مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

بحث حول آية الميثاق 6

آية الله عبد الله جوادي الآملي


تحدثنا في حلقة سابقة أن العلامة الطباطبائي رضي الله عنه يرى أن آية الميثاق تشير إلى المقام الملكوتي للإنسان، الذي زمامه وناصيته بيد الله فتتجلى هناك ربوبية الله تعالى وعبودية الإنسان بما لا يدع مجالاً للشك، ولذلك أجاب الناس جميعاً في مقامهم الملكوتي: بلى شهدنا.
فما هو رأي الشيخ الآملي حول هذه النظرية، وما هي الإشكالات التي تثار حولها؟


* الإشكال الأول

إن هذه المسألة وهي أن الإنسان له وجه ملكوتي نحو الله ووجه ملكي نحو الدنيا لا تختص بالإنسان وحده، بل هي شاملة لسائر الكائنات والمخلوقات الطبيعية، كما جاء في الآية "21" من سورة الحجر: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ.
فكل شيء خزائنه عند الله ثم تتنزل من هناك والإنسان من جملة هذه الأشياء ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ "هود/56".
وعليه فإن كل شيء له ملكوت سابق على جهته الملكية فلماذا أخذ الميثاق من الإنسان فقط؟ فلو أن دليلاً على أخذ التعهد من الإنسان فإن الآية الشريفة من سورة الحجر تشير أن ذلك الدليل عام، والدليل العام لا يثبت إلا مدلولاً عاماً، وبمقتضى الآية الكريمة ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا "الإسراء/44". كل الأشياء موحدة وتسبح بحمد ربها يختص ذلك بالإنسان.

* الإشكال الثاني

المطالع لآيات القرآن الكريم، يجد تركيزاً على نوعين من الحجج: الأولى وهي العقل فيعبر عنها بالحجة الباطنة والثانية الوحي والنبوة ويعبر عنها بالحجة الظاهرة من ذلك قوله تعالى: ﴿رسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا "النساء/165"، وورد فلي أصول الكافي في كتاب العقل: حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل.

أي أن الله يحتج على العباد بأداء الأمانة ورعاية العدل واجتناب الظلم بحكم العقل في حال مخالفتهم لذلك كما أن للعبد أن يحتج في حال عدم إرسال الرسل ويقول إننا عشنا في هذا العالم بدون مرشدين فضللنا الطريق ولذلك ورد في هذه الروايات أن العقل هو حجة مشتركة بين الله والعباد وأما الوحي فهو حجة الله على البشر قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى - طه / 134 ".

وخلاصة القول أن القرآن الكريم أشار في مواطن عديدة إلى العقل والوحي كحجة باطنة وأخرى ظاهرة فلو كانت الحجة البالغة لا تتم إلا بأخذ الميثاق في عالم الملكوت فلماذا لم يؤكد عليها ويشار إليها في أكثر من موطن؟

* الإشكال الثالث

إن مسألة أنَّ وجود الإنسان يحتمل وجهين أحدهما ملكوتي والآخر ملكي أمر صحيح، وأن هذين الوجهين متحدان في الخارج وليسا واحداً أمر صحيح أيضاً؛ لأن الواحد يعني معنى واحداً ومصداقاً واحداً والمتحدان هو إتحاد شيئين في الخارج، كما أن تقدم الوجه الملكوتي على الوجه الملكي أمر صحيح أيضاً.

يقول العلامة الطباطبائي رضي الله عنه في نظريته أنه حتى نحافظ على ظاهر الآية ومضمونها "وإذ أخذ..."، لا بد أن نقول بأن الميثاق أخذ في الموطن السابق- أي الملكوت- الذي هو موطن الحضور واليقظة، على هذا الموطن- أي الملك- الذي هو ملازم للغفلة- ويؤيده قول أمير المؤمنين عليه السلام: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.

