الشهيد السيّد عبد الحسين دستغيب قدس سره
زوّد الإمام الباقر عليه السلام جابراً الجعفيّ، وهو من خواصّ شيعته، بستّ نصائح، تمثّل طريقاً للسعادة في الدارين، وضالّةً لكلّ عاقل. نعرض مقاطع من قوله عليه السلام في ستّة مقاطع.
* وصيّته عليه السلام لجابر
1. «وتخلّص إلى راحة النفس بصحّة التفويض»: التفويض هنا هو إيكال الأمور كلّها صغيرها وكبيرها إلى الله وعدم طلب ما لم يرده سبحانه. بما أنّ رغبات الإنسان لا تنتهي، وعالم المادة محدود مليء بالمنغّصات، ولا يصل الإنسان فيه إلى واحد من الألف من رغباته، فإنّ الاستقرار الحقيقيّ للبشر محال قطعاً، اللّهمّ إلّا إذا وصل بنور المعرفة إلى مقام «التفويض»، أي يتخلّى عن رغبات نفسه ولا يريد إلّا ما أراده له الله العالِم والحكيم، ويقنع بما يحصل عليه ويرضى، ولا يتحسّر على ما فاته.
2. «واطلب راحة البدن بإجمام القلب»: كلّما كان الإنسان حريصاً على الدنيا وازداد سعيه للوصول إلى الآمال والأهواء، فسيتجلّى ذلك حرماناً له من نعمة الطمأنينة وهدوء الأعصاب، وهذا يترك آثاره السلبيّة على جهازه الهضميّ وسائر أجهزته فيربكها ويتعب الجسد، ولا علاج لراحة الجسد وسلامته أفضل من إجمام القلب باجتناب التشتّت بين الآمال والأهواء.
3. «وتخلص إلى إجمام القلب بقلّة الخطأ»: غير خافٍ أنّ كلّ نكبة وشقاء يحلّان بالإنسان، فهما من آثار الذنوب. وإذا تأمّلت في أحوال الأشخاص الذين يبتلون بأمراض الحرص، البخل، الحسد، الحقد، الكِبْر، سوء الظنّ، وحبّ الدنيا، يتّضح لك بكلّ جلاء أيّ آلام يحملها هؤلاء، وأيّ شقاء وعذاب يعانون، بحيث يصل الأمر بهم إلى الرضى بالموت.
4. «وتعرّض لرقّة القلب بكثرة الذكر في الخلوات»: إنّ أعظم وسيلة للتحلّي برقّة القلب هي ذكر الله في الخلوات، خصوصاً في حال السجود، فقد روي «إنّ العبد إذا أطال السجود حيث لا يراه أحد، قال الشيطان: وا ويلاه أطاعوا وعصيت وسجدوا وأبيت»(1). وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ أبي كان يقول: أقرب ما يكون العبد من الربّ وهو ساجد يبكي»(2).
5. «واستجلب نور القلب بدوام الحزن»: إنّ أفضل سُبل الوصول إلى إنارة القلب هو دوام الحزن، والمراد به هو طلب نور اليقين، كالأمّ التي ضلّ عنها ابنها العزيز وقلبها دائماً معه يبحث عنه ويعمل للعثور عليه. كذلك ينبغي أن يبحث المؤمن دائماً عن نور اليقين وكلّ همّه الوصول إليه، وما دام لم يصل فهو لا يعرف الاستقرار أبداً. وهذه الحالة علامة من هو من أهل الآخرة، كما أنّ علامة من هو من أهل الدنيا أنّه إذا وصل إلى بغيته الماديّة اطمأنّ ولا يبقى في قلبه أيّ حزن أو غمّ إلّا الوصول إلى هوىً آخر من أهوائه: ﴿وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا﴾ (يونس: 7).
لا بدّ من التذكير بأنّ الحزن من العبادات القلبيّة، وقد روي: «إذا أحبّ الله عبداً نصب في قلبه نائحة من الحزن»(3). وعليه، فلا يصحّ أن يُظهر المؤمن حزنه القلبيّ للناس حذراً من الرياء والابتلاء بمعصية الشرك، بل ينبغي أن يكون ظاهره بخلاف باطنه، أي أنّ قلبه مليء بحزن الآخرة وظاهره مسرور، كما روي أنّ المؤمن «حزنه في قلبه وبشره في وجهه»(4).
6. «وتحرّز من إبليس بالخوف الصادق»: إنّ الشخص الذي يخاف حقيقةً من الله تعالى ويحترق بنار الخوف، لا يمكن أبداً أن يغويه الشيطان أو أن تضرّه نيرانه. فاليقين الذي هو الطريق الوحيد للسعادة والوصول إلى الدرجات، والذي هو أمنية جميع العظماء، هو نور يقذفه الله تعالى في القلب، وبسببه يتّضح الحقّ والواقع للإنسان ويعتقد به، بحيث لو أنّ المنكر للحقّ طرح عليه مئات الشبهات والوساوس فلن يؤثّر فيه ذلك أبداً ولن يغيّر من قناعاته على الإطلاق. كالشخص الذي يرى من بعيد دخاناً وألسنة اللهب، فيعتقد أنّ في ذلك البيت ناراً، عندها، لن يستطيع أحد أن يصرفه عن هذا الاعتقاد.
* اليقين الصادق
بسبب النور الذي أضاءه سبحانه في قلب الإنسان، ستوجد فيه آثار ولوازم ما عرفه واعتقد به، كالشخص الذي يرى ألسنة النار من بعيد تتصاعد من بيته ويتيقّن أنّ بيته يحترق، فلازم هذا اليقين أن يبادر إلى إطفاء النار، فإذا لم يبادر إلى ذلك ولم يهتمّ أبداً، فهو إمّا قد سيطرت عليه الغفلة أو أنّ شبهةً ما جعلته يعتقد أنّ أثاثه لا يحترق، ولذا، لم يصدر عنه أيّ ردّ فعل. وهو أيضاً مثل الشخص الذي يخاف من جنازة ميت وُضعت معه في غرفة مظلمة ومقفلة، مع أنّه متيقّن أنّ الميت لا يستطيع أن يفعل شيئاً. ولعلّ عبارة «ويقيناً صادقاً» الواردة في آخر دعاء أبي حمزة الثماليّ إشارة إلى اليقين الذي لا ينفكّ عن آثاره ولوازمه. مثلاً: اليقين بأنّ الله تعالى عالم بصير وحاضر وناظر، يستلزم الخجل من حضوره وترك ما يتنافى مع الأدب والعبوديّة، كما أنّ لازم اليقين التوكّل عليه في كلّ الأمور. ولازم اليقين بأنّه الرازق وعدم تجرّع الغصص من أجل الرزق. كما أنّ اليقين بأنّ كلّ الأمور بتقديره وتدبيره، ولازم كلّ ذلك الصبر والرضى والتسليم والتفويض وترك الحرص والبخل.
(*) مقتبس من كتاب: القلب السليم، ج 1، ص 259 - 268.
(1) الأعمال، الشيخ الصدوق، ص 34.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 90، ص 334.
(3) عدة الداعي، ابن فهد الحلي، ص 155.
(4) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 75، ص 73.