آية الله الجوادي الآملي
هذا البحث من الأبحاث المنمقة التي حرّرتها أنامل العالم الرباني آية الله جوادي الآملي، وهويتناول آية الميثاق، والتي تعتبر رأس الآيات المتشابهة والمستعصية على الأفهام، بالبحث والدراسة.
وبالنظر لأهمية البحث، ارتأينا أن نورده على حلقات تعميماً للفائدة ونشراً للمعرفة.
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف 172- 173).
تعتبر الآيتان أعلاه من آيات الميثاق، وهي من حيث اقتران ذكر أخذ الميثاق مع بيان الحكمة من ذلك، تشبه الآية الواردة في شأن خبر الفاسق ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات 6)، فقد بينت الحكمة من التحقق من خبر الفاسق، صواباً كان أم خطأ، وهي أن تحترزوا من ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ . وفي آية الميثاق أيضاً تبيان للحكمة من أخذه، وهي أن لا يعتذر المشركون يوم القيامة أنهم اضطروا للشرك بسبب غفلتهم وعدم معرفتهم بالله ووحدانيته، وبسبب المحيط الاجتماعي الملوّث بالشرك.
ويستفاد من مجمل الآيات أمران:
1- التعليل المذكور في الآية شامل وعام، وعليه فأخذ الميثاق كان من جميع الناس بدون استثناء، حيث أنه لوكان أخذ الميثاق من مجموعة معينة من البشر لم تنقطع حجة الآخرين في الاعتذار يوم القيامة، وهوخلاف شمولية التعليل وعموميته.
2- كان أخذ الميثاق بنحولم يبقَ لأحدٍ مجالٌ للّبس والتوهم ليحتج بذلك على الله تعالى يوم القيامة.
ويظهر من الآيتين الكريمتين أيضاً أن الميثاق الذي أخذه الله تعالى من بني آدم هوالشهادة على ألوهيته ووحدانيته، إلا أنها لم توضح متى وكيف تم هذا الميثاق.
وهنا آراء متعددة تعرضت لتوضيح هذا الأمر منها:
1: عالم الذر
توجد بعض الروايات التي تفيد أن الله تعالى قد أخرج من صلب آدم ذريته وخاطبهم ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾ فأجابوا جميعاً ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾ ثم أعادهم جميعاً إلى صلب آدم.
لكن تطبيق هذه الروايات على آيات الميثاق يعتبر أمراً مشكلاً، فقد عبّرت الآية بالقول ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ وهويفيد أن ذرية بني آدم أُخرجت من ظهورهم لا من آدم فحسب، ناهيك عن وجود راوٍ مجهول وغير معروف في بعض هذه الروايات.
ثم إن هذه الروايات لا تتوافق مع مفاد الآية ﴿أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ..﴾ لأنه لوكانت الذرية مأخوذة من صلب آدم، وآدم عليه الصلاة والسلام موحد وداع إلى التوحيد لا مشرك، فكيف يقولون أنهم أشركوا اتباعاً لآبائهم، ثم يجب أن يطلق عليه "الأب " لا الآباء.
وعليه فالروايات الآنفة الذكر لا تتلاءم مع صدر الآية ولا مع ذيلها ولا يمكن الاعتماد عليها في تفسير الآية.
* نفي عالم الذر
إن الدليل العقلي أيضاً يعارض هذا التفسير: يقول المرحوم الطبرسي، أمين الإسلام، في تفسير مجمع البيان: إن احتمال أن تكون ذرية آدم قد أخرجت من صلبه على شكل ذرات صغيرة جداً في ذلك اليوم حيث أشهدها الله تعالى على الإيمان بالوحدانية لم يقبل به المحققون لأن التكليف يتعلق بالإنسان الحي والعاقل والبالغ بينما الذرات لا عقل لها فكيف يمكن أخذ الميثاق منها.
