آية الله جوادي الآملي
جرى البحث في الفصلين السابقين حول تفسير آية الميثاق واختلاف الآراء حول بعض الأمور التي وردت في هذه الآية. وفي هذا الفصل سنحاول التطرّق إلى جوانب أخرى من الموضوع..
* علّة أخذ الميثاق:
أشرنا سابقاً إلى أنّ الشاهد والمشهود في آية الميثاق عبارة عن الإنسان نفسه لا غير، وليست هي الآية الوحيدة التي وردت في هذا الشأن، بل هناك آيات أخرى في القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون﴾ - المائدة - الآية - 8 وهنا يبدو واضحاً أنّ الشهادة في هذه الآية على النفس وأنّ الشاهد والمشهود واحد.
أمّا علّة أخذ الميثاق فقد بُيّن من خلال قوله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُون﴾
فعامل انحراف الإنسان، الذي إمّا أن يكون عاملاً تربوياً أو اجتماعياً أو كليهما معاً، لم يعد يشكّل حجّة أو عذراً، ولذلك كان أخذ هذا العهد على الوحدانية حتّى لا يعتذر المشرك يوم القيامة بالتأثير التربوي أو الاجتماعي.
* التقليد الأعمى
في عدّة آيات قبل الآية ورد قوله تعالى: ﴿قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُون﴾ - الأعراف - الآية - 38 / "، فلماذا كان لكلّ من التابع والمتبوع ضعف من العذاب؟
فلو لم يقتنع التابعون بالقناعة الفكريّة والعقائدية للمتبوعين لم يستطع هؤلاء إضلالهم والتسبّب في انحرافهم وغوايتهم، ولذلك فإنّ التابع يصيبه من الذنب بمقدار ما يقصر في التحقيق والبحث عن الحقيقة وبمقدار ما يؤثّر في إضلال من بعده من الأجيال. ولهذا قال: "لكلّ ضعف". إنّ حالة التقليد الأعمى هذه أشار إليها القرآن في الآية الثالثة من سورة الحج ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِير﴾. وكذلك في الآية الثامنة من نفس السورة قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيق﴾
إنّ الإنسان العاقل هو من يعتمد قوله وفعله على أسس حقيقية وواقعية، فإن قلّد فإنّما يقلّد من قبيل البحث والتنقيب عنا لأفضل بعدم يبذل ما بوسعه من الجهد والاجتهاد في سبيل الوصول إلى الأصلح من الحقائق.
إذاً، ففي أصل الدين والاعتقاد بالوحدانية لم يبقَ عذر لأحد، سواء كان تابعاً أو متبوعاً، ومن يعتذر غداً بحجّة "كنا مستضعفين في الأرض " تجيبه الملائكة: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ - النساء - الآية - 97 أي كان بإمكانكم الهجرة من مجتمعك وعبادة الله الواحد ولكنّكم آثرتم البقاء والموت مشركين.
وهكذا نرى أنّ حجّة الله بالغة وتامّة على الجميع، ولا أحد يمكنه أن يأتي بعذر أو حجّة تبرّر انحرافه العقائدي عن الجادة الصحيحة.
كانت هذه بعض المسائل التي ينبغي أن يلتفت إليها كلّ من يريد الشروع في تفسير آية الميثاق. وبالعودة إلى الآية، فقد اعتبر البعض أنّها تشير إلى عالم الذر، وأنكر آخرون ذلك وقدّموا الأدلّة والبراهين على عدم وجود عالم يُسمّى "عالم الذر".
وفي هذا المجال، فإنّنا سنتابع البحث من خلال أربعة محاور:
1- أدلّة منكري عالم الذر.
2- ردود القائلين بعالم الذر.
3- رأي المرحوم الأستاذ الطباطبائي رضي الله عنه.
4- النظرية المقبولة لدينا.
* أدلّة منكري عالم الذر
أمّا أدلة عالم الذر والتي قد أشرنا لها سابقاً فهي ستّة أدلّة قدّمها المرحوم الشيخ الطوسي في تفسيره "التبيان" وهو ينفي عالم الذر نفياً قاطعاً. وقد عناه الشيخ الطبرسي في "مجمع البيان" حين قال: إنّ بعض المحقّقين نفوا عالم الذر.
الدليل الأول على نفي عالم لاذر هو أنّ الذرات الصغيرة الحجم والمستخرجة من صلب آدم؛ إمّا أن تكون فاقدة للعقل والشعور وبالتالي فلا يمكن تكليفها بشيء وأي نوع من العهد والميثاق معها ضرب من العبث، وأمّا أن تكون عاقلة ومدركة بشكل كامل، وعليه وجب أن تتذكّره الخلائق في عالم الدنيا أيضاً وإلاّ انتفت الحكمة من أخذ الميثاق إذ أنّ نسيان العهد يعطي العذر للمشركين للاحتجاج يوم القيامة وهو ما تنفيه الآية الكريمة.
ثانياً: كيف يمكن نسيان هذا العهد أو الميثاق، والتي شهدت عليه النفس وأجابت "بلى"، مع أنّنا نتذكّر يوم القيامة كلّ الحوادث والأعمال التي مررنا بها في هذه الدنيا.
