تقرير: فاطمة خشّاب درويش
"السلام على أمّي، أوّل الأوطان وآخر المنافي". صدق الشاعر حين شبّه الأمّ بأوّل محطّة نشعر فيها بالانتماء والأمان، واصفاً رحيلها بوجع الغربة والوحدة. هي تلك الحانية التي تجمع بحنانها شعث أسرتها، وتزرع في قلوبهم حبّ بعضهم بعضاً، ليرثوا محبّتها فيبقى شملهم بعدها.
ربّما لم تكن الولادة والرضاعة والتغذية وهموم المدرسة أصعب مهام الأمّ، بل عندما يكبر الأبناء وتكبر همومهم، عندها نرى أمّاً مختلفة... الأمّ الحكيمة، الأمّ الوطن، هي ذلك الخيط الدافئ الذي يجمع حبات العائلة.
•لا تُمَارَس عن بُعد
قد توكل الأمّ مهام العناية بأطفالها إلى غيرها، لكن مهما كان ذلك الاعتناء قويّاً إلا أنّه لا يمكن إطلاق وصف الأمومة عليه، لماذا؟
تقول الاختصاصيّة التربويّة الأستاذة فاطمة نصر الله: "لا يمكن أن تُمَارَس الأمومة عن بُعد، إذ إنّ خصوصيّة هذا الدور تفرض على الأمّهات أن يباشرن مهام الأمومة من خلال المتابعة الحثيثة والدقيقة لشؤون أولادهنّ، سواء في مرحلتَي الطفولة والمراهقة أو حتّى بعد الزواج. فهي تهتمّ بأطفالها وتلبّي حاجاتهم المختلفة، ولا ينحصر دورها في الرضاعة والرعاية والاهتمام بالصحّة، بل تقع عليها مسؤوليّة تلبية حاجاتهم العاطفيّة والمعنويّة، وتعليمهم اكتشاف الحياة ومواجهة صعوباتها. قد ينتهي الدور الأوّل في مرحلة ما، أمّا الثاني فيبقى ويستمرّ، ويختلف في كلّ مرحلة بحسب طبيعتها وأعمار الأبناء، وفي هذه المرحلة أيضاً، لا بديل عن الأمّ".
•كيف تجمع الأمّ العائلة؟
من أجمل المشاهد العائلية التي تكون برعاية الأم عادة، هو ذلك اللقاء "اللمّة" الذي تجمع فيه الأمّ أبناءها فيتبادلون أطراف الأحاديث، ويتقرّبون من بعضهم بعضاً مهما شاغلتهم الحياة وأبعدتهم المسافات، لتكون الأم دوماً في مثل هذه اللقاءات هي المحور الذي تُفرض به قوانين عاطفتها وحنانها، فيتعلّم الأبناء تقريب المسافات بينهم مهما شاغلتهم الحياة وأبعدتهم.
تتبّعت مجلّة "بقيّة الله" بعض المشاهد الجميلة لأمّهات يصنعن أوطاناً أينما حللن.
•العائلة أوّلاً
كرّست السيّدة أم محمّد مبدأ اجتماع العائلة من صغيرها إلى كبيرها أسبوعيّاً في منزلها في إحدى القرى الجنوبيّة، على الرغم من المشقّة التي كان يكابدها عدد من أبنائها وبناتها بسبب الانتقال من بيروت إلى القرية أسبوعيّاً. أمّا هي، فكانت تحرص على "لمّة العائلة" مهما كبرت وامتدّت، إذ يحضر الأبناء والأحفاد فيجتمعون حول "السفرة" المقدّسة التي تطوي المسافات وتقرّب القلوب، فتزيّنها بمختلف الأطباق المقدّمة بكلّ حبّ. وبعد أن خانتها صحّتها، أصبحت كلّ أسرة ابن أو ابنة تشارك بصنف محدّد من الأطباق، والغاية أن تجتمع العائلة ليطمئن الجميع إلى أحوال بعضهم بعضاً.
رحلت السيّدة أمّ محمّد عن هذه الدنيا ولا تزال العائلة على عهدها الدائم، تقول ابنتها: "صحيح أنّ أمّي توفّيت، إلّا أنّنا ما زلنا نحافظ على اجتماعاتنا. لقد علّمتنا أنّ لقاءنا، نحن الإخوة، مفتاح لمؤازرة أحدنا الآخر، فنتعاون جميعاً إذا واجه أيّ أحد مكروهاً". إذاً، لم يكن هذا الاجتماع بروتوكولاً شكليّاً بالنسبة إليها، بل درساً لحياة مديدة شعاره -كما كانت تقول المرحومة- "العائلة أوّلاً". هذا السلوك الذي سعت الأمّ إلى تكريسه في حياتها، فهمه أولادها جيّداً وعملوا على تطبيقه، فكلّ ولد من أبنائها عمل بدوره على تخصيص يوم للاجتماع بأولاده وأحفاده، كلّ ذلك حتّى تبقى العائلة أوّلاً، كما أوصت الأمّ.
•الإدارة الحكيمة
من جهتها، تعتبر السيّدة فاطمة (أم أحمد) أنّ "الأمومة تفرض على المرأة أن تكون على مستوى التحدّيات التي تواجهها وأسرتها، فالأمّ هي التي تجمع ولا تفرّق، هي التي "تلمّ العيلة"، هي القادرة بحكمتها وإدارتها على مساعدة أبنائها في حلّ بعض مشاكلهم"، وتقول: "لقد تعلّمت من والدتي الكثير من الدروس من خلال أفعالها وتصرّفاتها. كانت شخصاً حكيماً يفكّر بوعي في مصلحة أبنائه".
تشرح: "أحياناً، كان يصدر عن زوجة أخي الصغير بعض التصرّفات التي تثير غضبي وتستفزّني، فكانت أمّي تمنعني بحسم من إخبار أخي بما جرى حتّى لا أتسبّب له بمشكلة مع زوجته، وكانت تردّد على مسمعي مراراً وتكراراً أنّ احتمال إثارة مشكلة بين زوجين أمر سنحاسَب عليه، لذا يجب أن نحافظ على الود في الأسرة. لقد كانت أمّي تحبّبني بزوجة أخي وتقول لي إنّها صغيرة في العمر ومع الوقت ستتعلّم وتعي أكثر. وهذا ما حصل فعلاً، إذ تحسّنت علاقتي بها شيئاً فشيئاً".
•الإصلاح بين الأبناء
للأمّ آثار وذكريات تبقى وإن رحلت، فها هو الحاج حسين يستذكر والدته قائلاً: "كانت أمّي -رحمها الله- قدوة لنا، ترشدنا إلى الصواب وتوجّهنا دوماً في كلّ الأمور صغيرة كانت أم كبيرة، ومع أنّنا كبرنا وتزوّجنا وأصبح لدينا أولاد، إلّا أنّها ظلّت العين الساهرة علينا، ترتاح عند راحتنا، وتقلق عند قلقنا، وتشغل بالها بكلّ تفاصيل حياتنا".
ويتابع: "كانت أمّي تكره حصول خلافات بيننا، وتدعونا لأن يبادر أحدنا بالصلحة إن وقع أيّ خلاف، وكانت مقولتها الدائمة "ادفع بالتي هي أحسن"، لدرجة أنّها كانت لا تستقبلنا في بيتها إلّا إذا عالجنا الخلاف فيما بيننا. حدث ذات يوم أن اختلفت مع أخي حول موضوع تركة والدي، فلم تقبل حينها أن تدخل بيتي وبيت أخي حتّى نسوّي الأمور بيننا. وبالفعل، وضعنا مصالحنا وخلافاتنا جانباً، وعالجنا الأمر كُرمى لقلب أمّي ورضاها".
•الصهر ولد من أولادي
تقدّم الحاجة أم حسن نموذجاً آخر من الأمّهات اللواتي يعرفن كيف يعالجن مشاكل أبنائهنّ إناثاً وذكوراً، فلا مشكلة دون حلّ في قاموسها، والأمور تحلّ بهدوء مهما كانت معقّدة وصعبة.
كانت هدى ابنتها تعاني مع زوجها من ضيق المعيشة مؤخراً، ما أثار المشاكل بينهما إلى أن بلغت ذروتها في أحد الأيّام، فغادرت هدى بيت زوجها إلى أهلها عازمةً على الطلاق. في ذلك الوقت، لم تقابل أمّ حسن ابنتها بالترحيب المعتاد، ولم تسترجع المواقف السلبيّة التي كان يقوم بها زوجها، بل على العكس، راحت تتحدّث معها عن ميزاته الحسنة. وبعد ساعتين من الحديث الهادئ، وجدت هدى نفسها قد ارتاحت قليلاً، وإذ بوالدتها تدعوها للذهاب معها إلى بيتها. تفاجأ الرجل بظهور زوجته ووالدتها أمامه، وقد جلست أمّ حسن معه وتحدّثا عن مواضيع مختلفة، لتعود أدراجها بعد ساعة تقريباً دون أن تنبس بكلمة عن المشكلة.
استغرب موقف حماته، فاتّصل بها في اليوم التالي وسألها لماذا لم تعاتبه، فأجابته بحكمة: "أنت ولد من أولادي، وما صدر منك غريبٌ عنك، وأنا أعلم أنّك لن تعود إليه، فما الداعي لأحرجك أمام زوجتك وأولادك؟". تصرّف حكيم وكلمات واعية دفعت هذا الزوج إلى تحسين سلوكه حتّى يحسّن علاقته بزوجته وأولاده.
•الأمّ قلبٌ يحتوي قلوباً
تحسم الأستاذة نصر الله هذا الدور الكبير بقولها: "الأمومة ليست وظيفةً تنتهي في وقت محدّد، بل هي مقام معنويّ متقدّم يتّصف بالديمومة إلى آخر يوم في عمر المرأة". وتتابع: "عندما يكبر الأبناء، تصبح المهام تجاههم ذات طابع إرشاديّ توجيهيّ تتطلّب التعاطي معهم بصراحة وكأصدقاء. حتّى أنّ الأمّ قد تتحوّل إلى ذاك الشخص الحكيم الذي يظلّ في حالة مبادرة دائمة حيال أبنائه، ولو بعد الزواج، لإصلاح أمورهم وتصويب بعض المواقف حين يلزم الأمر".
وتختم قائلة: "حين تصبح الأمّ جدّة فإنّها تبقى أمّاً، ولكن مع مزيد من العاطفة التي تغدق بها على أحفادها الذين ينهلون من عاطفتها وحكمتها الكثير، الأمر الذي قد يساعد في استقرار شخصيّاتهم ومساعدتهم على تخطّي الكثير من المواقف الصعبة في الحياة".
إنّها الأمّ، ذلك الكائن العاطفيّ الحنون الذي يجمع كيان العائلة. إنّها الحضن الدافئ الذي يلوذ به المرء للتنفيس عن ضغوطات الحياة، وهذا ما تؤكّده إحدى الأمّهات: "ابني والدٌ لشابّين، عندما تضيق عليه الحياة، يضع رأسه في حجري لأربت عليه، وسرعان ما تظهر عليه علامات الارتياح، فينهض قائلاً لي: الآن بدأ نهاري الجميل".