مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

بحث في آية الميثاق 4

آية الله جوادي الآملي


ذكرنا في الحلقة الماضية الإشكالات التي أوردها بعض العلماء على القائلين بعالم الذر استناداً إلى آية الميثاق والروايات الواردة بشأنها. وفي هذه الحلقة يذكر الشيخ الآملي بعض الردود على الإشكالات بالإضافة إلى نظرية العلامة الطباطبائي.

 

*الردود على الإشكالات
لقد كان للقائلين بعالم الذر والمثبتين لهذه النشأة مجموعة من الردود مقابل الإشكالات المذكورة، ونحن هنا نذكر ملخّصها رعاية للاختصار.
 

1- الرد الأول: وهو على إشكال نسيان الموقف حيث أنّ الحجّة لا تتمّ إلاّ إذا تذكّر بنو آدم جميعاً ذلك الموقف وهذا ما لم يحصل.
فقالوا إنّ نسيان الموقف وخصوصياته لا يضرّ بتمام الحجّة لأنّ ما يجب أن يتذكره الإنسان هو أصل الميثاق ومحوره والذي هو عبارة عن التوجّه نحو الكمال المطلق وأي إنسان لا يمتلك مثل هذا التوجه والكدح نحو المطلق! وهذا الكدح ليس سوى نتيجة لذلك الإقرار وتلك الشهادة. أمّا نسيان المكان وسائر خصوصيات ذلك الموقف فلا يضرّ بتمام الحجّة.
 

فعندما يعود الإنسان لفطرته السليمة سيدرك أنّ جميع البشر والكائنات متصفون بالفقر والعجز مثله ولا أحد يمكن الاعتماد عليه سوى الله تعالى. وهذا يدل على أنّه ما يزال يتذكر أصل الميثاق وإن ذهل عن سائر الخصوصيات والتفاصيل.
 

2- الرد الثاني: وهو على إشكال استخراج بعض الذرية لا كلّها ومن ظهورها جميعاً لا من صلب آدم وحده.
فقالوا إنّ الشهادة المستفادة من قوله تعالى ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ "الأعراف/72 " وهي تعني الإقرار بعبودية بني آدم جميعاً وربوبية الحق تعالى. وهذا يخصّ للجميع لا البعض منهم. أمّا استخراج الذريّة من صلب آدم فهذا لم يتجلّ بشكل واضح من الآية لكن الروايات بيّنت هذا الأمر فأخذنا به.
 

3- الرد الثالث: وهو على إشكال استخراج الذرية من صلب آدم فقط وهو نبي وموحد فلا يصح الاحتجاج بشرك الآباء ولا معنى ساعتئذٍ لورود الآية الكريمة ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "الأعراف /73 ".
فقالوا إنّ المراد من الآية قول المجموع وليس الجمع بمعنى أنّ هذا الإقرار إنّما كان لئلا يقول كلّ فرد منهم إنّما أشرك آبائي حتّى يرد الإشكال. فالقول قول المجموع من حيث المجموع لا قول كلّ واحد فيؤول المعنى إنّا لو لم نفعل ذلك لكان كلّ من أردنا إهلاكه يوم القيامة يقول: لم أشرك أنا وإنّما أشرك من كان قبلي ولم أكن ذرية وتابعاً لا متبوعاً.
وقد دلّت الآية والرواية على أنّ الله فصل هناك بين الآباء والأبناء وثمّ ردّهم إلى حال الجمع.
 

4- الرد الرابع: وهو أنّ الروايات ضعيفة لا معوّل عليها، فقالوا أنّ الأمر ليس كذلك فإنّ فيها ما هو صحيح وفيها ما هو موثق.
ففي تفسير القمّي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله:﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ "الأعراف/72 ". قلت: معاينة كان هذا؟ قال: نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ولولا ذلك لم يدرِ أحد من خالقه ورازقه فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه فقال الله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ "يونس/74 " وهي صحيحة ولا إشكال في دلالتها على المدّعي أيضاً.
 