ودليل آخر على عدم صحة الاحتمال المذكور أعلاه هولوأن الميثاق قد تم بالصورة المذكورة، وغايته أن لا يشرك بنوآدم بالله في عالم الدنيا، لوجب أن يكون جميع بني آدم موحدين لكن هذه الغاية لم تتحقق عملياً، لأن الكثير من البشر قد اختار الشرك على التوحيد.
ولا يصح جواب من يقول بأن الشرك قد جاء بسبب الغفلة ونسيان الميثاق، فقد يحدث أن يبرم إنسان ما عهداً مع آخر ثم ينسى أحدهم هذا العهد تماماً ولا يتحقق الهدف المرجومنه بتاتاً، لأنه لوكان عامل الانحراف عن التوحيد هوالغفلة عن الميثاق، وجب أن يتذكر البعض هذا الميثاق من خلال الأبحاث والتحقيقات العملية حول مسألة الإيمان بالله ويصبحوا مؤمنين أيضاً، لا أن يتذكروا الميثاق فحسب. يقول المرحوم الطوسي: "قد ينسى الإنسان الكثير من الحوادث والأمور غير المهمة، لكن سيبقى ذهنه يستحفظ بالحوادث المهمة وإلى الأبد "، وأي الأمور أهم من الشهادة على وحدانية الله حتى يمكن القول أن الجميع قد نسوا الميثاق باستثناء الموحدين.
وإن قيل أن الانتقال من عالم (الذر) إلى عالم آخر (الدنيا) ومواجهة مشاكل الدنيا يوجب نسيان ذلك العهد والميثاق من أذهان البعض نقول: كيف لا يغفل الإنسان وينسى أعماله جميعاً التي عملها في الدنيا بعد انتقاله إلى عالم البرزخ ثم إلى القيامة ومواجهته لسكرات الموت وأهوال القيامة. فالقرآن الكريم أشار إلى بعض هؤلاء الأفراد في قوله ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًااً﴾ الفرقان 27- 29. لم ينسَ هؤلاء ما حصل معهم في الدنيا.
يقول الشيخ الطوسي: "إن أصحاب الكهف تذكروا جميع الحوادث التي مرّت بهم بعد أن استيقظوا من النوم، فما هي هذه الحادثة والعهد الذي مهما حاول الإنسان أن يتذكره فإنه سيفشل؟! ".
* عالم الذر وشبهة التناسخ
والقول بعالم الذر يستلزم قبول شبهة التناسخ. فالتناسخ هوالاعتقاد بأن الإنسان يموت ويفنى جسده، ولكن روحه تنتقل إلى جسدٍ آخر وتعود إلى عالم الدنيا، فالبشر اليوم يمثّلون أناساً مضوا، وهؤلاء الماضون يمثلون مَن قبلهم، والأفراد الصالحون تنتقل أرواحهم إلى أجساد أخرى ليعيشوا تجربة هذا العالم من جديد في رفاهية ورغد عيش، أما الأفراد الظالمون فإنهم يعودون إلى عالم الدنيا ليعيشوا الفقر والحرمان وينالوا ما يستحقون جزاءً لهم.
ولوقبلنا بأن روح الإنسان قد جاءت إلى عالم الوجود قبل هذه الحياة وارتبطت بعهد وميثاق مع الله وذهبت من الدنيا، ثم ولدت من جديد وعادت إلى الحياة مرة أخرى فإن هذا اعتقاد بنوعٍ من التناسخ.
ولهذا فإن التفسير القائل بأن الله استخرج بني آدم من طينته وصلبه على هيئة ذرات في بداية خلقته ثم قال لهم ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾ ثم أعادهم إلى مكانهم غير مقبول البتة، بل لا يوجد عالم أصلاً باسم "عالم الذر ".
وما تدل عليه الآية هوأن للإنسان سابق معرفة بالله تعالى وهي عبارة عن طريق الفطرة السابق للجانب الدنيوي.
2: الشهادة من خلال الآيات الإلهية:
وهناك رأي آخر في تفسير الآية وهوأن المقصود من أخذ الميثاق هوالتعهد بالتوحيد في هذا العالم وليس في عالم آخر.