ينقل القرآن الكريم على لسان أهل الجحيم قولهم: "وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدّهم من الأشرار ". وهكذا نرى أنّ في جهنّم. وهي النار الإلهية، أنّ المجرمين لا ينسون بعض خواطرهم وذكرياتهم في عالم الدنيا، فكيف يمكن نسيان أمر مهم كمسألة الميثاق في عالم الدنيا.
ثالثاً: إنّ القائلين بعالم الذر يقولون إنّ تمام الذريّة استخرجت من صلب آدم وأخذ منها العهد فرداً فرداً، وهذا الأمر لا ينطبق مع الآية الشريفة في ثلاثة أمور:
أ- قوله تعالى: ﴿من بَنِي آدَمَ﴾ أي أنّ الميثاق لم يؤخذ من جميع بني آدم عليه الصلاة و السلام وإنّما من بعض ذريّته.
ب- قوله تعالى: ﴿من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، حيث أنّ مرجع الضمير "هم" في "ظهورهم" و"ذريتهم" هو بين آدم. فلو كان الميثاق على ذرية آدم من صلبه وجب أن يقول من ظهره وذريته لا ظهورهم وذريتهم.
ج- قوله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾. فإن كانت الذرية استخرجت من صلب آدم فليس لهم أب في ذلك العالم سوى آدم وهو موحّد لا مشرك فكيف يعتذرون بشرك آبائهم.
رابعاً: "إن كان عالم الذر يشمل جميع بني آدم، وإنّ جميعهم قد استُخْرجوا حينها من صلب آدم وأخذ الميثاق منهم، فاستخراج الذريّة من صلب آدم لا بدّ أن يكون بشكل أفقي من الأب والابن، أي أنّ الجميع يشهد ويعطي الميثاق في وقت واحد، وبذلك لا يعود لقوله تعالى وهو: ﴿أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْل﴾ لأنّ الجميع يعطي الشهادة والميثاق في وقت واحد ولا قبل في البين.
خامساً: إنّ الروايات التي يستشهدون بها على عالم الذر لعلّها تطرح أمراً آخر وهو الفطرة والطبيعة البشرية التواقة نحو التوحيد، لا وجود عالم اسمه عالم الذر استخرج فيه بنو آدم من ظهره على هيئة وذرات وأخذ منهم الميثاق.
فإنّ مثل هذا التفسير لا يقطع الحجّة على المشركين، إذ بإمكانهم أن يحتجوا يوم القيامة بأنّ عالم الذر عالم حضور وشهود كما يوم القيامة ولذلك فلا غفلة، أمّا في الدنيا فليس الأمر كذلك وقد غفلنا بسبب سوء التربية والمحيط الإجتماعي المشرك – أو يقولوا أنّ عالم الذر ليس بعالم تكليف حتّى نتعهّد به في عالم الدنيا.
سادساً: لا تشير الآية بشكل صريح على وجود عالم الذر، ولذلك فمع وجود المحذورات المذكورة لا بدّ أن نحملها، والروايات الواردة بشأنها، على التمثيل، والتمثيل موجود بكثرة في الكتب والسنّة، وفي الأدب العربي عموماً. والمقصود أنّ الله الذي خلق الآيات في الآفاق وفي الأنفس لكي تتجلّى للفطرة البشريّة حيث لا تبقي مجالاً لإنكار وحدانية الله تعالى وربوبيته في الدنيا ولا مكان للاحتجاج في الآخرة، وشهادة الفطرة هذه على وحدانية الله وربوبيته عبّر عنها بالعهد والميثاق.
وهذا يشبه التمثيل في مسائل التكوين، كما ورد في سورة فصلت ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾- فصلت - الآية - 11 ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾- الحشر - الآية - 21 حيث أنّه من المعلوم أنّ التفكير في مسألة مستعصية يوجب ثقلاً في النفس قد يؤدّي بالإنسان إلى فقدان عقله أحياناً،
وهكذا فالله تعالى يمثّل إدراك المعارف والعلوم القرآنية العميقة وصعوبة فهمها واستيعابها حتّى بالنسبة لمن يتصف بصلابة الجبل وهكذا قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون﴾ - العنكبوت - الآية - 43
وكذلك كما في قوله تعالى في آخر سورة الأحزاب: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ - الأحزاب - الآية - 72 . فالأمانة هنا عبارة عن التكليف، أو تعبير عن معرفة الله التي عرضها على السموات والأرض والجبال كتمثيل عن الفكرة، وليست حادثة واقعة تعبّر عن عرض الأمانة بشكل تجسيدي.
كانت هذه الأدلة التي أوردها البعض في مقام رفضهم لوجود عالم يسمّى بــ"عالم الذر". في الفصول القادمة سوف نتعرّض إلى ردود القائلين بعالم الذر ثم نتحدّث عن رأي العلامة الطباطبائي في الموضوع وفي النهاية نخلص إلى الرأي الأقرب إلى الصواب.