5- الردّ الخامس: وهو على الإشكال القائل بوجود روايات صحيحة تصرف مضمون الآية إلى وجود فطرة التوحيد لدى الإنسان مثل "كل مولود يولد على الفطرة" لا إنّها تثبت وجود عالم الذر.
فقالوا إنّ هذه الروايات تريد أن تشرح الحدث أي أخذ الميثاق في عالم الذر، لا إنّها تفسر الآية بوجود فطرة التوحيد لدى الإنسان.
 

6- الرد السادس: وهو على حمل ما ورد في الآية على التمثيل حيث إن هذه الظاهرة "التمثيل " موجودة بكثرة في اللغة العربية وفي الكتاب والسنة. وقد تبنى هذه النظرية المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين رضي الله عنه من علماء لبنان إلى جانب علماء آخرين.
 

فقالوا إن الحمل على التمثيل يجب أن تتوفّر فيه قرائن داخلية أو دلائل خارجية. وإمكان الحمل لا يوجبه ما لم يتحقّق هناك مانع عن حمله على ظاهره، وممّا ذكر يتبيّن عدم وجود المانع من ذلك.
كانت هذه بعض الردود التي أوردها المثبتون لعالم الذر، أمّا العلامة الطباطبائي رضي الله عنه فقد اعتبر أن كلا النظريتين "عالم الذر – فطرية التوحيد " لا تعطي الجواب الشافي ولذلك كان له نظرية مستقلة فما هي النظرية؟

* نظرية العلامة الطباطبائي:
في البداية عرض العلامة الطباطبائي لنظرية عالم الذر وأورد عليها إشكالات إضافية فقال ما ملخّصه:
إنّ أصحاب نظرية عالم الذر يقولون إنّ الله تعالى أخرج من صلب آدم نطفة أصبحت فيما بعد أولاد الصليبيين وإخراج من هذه النطف الأجزاء التي أصبحت فيما بعد أولاداً صلبيين لها وهكذا حتّى أتى على جميع بني آدم وهم على هيئة ذرات منبثة غير محصورة. وكلّ ذرة من هذه الذرات إنساناً وهو بعينه الإنسان الدنيوي الذي جاء بعد ذلك العالم وبعد أن جعل لهم الحياة والعقل عرفهم نفسه فخاطبهم فأجابوه وأعطوه الإقرار بالربوبية. ثمّ ردّهم بعد أخذ الميثاق إلى مواطنهم من الأصلاب حتّى اجتمعوا في صلب آدم. وقد بقيت الذرات على حياتها ومعرفتها بالربوبية وهي بانتظار أن يؤذي لها في الخروج إلى الدنيا فيخرجون وعندهم ما حصلوه في الخلق الأول من معرفة الربوبية وإن نسوا ما وراء ذلك مما شاهدوه عند الأشهاد وأخذ الميثاق.
 

ولكن هذه النظرية – ودائماً حسب ما يرى العلامة الطباطبائي – تدفعها الضرورة وينفيها القرآن والحديث. وذلك من خلال المسائل التالية:
 

أولاً: لقد ثبت في الحكمة الإلهية والعلوم العالية إنّ إنسانية الإنسان بنفسه التي هي أمر وراء المادّة حادث بحدوث هذا البدن الدنيوي فكيف يصح أن تكون كلّ ذرة من تلك الذرات إنساناً تاماً في إنسانيته وهي عين هذا الإنسان الدنيوي.
كما تثبت بالبحث القطعي أنّ العلوم التصديقيّة البديهية والنظرية ومنها بأنّ للإنسان رباً يملكه ويدبر أمره، تحصل للإنسان بعد أن تنتهي إلى الإحساسات الظاهرة والباطنة، وهذا يتوقف على الوجود الدنيوي أيضاً.
 