إن الله عز وجل قد خلق البشر والعالم بحيث أن الإنسان لونظر إلى أعماق نفسه ومظاهر العالم لآمن بأن له ولهذا العالم العظيم خالقاً هو"رب العالمين ".. وهذه حجة باطنة والأنبياء بدورهم حجة ظاهرة حيث يبينون أن النفس ومظاهر العالم آيات إلهية، ولهذا فإن كل ما في الكون يشهد بالتوحيد (وما من شيء إلا يسبح بحمده) فلا عذر لأحد أن يختار الشرك على التوحيد، ويقول ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين﴾ ويقول ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾.
يقول تعالى في سورة الحشر ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الحشر- 19). فالمحرومون من مرحلة الشهود هم الذين لا يعيرون أنفسهم أدنى تفكير واهتمام، بل ينصب سعيهم وجهدهم في بناء عالمهم المادي، فهم لم يعرفوا أنفسهم حتى يعرفوا ويعتقدوا بالقيم أكثر من الماديات. ولذلك جاء في القرآن الكريم: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.
تحدث شخص في محضر الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام وقال: "لواهتدى المرء إلى طريق الجنة رغم كل وسائل الانحراف والخطايا فإن ذلك إنجاز كبير وهوذوحظ عظيم"، فرد عليه الإمام عليه الصلاة والسلام بما مضمونه: ليس المحظوظ من دخل الجنة، بل دخول النار يحتاج إلى سوء حظ.
لقد جاء جميع الأنبياء والأولياء لهداية الإنسان وإرشاده إلى طريق الجنة، وكل ما في الكون من مظاهر آيات دالة على الله، حتى أن الذنب يرتكبه الإنسان لا يُكتب عليه حتى يُعلم منه عدم التوبة. وقد ذكر العلامة المجلسي رضوان الله عليه بأن سحب الروح من جسد الإنسان يبدأ من القدم ليصل إلى الرأس إفساحاً له في المجال في آخر لحظات حياته للنطق ب "لا إله إلا الله ".
فلوأن شخصاً مع كل هذه الألطاف الإلهية والدلائل الهادية انحرف عن جادة الصواب وسلك طريق جهنم، فهل هذا إلا شقاوةً وسوء طالع؟
ورد هذه النظرية المرحوم الطوسي في التبيان، وجاء فيها أن ﴿ذُرِّيَّتَهُم﴾ تُعرب على البدلية من ﴿بَنِي آدَمَ﴾ لكن، على الرغم من صحة المدعى وهووضوح طريق الهداية في العالم، إلا أن استنباط ذلك من الآية بعيد، لأن قوله ﴿وأشهدهم على أنفسهم﴾ الذي هوإقرار بالربوبية تعبير عن الشهادة ولا علاقة له بالآيات الأنفسية والآفاقية، وإلا وجب أن يقول "وأشهدهم آياته وصنعه ". بل جعل سند الميثاق أنفسهم، أي أنه أشهدهم على أنفسهم أولاً فعرفوها، ثم قال لهم ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾ فكان جوابهم حينها ﴿بَلَى شهدنا﴾، ولذلك ورد في روايات كثيرة "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
أما الفرض المذكور فقد اعتبر أن التوجه نحوآيات الآفاق، وهذا لا يتلاءم مع ظاهر الآية: ﴿أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾.
وقال البعض أن الملائكة هم الذين شهدوا بربوبية الحضرة الاحدية لا بنوآدم، وقد رد عليهم المرحوم الطوسي أن الملائكة ليس لها ذكر في البين مطلقاً، وهذا التفسير خلاف ظاهر الآية.
ومع عدم صحة هذه التفاسير، فما هوالتفسير السليم يا تُرى؟ هل أن للإنسان بعدين: بعد مُلكي وآخر ملكوتي، وأن البعد الملكوتي هوالذي شهد بالربوبية لله الواحد، لكن البعد الملكي غفل ونسي الله عز وجل؟ أم أنّ الأمر ليس كذلك؟
هذا ما يحتاج إلى تفصيل في البحث القادم إن شاء الله.