هنا نص الدراسة التي قدّمها ولي أمر المسلمين آية الله العظمى الخامنئي (مد ظله العالي) إلى مؤتمر الشيخ المفيد، وباعتبار أهميتها العالية ارتأت بقية الله أن تنشرها على حلقات تعميماً للفائدة وهنا الحلقة الثالثة.
فالمفيد هو عملاق من عمالقة العلم والمناظرة، ودائرة معارف متنوعة لكل المذاهب وقد كانت له مع الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف مراسلات هامة.
* الاجتهاد قبل الشيخ المفيد
إذا كانت الفقاهة تعني استنباط حكم الشريعة من الكتاب والسنة، فإن للشيعة سابقة طويلة في هذا المضمار. فهذا الإمام الباقر عليه السلام يقول لأبان بن تغلب: "أجلس في مسجد المدينة وأفت الناس.." وهو عليه السلام يعلّم عبد الأعلى، في قوله: "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجلّ. قال الله تعالى: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج..﴾ فهذه الشواهد ونظائرها تحكي أن أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا يعرفون عملية استنباط الأحكام من القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلمات الأئمة عليهم السلام منذ زمن بعيد. ولذا فإن الفقه، بمعنى معرفة الأحكام، لم يقتصر في دائرة الأئمة الكرام وأتباعهم على محض التقليد والعمل بكلمات الأئمة عليهم السلام وإنما تحرّك ليشمل جزئيات أكثر، ويتسم بطابع استدلالي أعقد.
بيد أنّا نجد أن هناك بوناً شاسعاً بين ما أنجزه الفقهاء من أصحاب الأئمة عليهم السلام في باب الفقاهة والإفتاء. وبين ما آلت إليه الفقاهة فيما بعد. في عهود نضج وتفتح الفقه الشيعي حين اعتمدت حركة الفقه مبادئ ردّ الفروع في الأصول، واستنباط مئات القواعد الكلية وآلاف الأحكام الفقهية المعقدة من الكتاب والسنة وحكم العقل، وتفريع ما لا حدّ له من الفروع بحيث يكون بالمقدور الإجابة في عصر غيبة الإمام المعصوم عجل الله فرجه الشريف على كافة أسئلة المكلفين من الشريعة، وبيان حلال الله وحرامه على نحو تفصيلي في كافة الأبواب.
هذا البون الذي نلحظه ينبغي أن يملأ بما انطوت عليه حركة الفقاهة بمرور الوقت من نمو وتقدم تدريجي.
ولا ريب أن الفقهاء قبل المفيد قطعوا خطوات قيّمة في هذا المضمار، بيد أن هذا الشيخ الجليل كان بما له من قدرة فكرية ونبوغ فذ، مبدأ تاريخ مملوء بالتحولات؛ وبداية السلسلة في مسار متوالد يتحرك بعمق واتساع. وكأنّ الأمر كان بحاجة بعد عدّة قرون من جمع المنابع الفقهية الماثلة في الكلمات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام، والإفتاء طبقاً لمتون وظواهر الروايات، إلى مرحلة من تاريخ الفقه يعاد فيها بناء هذه الذخيرة في إطار فكر علمي، وابتكار أسلوب فنّي للاستنباط.
فقبل الشيخ المفيد كان ثمة مسلكان مختلفان في فقه الشيعة، يتجلى المثال الشاخص في المسلك الأول بعلي بن بابويه (ت: 329هـ) وربما استطعنا أن نسمّي هذا المسلك بمسلك القميين. وفي أغلب الظن، فإنّ أستاذ المفيد في الفقه يعني جعفر بن قولويه (ت: 368هـ) كان من أهل هذه الفئة، فالفقاهة لدى أهل هذا المسلك، كانت بمعنى الافتاء طبقاً لمتون الروايات، بالشكل الذي تحكي فيه كل فتوى في الكتب الفقهية لهذه الفئة من الفقهاء، عن وجود رواية في مضمونها.
