاً كالإفراط في الأكل وكثرة الكلام والاختلاط والنوم. وبالطبع تعود بعض الممنوعات كالنهي عن الإفراط في تناول الطعام لأسباب جسمانية، ولكن وبالتأكيد لا ينحصر في هذا الجانب فقط، "فقلة الطعام" قد جعلت مرادفة ليس فقط لحفظ الصحة والجسم بل لجعل روح الإنسان أخف وللتخفيف من موجبات الغفلة.
* شكل العبادة والبرامج التربوية
في الإسلام يوجد خصوصية تتعلق بالعبادة. فصحيح أن روح العبادة قائمة على أساس الارتباط والاتصال بالله وتحطيم جدار الغفلة، لكن النقطة الملفتة هي أن الإسلام قد أعطى شكلاً للعبادة، وأولى هذا الشكل اهتماماً بالغاً، وفيه أدخل مجموعة من البرامج التربوية. فمثلاً ما هو الارتباط ما بين حضور القلب وخضوعه وبين البدن النظيف والطاهر؟
"إن الله ينظر إلى قلوبكم ولا ينظر إلى صوركم".
فنحن لا نريد السير إلى الله بالبدن، فسواء كان طاهراً أم لا، المهم هو القلب. ولكن الإسلام عندما شرّع العبادة ولأنه يريد أن يكون لها أثر خاص من الناحية التربوية، فهو يدخل بعض الأمور التي لا ترتبط كثيراً بها ولكنها مؤثرة في التربية والتعليم. كالغسل والوضوء والدوام على الطهارة. فهذا برنامج للنظافة ضمن العبادة.
* العبادة والحقوق الاجتماعية
القضية الأخرى تتعلق بالحقوق. فمن وجهة روح العبادة أيضاً: لا فرق بين أن يصلي المرء على مكان مغصوب أم مباح. فهذه تعاليم اجتماعية ترتبط بالملكية وخصوصيتها. وإلا فإن المسألة لا تختلف في الواقع إذا كان المكان ملكي أو ملك. أما العبادة فهي أمر واقعي، وبالتالي فإن تلك الأمور الاعتبارية لا يمكن أن تكون مؤثرة في تلك الحالة والرابطة المعنوية بين الإنسان وخالقه. وبعض الأشياء تؤثر، كأن يكون الإنسان مبتلى بمرض جسمي ونفسي فإن عبادته سوف تضطرب وتكون تلك الأعراض مانعة من حضور القلب.
ومع ذلك فإن الإسلام يحكم بأن المكان الذي تقام فيه الصلاة ينبغي أن يكون مباحاً، ويشمل هذا الماء واللباس وكل ما يرتبط بالصلاة. فلو كان في ثيابك خيط مغصوب لبطلت الصلاة، وهذه برامج تربوية ترتبط بالحقوق الاجتماعية أدرجت ضمن العبادة.
* الصلاة واستقبال القبلة
المسألة الأخرى - ومرة أخرى نستفيدها من الصلاة - أن الإسلام يقول أن على المصلي استقبال القبلة، مع أن القرآن يصرّح بأن العبادة لا تختلف في الواقع في أية جهة كانت: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله﴾. فلا يعني أننا إذا لم نستقبل الكعبة الشريفة لا نكون مواجهين لله. فالقرآن ينص على ذلك، ولكن في نفس الوقت فإن الإسلام يعطي فائدة تربوية ترتبط بالجانب الاجتماعي ولا دخل لها بروح العبادة، بمعنى أن روح العبادة لا تتوقف على مثل هذا الأمر. وهذا الجانب ينبع من إفهام الناس أن عليهم أن يبقوا موحدين. فهذا درس في الوحدة. ولكن النقطة التي يختارها لهم ما هي؟
فبالرغم من عدم اختلاف الأماكن بالنسبة لله: ﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً﴾ فالمعبد الأصل والمسجد الأول للعبادة الله الواحد، وهذا ما يربطنا بالتاريخ الماضي: "سنة إبراهيم وما قبله". وصحيح أن الكعبة قد بناها إبراهيم ولكنها كانت موجودة قبله، وحسب الروايات فإن النبي إبراهيم قد أعاد بناء ما قام به نوح قبله. أي أنه لم تمضي فترة زمنية ما كانت الكعبة فيها غير موجودة.
ونفس هذا الاختيار احترام للعبادة. فهي مهمة إلى درجة أن أول نقطة في العالم أقيمت للعبادة وأول مسجد أقيم لذلك ينبغي أن نتوجه إليه.