والإشكال أنه هل يصح أن يعطي الإنسان عهداً على ربوبية الله تعالى في موطن المعاينة والشهود ليلتزم به في عالم الغرور والغفلة؟ هل يصبح أن يعطي الإنسان عهداً في حال اليقظة ليلتزم به في حال النوم مثلاً؟
ورد في الروايات أن الميثاق هو الحجة الإلهية البالغة، والحجة البالغة يجب أن تكون واضحة وبينة لدى الطرفين. ومن أجل ذلك لم يبعث الله من الملائكة أنبياء للبشر. فالملائكة مخلوقون من أصل مختلف عن أصل البشر، ولا يمكن أن يكونوا أسوة للبشر. لأن خلقتهم مركبة على أساس الطاعة الصرفة وعند المعصية. بينما الإنسان مركب على أساس الاختيار وإمكان الوجهين. ولذلك فلا يكون إرسال الملائكة حجة بالغة.
كذلك، فعالم الميثاق يجب أن يكون بحيث يعتبر حجة بالغة.

* الإشكال الرابع

عندما سئل المعصوم عن شهود بني آدم لربوبية الله وعبودية أنفسهم: معاينة كان هذا؟ قال: نعم. وفي روايات أخرى ورد أن البعض شهد بقلبه ولسانه والبعض الآخر شهد بلسانه فقط.
ففي ذلك الوجه الملكوتي للأشياء- حسب النظرية- والذي هو عالم الشهود كيف يمكن أن يشهد البعض بالقلب، والبعض الآخر باللسان فقط؟ في حال لو كان الشهود معاينةً فلا مجال بعد للنفاق والكفر، لأنَّ الكفر والنفاق مرتبط بعالم الدنيا الغرور فقط: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ "الأنعام/130".

فكما أن في القيامة يشهد الجميع بالحق ولا مجال بعد للكتمان، كذلك في ذلك العالم حيث الوجه الملكوتي للإنسان، ولا يمكن أن يقول "بلى" كاذباً، وهذا لا يتلاءم مع ظاهر الآية ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "الأعراف/172".


نعم لقد تحدثت الروايات عن موطن المعاينة، أما أن ذلك الموطن هو موطن أخذ الميثاق والجنبة الملكوتية للأشياء فهذه مسألة أخرى لم تثبت، ولن أثبتتها بعض الروايات، ينبغي أن تؤيدها بقية الروايات أيضاً في حال أن هذا، لم يحصل. وفي بعض الروايات يُسأل الإمام هل قالوا "بلى" باللسان؟ فيجيب: وبالقلب أيضاً.

وآية ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ "يونس/74"، تطبقها بعض الروايات على الذين لم يقولوا "بلى" بقلوبهم في موطن الميثاق، ولذلك فقد كفروا في الدنيا. ومن هنا يُعلم أن للكفر والنفاق مكاناً في ذلك الموطن. فلا يمكن أن يكون الوجه الملكوتي للأشياء.

* الإشكال الخامس

لا إشكال في وجوب حفظ ظاهر "وإذ أخذ..." في اعتبار سبق لموطن الميثاق على عالم الدنيا، لكن يجب في الوقت عينه حفظ ظاهر الآية كلها والآية التي تليها، لأن الكل ناظر إلى أمر واحد.
في ذيل الآية الأولى يقول تعالى: علة أخذ الميثاق: ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "الأعراف/172". ويتابع بيان العلة في الآية الثانية ﴿أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. والكلام هنا في الذيل الثاني، فهل للأبوة والبنوة مكان في عالم الملكوت؟ هل الوجه الملكوتي للإنسان له علاقة بكونه أباً أو ابناً، أم أن ذلك بيد الله المتعال مباشرة؟
من الإشكالات التي تُطرح على نظرية العلامة الطباطبائي أنه كيف يمكن أن يعطي الإنسان عهداً على ربوبية الله تعالى في موطن المعاينة والشهود ليلتزم به في عالم الغرور والغفلة؟

إن الأب والابن من مظاهر عالم الملك، أما ملكوت الأب والابن فهو بيد الله في عرض بعضهما البعض ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ "يس/83"، لأن عالم الملكوت لا يقبل التدرج. ولذلك فهو ليس زمانياً، وملكوت الأب والابن بل وملكوت الأولين والآخرين جميعاً بيد الله رأساً.
ولذلك لا يمكن القول إننا أخذنا العهد منكم في عالم الملكوت كي لا تقولوا إن سبب شركنا هو أن آباءنا كانوا قبلنا مشركين، لأن البنوة والأبوة وتأثيرهما في الشرك منتفٍ في ذلك العالم.