وبذلك، إذا كان صاحب الفتوى يتحلى بالوثاقة والضبط اللازمين؛ فيمكن أن نعدّ الفتوى بمكانة الحديث. لهذا السبب بالذات كتب الشهيد رحمه الله في "الذكرى" يقول: "قد كان الأصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرائع الشيخ أبي الحسن بن بابويه رحمه الله عند إعواز النصوص لحسن ظنّهم به، وإنَّ فتواه كروايته".
من البديهي أن يتسم هذا اللون من الفقاهة بالبدائية إلى حد كبير، وأن يكون عارياً من الأسلوب (الاستدلالي) الفنّي المعقّد. وبذلك فإنّ الفروع المذكورة في الكتب الفقهية لهذا المسلك تنحصر بالفروع المنصوصة وهي قليلة ومحدودة. إلى هذاالسبب بالذات نعزو ما طعن به المخالفين الفقه الشيعي من قلة الفروع، وهو الطعن الذي دفع الشيخ الطوسي رحمه الله فيما بعد إلى تأليف كتاب "المبسوط".
أما المسلك الثاني: فقد كان في الطرف المقابل للمسلك الأول، حيث استند إلى الاستدلال والظن الغالب، متأثراً بالفقه السنّي ومتخذه مثالاً له، وكان علماء البارزان الحسن بن أبي عقيل العماني (ت: ؟) وابن الجنيد الاسكافي (ت: 381هـ احتمالاً).
ورغم عدم توافر معلومات كافية عن هذا المسلك الفقهي، بل وحتى عن هذين الفقيهين تدلنا على طبيعة الأساس الذي كان يقوم عليه هذا النمط من الاجتهاد والنظر في الاستنباط الفقهي لدى هؤلاء إلاّ إنّ القدر الثابت مما ذكره المفيد والآخرون، عن ابن الجنيد، إنه كان يميل إلى القياس والرأي ويتنكّب بالتالي عن الطريق المعروف والمقبول لدى الشيعة.
أما العماني فلم ينسب إلى هذه النزعة، بل كان كما يقول عنه النجاشي "وسمعت شيخنا أبا عبد الله يكثر الثناء على هذا الرجل رحمه الله". والذي نفهمه مما ذكره النجاشي والشيخ عن كتابه في فهرستيهما، أنّه كان فقيهاً مستقيماً (صالحاً) وربما كان أقرب إلى الطريقة التي اختارها المفيد وسار عليا في التأليف والتحقيق وتنشئة التلاميذ وإعدادهم.
بيد إننا مع ذلك نستطيع أن نحدس إنه لم يستطع أن يكون سلفا (وأساساً) لتيار فقهي يستمر من بعده، ومردّ ذلك ما تتّسم به آراؤه في الغالب من شذوذات فقهيّة متروكة.
وربما لهذا السبب بالذات لم يبقَ من كتابه في عصور ما بعد العلاّمة والمحقق رحمه الله سوى اسمه.
يتضح من هذا البيان أنّ ثمّة عيباً في فقاهته، بيد أن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نشك لما لهذا العالم الأقدم - الذي قل نه بحر العلوم "هو أول من هذّب الفقه واستعمل النظر وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى" - من دور وتأثير في المهمة التي اضطلع بها الشيخ المفيد - فيما بعد - والماثلة في إرساء القاعدة الصحيحة للفقاهة، إذ كان عمله ولا ريب مقدمة لمشروع المفيد.
وهكذا نتبيّن أن كل واحدٍ من هذين المسلكين الفقهيين يتّسم بالنقص من جهة. ففي المسلك الأول نجد أن الفتوى هي متن الرواية نفسها بدون تفريع، ورد الفرع إلى الأصل، وبلا بحث ومناقشة ونقد واستنتاج، بمعنى أنّ الاجتهاد بمعناه الاصطلاحي لا دخل له ولا تأثير في هذا اللون من الفقاهة.