ثانياً: إن كانت الحجّة الإلهية لا تتم إلاّ بوجود العقل إلى جانب المعرفة، فالعقل غير موجود عند إرجاع الذريّة إلى صلب آدم وبذلك لا تعود الحجة قائمة وإن كانت المعرفة كافية فهذا حاصل في الدنيا بأدنى تأمل فلا تعود هناك حاجة إلى الأشهاد وأخذ الميثاق من أجل إتمام الحجّة كما يفيد ظاهر الآية.
وبعبارة أخرى: يوجد في البين ثلاثة أمور:

1-الإشهاد والتعريف،

2-حصول المعرفة،

3-الإقرار وأخذ الميثاق.

فإن كان مجموع هذه الأمور الثلاثة يجعل الحجّة الإلهية تامّة، فقد بطلت من خلال نسيان البعض للإشهاد وأخذ الميثاق وإن كان الأشهاد وأخذ الميثاق مقدمة لحصول المعرفة وثبوتها لا غير، والحجّة تتمّ بالمعرفة فقط فهذا يعني تمامية الحجّة على كلّ إنسان حتّى الجنين والطفل المعتوه والجاهل، لأنّ ثبوت المعرفة في ذلك العالم كان للجميع وهذا يخالف العقل والنقل لأنهما يسقطان التكليف عن هؤلاء وأمثالهم.
وإن كانت الحجة متوقفة على حصول العقل والبلوغ مضافاً إلى ثبوت المعرفة فأي حاجة بعد ذلك إلى إشهاد وأخذ ميثاق والعقل حجّة تامة دونه؟
 

ثالثاً: لو كان الإنسان يحتاج في تحقّق المعرفة في هذه النشأة الدنيوية إلى تقدم وجود ذري يقع فيه الإشهاد ويوجد فيه الميثاق حتّى تثبت بذلك المعرفة بالربوبية لم يكن في ذلك فرق بين إنسان وإنسان فما بال آدم وحواء استثنيا من هذه الكلية؟ وإن قيل إنّ فيهما فضلاً وكرامة تغنيهما عن ذلك ففي ذريتهما من هو أفضل منهما وأكرم وإن كان لتمام خلقتهما يومئذٍ، فلكلٍ واحد من الذرية خلقته التامة في ظرفه الخاص به فلمَ لم يؤخر إثبات المعرفة فيهم ولهم إلى تمام خلقتهم بالولادة حتّى تتمّ عند ذلك الحجّة؟ وأي حاجة إلى التقديم؟
 

رابعاً: إنّ أصل أخذ الميثاق من أجل أن يتحمّل الإنسان مسؤولياته ولا يتكبّر عليها ومن أجل قطع كلّ عذر عليه يوم القيامة فإذا كان هكذا ميثاق قد أخذ فما هي الحاجة بعد إلى إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، أليس في إتمام الحجّة في عالم الذر ذاك غنىً عن ذلك؟
ويقول أصحاب نظريّة عالم الذر أنّ الذين قالوا "بلى" بألسنتهم وقلوبهم صاروا في هذه الدنيا مسلمين ومؤمنين، وأمّا الذين قالوا "بلى" بألسنتهم وأضمروا الكفر والشرك في قلوبهم. كانوا في هذه الدنيا منافقين ومشركين. ولو صحّ هذا الأمر فإنّه يدلّ على عدم تماميّة الحجّة لأنّ ذلك الموطن كيوم القيامة من حيث أنّه لا مجال فيه للريب والتردّد فما الداعي إلى إضمار الشرك سوى عدم تمامية الحجّة؟! ثمّ إنّه في ذلك العالم لا يوجد سابقة إلحاد أو كفر أو أحقاد وضغائن أو غيرها يدعو لإضمار الكفر،

 بل لعلّ الأمر يجب أن يكون معكوساً كما ورد في سورة النحل – الآية 14 – حول الفراعنة قوله تعالى ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ "النمل/14 " فالقلوب محل اليقين والإذعان بالأصل والجحود نتيجة للظلم والعلو وحيث لا ظلم ولا علو في ذلك العالم فلا يمكن إضمار الكفر والشرك مطلقاً.
أمّا النظرية التي تبناها العلامة الطباطبائي رضي الله عنه بعد دحضه لنظرية عالم الذر فهذا ما سنتعرّض له في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع