السيّد حسين أمين السيّد
ليس من الطبيعيّ أن يخوض الإنسان في مسألة العدل الإلهيّ، وهو من البديهيّات التي على أساسها تُبنى الحياة الإنسانيّة. ولكن ما نراه من انحراف وتشويه للفطرة والبديهيّات، يبرّر لنا الخوض في هذا البحث. فما هو العدل؟ وما هي أنواعه واستدلالاته في القرآن الكريم؟ وهل ثمّة فرق بين العدل والمساواة؟
* العدل في القرآن الكريم
إنّ أصل العدل في الثقافة الإسلاميّة ينقسم إلى العدل الإلهيّ والعدل الإنسانيّ؛ فالعدل الإلهيّ ينقسم إلى العدل التكوينيّ والتشريعيّ والجزائيّ، والعدل الإنسانيّ بدوره ينقسم أيضاً إلى عدل فرديّ واجتماعيّ. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعاني من العدل في آياته الكريمة في موارد متعدّدة.
* العدل الإلهيّ
العدل صفة جماليّة كماليّة من صفات الله تعالى بما ثبت من خلال الأدلّة العقليّة القطعيّة، وبما قامت عليه البداهة الإنسانيّة، وإن اختلف العلماء في بيان معناه والمقصود منه وتفاصيله. والثابت أنّ الله تعالى عادل، وعدله مطلق ولا جَوْر في ساحته أبداً، فهو سبحانه عادل في التكوين، والتشريع والجزاء. وإنّ الفاعليّة الإلهيّة، والتدبير الإلهيّ، قائمان على أساس العدل، قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾ (آل عمران: 18). وتفصيله:
1. العدل في التكوين: قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ (الملك: 3-4). عندما ينظر الإنسان في كلّ ما خلق الله تعالى، يدرك أنّ هذا الكون يحكمه نظام مذهل دقيق. فعلى مستوى الموجود كفرد، نرى في كلّ مخلوق نظامه، كما هو الحال عند الإنسان والنمل والنحل و...، ولكن الأعظم عندما نكتشف أنّ كلّ مخلوق مرتبط بالمخلوق الآخر بنظام واحد يحكم كلّ هذا الكون، فالله سبحانه إذا قام بعمل قام به على أكمل وجه.
2. العدل في التشريع: قال تعالى: ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 233). يبيّن الله تعالى في هذه الآية أنّه لا يكلّف المخلوق بما لا طاقة له به، فجميع التكاليف الإلهيّة للإنسان مقدور عليها؛ إذ من الظلم أن يكلّفنا بأمر لا نقدر عليه ثمّ يحاسبنا عليه.
3. العدل في الجزاء: قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ (الأنبياء: 47). لا بد من أنّ يتبع كلّ تكليف سؤال وحساب، وإلّا كان التكليف عبثيّاً، والله سبحانه منزّه عن العبثيّة.
* أهميّة الإيمان بالعدل الإلهيّ
بعد مراجعة الآيات الكريمة التي تتناول العدل الإلهيّ بأقسامه الثلاثة، نستشف مجموعةً من الفوائد:
1. للإيمان بالعدالة الإلهيّة آثاره النورانيّة في نفوس المؤمنين. وكما أنّ الإيمان بالصفات الإلهيّة يولّد مشاعر وأحاسيس متناسبة ومتناغمة مع طبيعة كلّ صفة من تلك الصفات؛ فالإيمان بالعدالة الإلهيّة يحقّق الثقة بالله تعالى والتوكّل عليه، ويشعل الشعور بالحماس والانجذاب نحو الجهاد وأداء التكاليف، كما أنّه يقوّي الصبر وتحمّل المشاقّ، ويسهم في العمل على بسط العدل ونشره بين الناس، ويحثّ على العمل ولو بالخفاء، والإنصاف في العلاقات بين الناس إحقاقاً للحقّ.
2. لمّا كانت صفات الفعل الإلهيّة؛ بعضها فعل تكوين، وبعضها فعل تشريع، وبعضها فعل جزاء، وأخرى في مجال الاجتماع والأخلاق، كان العدل بحسب تلك الأفعال عدلاً تكوينيّاً وتشريعيّاً وجزائيّاً واجتماعيّاً.
3. يجب التنبّه إلى عدم الخلط بين مظاهر العدل حذراً من الوقوع في الكثير من الالتباسات؛ فمثلاً: ينتظر بعضهم تحقّق العدل الجزائيّ في الدنيا، مع أنّ الدنيا هي محلّ اختبار وليست داراً للحساب، فماهيّة الدنيا والآخرة متغايرة؛ هما نشأتان ونظامان يقع أحدهما في طول الآخر.
* إنسانيّة العدل
يُعدُّ العدل فضيلة تميل إليها الفطرة الإنسانيّة؛ فالإنسان يميل إلى العدل ميلاً ذاتيّاً؛ وقد جعل القرآن الكريم الأكثر تقوى هو الأكثر عدلاً، إذ قال تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8). وهذا يعني:
1. عندما يأمر الله تعالى بإقامة العدل، فهذا يكشف عن أنّها قيمة مقدّسة ومطلقة، لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، والقداسة سموّ، وطهر، ويترتّب على قدسيّة العدالة الاندفاع نحو تحقيقها من بذل الأرواح والدماء. ويربط الشيخ مطهري بين قدسيّة العدالة وقدسيّة آثارها، باعتبار قداسة الهدف، بالتالي، فقداسة العدالة تستلزم قداسة السائرين من أجلها.
2. إنّ أصل العدل أصل موقظ للوعي بِقِيَم الحياة التي هي مستلزمات العدل، كالجهاد، والحريّة، ونصرة الحقّ، ومواجهة الظلم بكلّ أشكاله؛ فيكون الأخذ بالعدل أخذاً بكلّ قيم العدل التي هي قيم الحياة، والحياة لا تتجزّأ، باعتبارها وحدة واحدة مترابطة بشؤونها.
* العدل غير المساواة
أشار سبحانه في كتابه إلى العدل بجميع أقسامه في قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران: 18). وفي هذا المجال يحقّ للسائل أن يطرح العديد من الأسئلة، إذ إنّنا نرى في بعض التشريعات هضماً لحقوق بعض الناس، ونرى بوضوح التمييز بين الخلق، لا بل قد يسيء بعضهم في الفهم، فيتصوّر أنّ الله تعالى فضّل بعض خلقه على بعض من دون موجب للتفضيل.
وفي معرض الجواب عن هذه الشبهات، لا بدّ من فهم أصل القضيّة وتحرير موضع النزاع، إذ إنّ الاشتباه في فهم معنى العدل وجعله بمعنى المساواة هو ما أوقع الناس في هذه المشكلة، فقال بعض الناس إنّ المساواة في العطاء والحكم والقضاء والرعاية والعناية وإعطاء الفرص و... هي من العدل بحدّ ذاته، وذهبوا إلى المناداة بأنّ العدالة هي المساواة والمساواة هي العدالة. فما هي صحّة هذا الأمر؟
من الواضح ضلالة هذا الرأي، فالعقلاء، ولو كانوا من غير أهل الإيمان، يحكمون أنّ المساواة بين الأفراد مع اختلاف قدراتهم ومؤهّلاتهم ظلم؛ فأن تكلّف الضعيف مثلاً بحمل وزن ثقيل لا يحمله إلّا قويّ البنية فهذا ظلم بحقّ الضعيف يرفضه العقلاء وأصحاب الفطرة السليمة، فكيف نقبله في حقّ الله تعالى؟!
لذلك، ومن منظور العدل، لا بدّ من أن يراعي التكليف قدرات كلّ الأفراد وموهّلاتهم، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً. فتكليف القويّ غير تكليف الضعيف، وتكليف الصغير غير تكليف الكبير، وكذا الحال في تكليف الرجل فهو لا يشبه تكليف المرأة، وهذا الخلاف مردّه إلى الاختلاف في طبيعة كلّ منهما.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، هل أوجب الله طلب العلم على الرجل فقط دون المرأة؟ إنّ قدرات الرجل والمرأة في مسألة العلم ومؤهّلاتهما متساوية، وقد ورد عن رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة"(1).
وأمّا إذا قمنا بمنافسة رياضيّة، فأمرنا رجلاً قويّاً وآخر ضعيفاً برفع وزن مائة كيلو، لعلت الأصوات معترضة على هذا الظلم، إذ لا تناسب بين الرجلين من جهة المؤهّلات والقدرات، وكذا الحال لو أجريناها بين رجل وامرأة للسبب عينه، وفي كلتا الحالتين نرى أنّ المساواة ظلم وليست من العدالة في شيء. وفي التكاليف الشرعيّة الإلهيّة كانت مسألة مراعاة المؤهّلات والقدرات للمكلّف أساساً في التكليف؛ فالله تعالى لا يكلّف الإنسان إلّا ما يسعه ويقدر عليه: ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 233).
* المساواة المطلقة ظلم
إنّ الذين يسعون إلى ترسيخ المساواة بشكل مطلق، دون إدراك عمق الفارق بينها وبين تحقيق العدل، إنّما يسعون إلى الظلم، مثلاً: في موضوع المرأة والرجل، ظلموا المرأة بتكليفها بما لا تطيق من تكاليف الرجال، بذريعة أنّها كانت مضطهدةً فزادوها بذلك ظلماً. والحرب التي تخاض هذه الأيّام هي نوع جديد من الحروب؛ هي حرب على الفطرة الإنسانيّة، ولكن ما أعلنه الله سبحانه في القرآن الكريم يبعث على الأمل بالنصر الآتي للبشريّة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30).
(1) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 68.