أما المسلك الثاني، فهو وإن كان يمارس الاستدلال والنظر. ولكن يبدو أنهما ليسا الاستدلال والنظر المنسجمين مع تعاليم مذهب أهل البيت عليهم السلام، إذ كان القياس يخالط هذا النحو من الاستدلال. وهو ينتهي بنحو من الأنحاء إلى آراء شاذة. بحيث لم يستطع (المسلك) أن يجد فرصة الاستمرار في حوزة الفقاهة الشيعية.
أما فقه المفيد فكان مبرّأً من العيبين؛ نقياً يحمل كل المزيتين: فهو من ناحية يتكئ إلى الأساليب المعتمدة لدى الإمامية، ويستفيد من ناحية ثانية من الاجتهاد الاصطلاحي الذي يدخل فيه عنصر الاستدلال والاستنباط النظري في الفقه.
وبذلك ننتهي إلى أن الشيخ هو الشخص الذي استطاع أن يوجد الإطار العلمي المقبول والمعتبر لدى الشيعة، بحيث جمع المواد المأثورة والأصول المتلقاة في نظام علمي ظل لابثاً في حوزة الفقاهة الشيعية.
وما أنجزه الشيخ، هو نفسه مسار التقنين الفقهي الذي اتّبع من بعده طوال قرون حتى اليوم، ليصل "بالفقه" إلى ما هو عليه الآن مننضج وتكامل، وبغية أن نتوفّر على معرفة قيمة وأهمية المشروع الفقهي للمفيد، سنشير إجمالاً إلى رؤوس العناوين التالية:
أ - كتاب المقنعة.
ب - الرسائل الفقهية الصغيرة.
ج - كتاب التذكرة بأصول الفقه.
أ: كتاب المقنعة
يعد "المقنعة" دورة كاملة - تقريباً - في الفقه، إذ لا يوجد قبله كتاب فقهي يحمل خصوصياته، فكتاب "المقنع" للصدوق علاوة على إنه مثل كتاب علي بن بابويه؛ أي مجرد متون روايات، فهو أيضاً لا يصل من زاوية شمول مباحثه الفقهية إلى "المقنعة" مضافاً إلى أن مباحثه أكثر اختزالاً واختصاراً.
ورغم أن المفيد لم يذكر في كتابه هذا طبيعة استدلاله على فتواه، ولذا فمن المتعذر أن تفهم بسهولة كيفية استدلاله على هذه الفتاوى، إلاّ أننا نستطيع بالاعتماد على قرينة تبعث على الاطمئنان، القول أنّ فتواه في هذا الكتاب تنتهي إلى استدلال فقهي متين.
وإذا لم يكن الاستدلال مكتوباً كي تستفيد منه الأجيال لآتية، إلا أنه أضحى بهذه الكيفية مناراً يحتذي به تلامذته وطبقة الفقهاء المتصلة به؛ بل ويزيدون عليه.
وهذه القرينة المطمئنة التي نعنيها هي كتاب "التهذيب" للشيخ الطوسي، فالتهذيب كما نعلم هو شرح للمقنعة وبيان استدلالي فقهي عليها.
يذكر الشيخ الطوسي رحمه الله في مطلع بواعثه للتصنيف الماثلة فيما طلبه صديق منه لتأليف الكتاب، على أن تكون "مقنعة" الشيخ المفيد - حسب طلب الصديق - هي المتن المشروح لأنها "شافية في معناها، كافية في أكثر ما يحتاج إليه من أحكام الشريعة وأنهلا بعيدة من الحشو".
* منهج الاستدلال عند المفيد
ثم يردف ذلك بيان منهجه في الاستدلال، الذي يمثل على نحو مختصر بما يلي: الاستدلال على كل مسألة إما من ظاهر القرآن أو من صريحه أو بأنواع الدلالات المفهومية (نحو: مفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة والدلالة الالتزامية وأشباه ذلك) والاستدلال أيضاً بالسنّة المقطوع بها من الأخبار المتواترة أو الأخبار المحفوفة بالقرائن، وبإجماع المسلمين أو إجماع الإمامية أيضاً، ثم ذكر الأحاديث المشهورة في كل مسألة والسعي للجمع الدلالي بين الدليلين، وإذا لم يكن الجمع الدلالي ممكناً ردّ الدليل المقابل بسبب ضعف السند أو إعراض الأصحاب عن مضمونه (الحديث).
أما إذا اتفق الدليلان (الخبران) على وجه لا ترجيح لأحدهما على الآخر من زاوية السند وأمثال ذلك (مثل جهة الصدور وإعراض المشهور وغيره) فيمضي بالعمل إلى ما يوافق دلالة الأصل وترك العمل بما يخالفه.
أما إذا كان الحكم مما لا نصّ فيه على التعيين بحيث لم يكن ثمة أي حديث في المسألة، فإنه يعمل بمقتضى الأصل، على أن يغلّب - في مسار الاستدلال - ترجيح الجمع الدلالي على الترجيح السندي، والجمع الدلالي على طبق "شاهد الجمع" المنصوص، بحيث لا يتخطى ذلك قدر الإمكان.
هذا هو الأسلوب الذي ذكره الطوسي في أول كتاب "التهذيب" للاستدلال على كتاب "المقمعة".
ومن الواضح لأهل الفن، إن هذا (الذي استدل به الشيخ) هو أسلوب الاستدلال الكلي في تمام أدوار الفقاهة الشيعية حتى اليوم، وإن مسار الاستدلال الفقهي لكل الأدوار التي تلت الشيخ الطوسي رحمه الله لم تعدّ حتى الآن هذا الإطار الكلي.
والآن نصل إلى طرح هذا السؤال: هل كان الشيخ المفيد وهو مؤلف كتاب "المقنعة" غافلاً عن منهج الاستدلال الكلّي هذا الذي يمكّن الفقيه من الوصول لجميع الفتاوى الثاوية في الكتاب؟ وبالتالي هل يمكن أن يضع اليد على كل تلك الفتاوى من دون معرفة بأسلوب الاستدلال هذا؟ وبصيغة أخرى: هل كان الشيخ الطوسي رحمه الله مبتكر هذا النحو من الاستدلال؛ أو أنه تعلّمه من أستاذه المفيد؟.
أحسب أن التأمل بجوانب الموضوع يجعل جواب هذا السؤال واضحاً، فنحن نعرف أن الشيخ الطوسي بدأ تأليف كتاب "التهذيب" في حياة الشيخ المفيد، أي قبل عام (413هـ) وأن هذه المقدمة كتبها في ذلك الوقت. ثم إننا نعرف أن الشيخ الطوسي وصل إلى العراق سنة (408هـ) وهو بعد شاب لم يتجاوز عمر (23 عاماً)، فحضر لدى الشيخ المفيد وبدأ يطوي بين يديه المدارج العالية للعلم والتحقيق، حيث مكث عند هذا النابغة الكبير لمدة خمسة سنوات مستفيداً منه، ثم واصل من بعده تتلمذه (استفادته العلمية) لدى السيّد المرتضى لفترة دامت (23 سنة). وبذلك لا يبقى مجال للشك في أن الشيخ الطوسي استلهم أسلوب الاستدلال الفقهي من الشيخ المفيد وتعلّمه منه مباشرة؛ ومن خلال معرفته بالنهج الاستدلالي للأستاذ استطاع في كتابه، بالأصول التي يعتمدها المفيد.
هذا الاستدلال يقوي أكثر، وليصل إلى مستوى القطع حين نأخذ بعين الاعتبار المباني الأصولية للشيخ المفيد في كتابه الأصولي - الذي سنبحثه فيما بعد - بملاحظة الكتاب، وما يكشف عنه من استناد المفيد إلى الكتاب والسنة المتواترة المحفوظة بالقرينة، أو المرسل المشهور وما عليه عمل الأصحاب، وبقية نظرياته الأصولية، نستبين بوضوح أن الأسلوب الاستدلالي الذي بيّنه الطوسي في مقدمة "التهذيب" هو نفس الأسلوب الذي كان يعتقد به أستاذه وعمل به، وعلّمه لتلامذته.
والنتيجة إن كتاب "المقنعة" وإن لم يقترن بالاستدلال إلاّ إننا نستفيد مما مرَّ، أنّ هذا الفقيه البارز اعتمد في الوصول إلى فتاواه نفس الأسلوب الاستدلالي الذي ساد مسار الفقاهة الشيعية، وظلّ متداولاً فيها على نحو دائم طوال ألف سنة من بعده.
ومنهج الاستدلال هذا، هو نفسه الخط الكلّي الشامل الذي لم يكن معروفاً من قبله في المسلكين الفقهيين الشيعيين - أي مسلك ابن بابويه ومسلك الأقدمين، وإنما يعود فضل ابتكاره وتأسيسه وإرساء قواعده إلى هذا الشيخ الجليل.
ب: رسائله الفقهية
رغم ما لهذه الرسائل من حجم صغير، إلاّ إنها تكشف عن عمق الفكر الفقهي لهذا الشيخ الجليل. صحيح إن بعضها يشتمل على استدلالات جدلية وشبه عقلية، كما هو الحال في رسالة "المسح على الرجلين" و"ذبائح أهل الكتاب" إلاّ أن بعضها ينطوي على أسلوب فقهي متين ومنظّم ومحكم كما هو الحال مثلاً في رسالة "المهر" أو "جوابات أهل الموصل في الرؤية والعدد" أو "المسائل الصاغانية".
ففي رسالة "الرؤية والعدد" التي اختصت بردّ القول المنسوب إلى الصدوق رحمه الله وقسم آخر من الفقهاء القدماء، من أن شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين، جمع في ردّه لهذا الرأي بين الاستظهار من الآيات والاستفادة من اللغة، والاستشهاد بالأحكام الفقهية المسلّمة، وبالبحث في فقه الحديث عن الروايات التي استدل بها الخصم، ومناقشة السند وذكر أحوال الرجال، والكثير من النقاط الداخلية في الفهم والاستنباط من الأحاديث؛ فكل هذه العناصر جمعها إلى جوار بعضها البعض، واستفاد من كلّ واحدة منها على أفضل وجه وأنضجه.
والذي يجذب الانتباه في هذه الرسالة هو ما قام به حين ذكر الحديث الذي استدل به الطرف المقابل، من تضعيف لسنده ومضمونه، وذلك بالاستناد إلى الاستدلال متين، أفضى به إلى أن يعتبر المضمون بعيداً عما يتحلّى به بيان الإمام من حكمة، وبالتالي اعتبره مجعولاً من قبل شخص جاهل وعامي. تم طرحه بالاستناد إلى قرائن احتمال أن يكون السند مرسلاً، وهذه النقطة بالذات تكشف عن تبحره وإحاطته بالحديث (راجع الرسالة المذكورة. صفحة 239 فما بعد، الفصل المربوط برواية يعقوب بن شعيب عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام).
أما رسالة "المسائل الصاغانية" التي أجاب فيها على إشكالات فقيه حنفي من أهل "صاغان" وردته على شكل عشر مسائل فقهية، فهي نموذج آخر يكشف عن قوة استدلال هذا الشيخ الجليل وتبحره الفقهي. فهذه الرسالة رغم كونها تتصف بماهية كلامية كونها في مقام البحث والتحاجج من خصم غير شيعي، وبصدد ردّ الاتهام بالبدعة، وردّ التعمة عليه وعلى إمامة، إلاّ أنها تكشف بحكم طبيعة المسائل الفقهية المطروحة فيها، لكل صاحب نظر قوة استدلال الشيخ واستحكام روحه العلمية وفقاهته الاجتهادية.
فهذه الرسالة ورسالة "العدد والرؤية" هما بحق مثالان يحكيان المقام الإبداعي العلمي الذي يتحلى به الشيخ المفيد، ويثبتان الحقيقة الماثلة في أن ما نراه من أسلوب علمي في فقاهة طبقة تلامذته وتلامذة تلامذته، نشأ أساساً من الأسلوب الذي أرسى هذا الشيخ الجليل قاعدته وعدّ مؤسساً له.
* تصحيح الفتوى
جاء من قريته مستعجلاً ولديه سؤال.. ويريد أن يعود بجوابه سريعاً فقصد بيت الشيخ المفيد رضي الله عنه وبعد أن استأذن للدخول.. دخل على الشيخ رضي الله عنه وقال:
لقد توفيت امرأة أثناء الوضع، وطفلها حيٌّ في بطنها وإلى الآن لم ندفنها فما هو تكليفنا..؟
فأجاب الشيخ رضي الله عنه: اذهبوا وادفنوها بحملها!!
فاستأذن القرويّ من الشيخ رضي الله عنه وعاد مسرعاً لكي ينفذ ما أفتى به الشيخ المفيد رضي الله عنه، وفي أثناء الطريق رأى فارساً مسرعاً خلفه وعندما وصل إليه قال:
أيها الرجل...! إن الشيخ المفيد قال: أخرجوا الطفل من بطن أمه أولاً ثم أنزلوها إلى التراب وادفنوها!!
وأكمل الرجل طريقه إلى بيته ونفذ ذلك وبعد عدة سنوات عاد مرّة أخرى إلى الشيخ المفيد رضي الله عنه وجرى الحديث حول مسألة الطفل...
فالتفت الشيخ رضي الله عنه في هذه الأثناء إلى أنه كان متشبهاً وأدرك أن إمام العصر عجل الله فرجه الشريف قد صحح فتواه..
فتأثر لذلك كثيراً وجلس في بيته مصمماً على أن لا يفتي مرة أخرى. ولكن جاءه التوقيع المبارك من الناحية المقدسة:
عليك الافتاء وعلينا التسديد● ●
ج- كتاب التذكرة بأصول الفقه:
علم الأصول هو نظام الاستنباط الفقهي، وهو أسلوب للوصول من الأدلة المعتبرة إلى الأحكام العملية. لذا تعدّ عملية تنظيم القوانين والقواعد الأصولية بمثابة وضع ضوابط دستورية للفقه، وإلاّ فمن دون هذه الضوابط والقواعد الواضحة يكون المجال الفقهي مفتوحاً دون حدود. وفي معرض الخلط والخطأ، وبالتالي تفقد الأحكام المستنبطة اعتبارها وقيمتها.
مضافاً لذلك فإن غياب هذه الضوابط يقود إلى تدخل أذواق وآراء والفهم الشخصي للفقيه (ذاتية الفقيه) أكثر من الحد المسموح به، في نتائج العملية الفقهية لتتسم نظرات الفقهاء تبعاً لذلك، بالتشتت وعدم الانضباط.
صحيح أنّ العمق والنضج والتعقيد المتزايد لعلم الأصول يساعد في سلامة آراء الفقهاء، بيد أن الذي يؤثر قبل ذلك على سلامة غاية ونتيجة مسار الفقاهة، هو أصل إيجاد ووضع هذا العلم.
ولا ريب أن الأسس والقواعد الأصلية لعلم أصول الفقه موجودة في كلمات الأئمة عليهم السلام، وبالتحديد في إطار ما بات يطلق عليه ب-"الأصول المتلقاة" بيد أن الكتاب الذي صنّفه الشيخ المفيد، هو أو كتاب أصولي في تأريخ الشيعة (على حد علمنا)، ونعني به تحديداً بالكتاب الصغير، الغني المحتوى المعنون "التذكرة بأصول الفقه" والذي يحتمل أن يكون منتخباً اختاره تلميذ الشيخ أبو الفتح الكراجكي ت: 449هـ) من أصل الكتاب الذي وضعه المفيد - والذي كان بدوره مختصراً -.
فهذا الكتاب يتحلى رغم اختصاره بأهمية فائقة، والسبب في ذلك يعود إلى:
أولاً: إنه أول كتاب في أصول الفقه لدى الشيعة، إلى هذا المعنى يشير الشيخ الطوسي رحمه الله في مقدمة الكتب "عدة الأصول" حيث يقول: "ولم يعهد لأحد من أصحابنا في هذا المعنى إلاّ ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمه الله في المختصر الذي له في أصول الفقه".
ثانياً: ينطوي هذا الكتاب على مباحث كثيرة جاءت بعبارات قصيرة، خصوصاً في مباحث الألفاظ، حيث نلاحظ رؤوس غعناوين متعددة اشتملت على بحوث مهمة.
ثالثاً: يلاحظ على بعض مباحث الكتاب، إن نظر هذا الشيخ الجليل قريب جداً إلى ما عليه نظر المحققين الأصوليين في عصور متأخرة كثيرة عنه، مثال ذلك ما ذكره في باب نسبة العام والخاص، والذي يشبه إلى حد كبير اصطلاح "الإرادة الجدية والإرادة الاستعمالية" الذي ورد في البحوث الأصولية التحقيقية لأسلاف قريبين من زماننا. فالشيخ يقول في هذا المورد: "والذي يخص اللفظ العام لا يخرج منه شيء دخل تحته، وإنما يدل على أن المتكلّم به أراد به الخصوص ولم يقصد به إلى ما بني في اللفظ في العموم..." ص (37).
رابعاً: رغم أن الكتاب بني على الاختصار، إلاّ أنه قدّم من المباحث ما هو أكثر ضرورية وفعالية مما يدخل في عملية استنباط الأحكام الفقهية، في حين نأى عن تناول المباحث التي يغلب عليها الطابع النظري - من قبيل ما فعله تفصيلاً شيخ الطائفة رحمه الله في أول "عدّة الأصول" حين غار في البحث عن حقيقة العلم أو حقيقة الكلام -.
لذا أعتقد إنه لأمر جاذب إلى حد كبير، أن ينطوي الكتاب رغم اختصاره على تناول مباحث من قبيل: إنّ العموم والإطلاق يختص بالسنّة القولية دون السنة الفعلية "وليس يصح في النظر دعوى العموم بذكر الفعل، وإنما يصح ذلك في الكلام المبني والصور منه المخصوصة، فمن تعلق بعموم الفعل، فقد خالف العقول" (ص 38) وأنه: "إذا لفظ الأمر معاقباً لذكر الحظر أفاد الإباحة دون الإيجاب" (ص 30) أو قوله: "الاستثناء إذا أعقب جملاً فهو راجح إلى جميعها، إلاّ..." (ص 41) حيث لم يغفل هذه ولا نظائرها.
ونظراً لما لهذه - المباحث - من تأثير حيث تتكرّر في الاستنباطات الفقهية فقد بيّنت بعبارات مناسبة.
يتضح مما مر أنّ شيخنا الجليل بتدوينه لكتاب الأصول، وفّر المقدمات اللازمة لإبداع إطار علمي وفني للاستنباط الفقهي.
ثم إن علم الأصول لم يكن بالنسبة إليه مجموعة من المعارف الذهنية وشبه الكلامية، وإنما كان كما صرّح بذلك تلميذه في مقدمة "عدّة الأصول" هو العلم الذي "لا بدّ من شدّة الاهتمام به، لأن الشريعة كلّها مبنية عليه، ولا يتم العلم بشيء منها دون إحكام أصولها، ومن لم يحكم أصولها فإنما يكون حاكياً ومقلداً، ولا يكون عالماً".