في كتاب "الإسلام وإيران" تعرضت لهذه المسألة. فتقديس النار عند الزردشتيين كان يطرح قبل أكثر من ألف سنة للمناقشة - وخاصة في زمن المأمون - وعندما كان المسلمون ينكرون عليهم عبادتهم للنار، كانوا يجيبون في بعض الأحيان بأننا نعبد النار وأنتم تعبدون التراب لأنكم تتجهون نحو الكعبة، وأحياناً كانوا يجيبون بأننا لسنا عبدة للنار مثلما أنتم لستم عبدة للتراب. فنحن نتجه نحو النار. لكن هذا الكلام عارٍ عن الصحة تماماً. فشعور المسلم تجاه الكعبة يختلف كثيراً عن شعور الزردشتي نحو النار. فالمسلم لا يحمل في فكره أي نوع من عبادة الكعبة، وهذا لا يحصل حتى عند الأطفال حين الركوع والسجود. أما الزردشتيون فإنهم يعبدون النار على أساس أنها مظهر لله. إنهم لا يقولون إن النار هي خالق العالم وكذلك كل عابد للأوثان.
على كل حال فإن الأمر باستقبال القبلة يعد نوعاً من إضفاء الشكل على العبادة. أما روح العبادة فهي أمر مجرد بحيث لو أن الإنسان لو اختلى بربه وناجاه حصلت له. ولكن مثل هذه العبادة لا يؤيدها الإسلام. وبمعزل عن التأثيرات الخاصة للأشكال المختلفة كالركوع والسجود في إيجاد الخضوع والخشوع لرب العالمين، فإن الإسلام يريد أن يطبق هذه الروح على مجموعة من الأمور التربوية الضرورية للحياة.
* تمرين لضبط النفس
إحدى أهم الخصائص الشكلية التي أعطاها الإسلام للعبادة مسألة ضبط النفس. والصلاة في الحقيقة عبادة جامعة ومدهشة. وهذه الخاصية موجودة في الحج أيضاً ولكن بصورة أخرى، فالإنسان بمجرد أن يدخل في الإحرام حتى يبدأ بعملية ضبط والتزام، فيمنع نفسه عن بعض الأمور. وكذلك ما يحدث في الصوم.
وفي أثناء الصلاة فإن تناول حبة واحدة من السكر يعد حراماً. وفي هذا العمل العبادي نجد الكثير من أصول التربية الإسلامية. فالأكل والشراب حرام، والضحك والقهقهة أو البكاء لغير الله. وعلى الإنسان أن يتغلب في الصلاة على كل ميوله ورغباته الخاصة ويسيطر على أحاسيسه وعواطفه ولا ينبغي أن يهتز أو يتحرك يميناً وشمالاً أو يلتفت ببصره. وهذه حالة من الانضباط الجسمي والروحي. وفي الصلاة، فإن التكلم بالكلام العادي مبطل لها. ويجري هذا الأمر على كل محدث باعث على زوال الطهارة.
* تمرين لمعرفة الوقت
ومسألة أخرى نلاحظها في الصلاة، وهي الاهتمام المتميز بأمر الوقت، حيث يحسب الإنسان فيه الدقائق والثواني. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر ليس مؤثراً في روح العبادة وارتباط الإنسان بالله بحيث لو صلينا قبل دقيقة واحدة من الظهر فلن نحصّل حضور القلب والخشوع. ولكن الإسلام جعل هذا الأمر شرطاً لصحة الصلاة لكي لا تقع الفوضى. ويقدر الإنسان الوقت. فلو وقعت الصلاة قبل الوقت كانت باطلة. أما إذا كان الأمر سهواً وأتم صلاته بعد الوقت صحت.
* السلام
وهناك مسألة السلام وطلب الصلح مع الآخرين التي جاءت في عمق تعاليم الصلاة. ففي سورة الحمد التي تجب قراءتها في الصلاة وبعد الحمد والثناء نتوجه بالخطاب إلى الله تعالى ونقول:
﴿إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾.
فالخطاب هنا بصيغة "نحن" وليس "أنا" علماً بأن الإتيان على ذكر الغير ليس مناسباً مع روح الصلاة، ولكن الإسلام ولأجل مصلحة اجتماعية عظيمة ولأجل إيجاد روح الجماعة في المسلمين أمرهم بالقول: إياك نعبد... وهناك نشاهد بوضوح روح التعاضد والارتباط الجمعي.
وأعلى من ذلك مسألة الصلح والسلام التي نجدها في الصلاة: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وهو إعلان عن طلب السلم ولكن ليس لعموم البشر ممن ينبغي اقتلاعه لصالح البشرية، بل مع العباد الصالحين. فإننا نقول لله إننا لن نحارب أو نخاصم أحداً منهم.