* ما هو الحل إذاً؟
لا شك أن آية الميثاق تعتبر من أكثر الآيات غموضاً وتبايناً في الآراء حولها. وتكاد لا ترى تفسيراً بشأنها يخلو من الإشكالات الكثيرة. ولعل أقرب التفاسير إلى الصحة وأبعدها عن الإشكالات هو ما ذهب إليه البعض ومن جملتهم السيد العلامة شرف الدين الموسوي رضي الله عنه- حيث حمل الآية المذكورة على معنى التمثيل. والتمثيل وارد بكثرة في القرآن الكريم كما في الآية الكريمة: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ "فصلت/11" وكما في وقوله تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "الحشر/21".

 حيث حملت هذه الآيات جميعاً على معنى التمثيل. وعلى هذا فلن يبقى أي من الإشكالات الخمسة الواردة على النظرية السابقة.

وإذا لم نحمل الآية على معنى التمثيل. وأردنا أن نحافظ على ظاهر الآية وذيلها جميعاً. فيمكن لنا أن نفسر مقام الميثاق على أساس مقام العقل والوحي والرسالة.
فبذلك نحافظ على أسبقية وتقدم موطن الميثاق باعتبار أن ذلك المقام هو قبل التكليف. فالله سبحانه أعطى الإنسان العقل وهو الحجة الباطنة، ثم أرسل الرسل وأنزل الوحي وقبل ذلك لم يكن الإنسان مكلفاً وله أن يحتج ويعتذر إلى الله تعالى.

وهنا لا يبقى مجال للإشكال الأول، لأن اختصاص الإنسان بالعقل والوحي من بين سائر الكائنات واضح لا شك فيه، ولذلك أخذ الميثاق من الإنسان وحده.
والإشكال الثاني أيضاً يرتفع بهذا التفسير، لأنَّ القرآن أكثر من الاحتجاج بالعقل وإرسال الأنبياء على الناس وهذا واضح لمن له أدنى اطلاع على القرآن الكريم.

ولا يرد الإشكال الثالث أيضاً. وهو أن عالم الملكوت هو عالم اليقظة والملك عالم الغفلة فكيف يعطي الإنسان عهداً في يقظته ليلتزم به في نومه! فالله سبحانه أودع في الإنسان العقل كيلا يصبح أسيراً لطبيعته وشهواته ولا يستولي عليه نوم الغفلة والغرور. فلو أصبح كذلك فإنه سيطفئ النور الباطني في داخله، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: نعوذ بالله من سبات العقل".
كما أن الله تعالى أرسل الأنبياء ليوقظوا الناس من الغفلة والغرور.

ومن خلال هذا التفسير يمكن لنا أن نحافظ على ظاهر الروايات أيضاً ولا يرد علينا الإشكال الرابع. فالذين شاهدوا وعاينوا ربوبية رب العالمين وعبودية أنفسهم من خلال آيات العقل والوحي، فقد يقولون "بلى" بألسنتهم فقط، إلا أنهم يستشعرون الكفر والنفاق في ذواتهم.

والإشكال الخامس أيضاً غير وارد على هذا الرأي، لأن الخطاب موجه إلى نشأة العقل والوحي. وهذا يعني أن الحجة بالغة وتامة على الإنسان العاقل. وهنا يوجد الأب والابن، والمحيط والجو العائلي وإن كان له تأثير مهم، إلا أن الله تعالى له الحجة التامة حيث وهب لنا العقل والإرادة المستقلة كي يمكننا اختيار العقيدة السليمة، وأرسل لنا الرسل لنستيقظ من غفلة الأوهام والعقائد الباطلة، ولئلا نقول أن آباءنا كانوا مشركين ولا خيار لنا إلا اتباعهم.

إذاً، فإن كل فرد استخرج من صلب أبيه فقد أخذ عليه الميثاق. وهؤلاء الأفراد ذرية مَن قبلهم، وهكذا حتى يصلوا إلى آدم عليه السلام، والـ "ذر" عبارة عن الذرية لا الذرات، ولا يتلاءم عالم الذر مع هذا المعنى بل هو عالم الذرية وهو الوارد حول هذه الآية الشريفة. وهناك نظريات أخرى تحتملها الآية نغض الطرف عنها اجتناباً للأطناب الممل.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع