ذكرنا في الحلقة الماضية أن الله سبحانه لما كان متصفاً بالكمال المطلق فلا بد أن يكون جامعاً لكل الصفات الكمالية. وقد تناولنا بعضاً من تلك الصفات كالعلم والسمع والبصر والقدرة. وفي هذه الحلقة نتابع الحديث عن واحدة من هذه الصفات الكمالية؛ صفة العدل.
* العادل
تعتبر صفة العدل من أهم الصفات التي كثر حولها الكلام بين الفرق الإسلامية. فأفرط البعض في تأييدها وفسّروها بنحوٍ أوقعهم في لون من ألوان الشرك (المفوضة والمعتزلة) وفرّد بها بعض آخر حتى نفى حقيقة العدل الإلهي وواقعيته (الأشاعرة والمجبرة). ولأهمية هذه الإشكالات وتأثيرها على سائر الأصول العقائدية - ولغيرها من الأسباب - جُعلت صفة العدل أصلاً من أصول الدين.
والعدل وضع الشيء في المكان المناسب وهو ما يقابل الظلم حيث وضع الشيء في غير موضعه. سئل أمير المؤمنين عليه السلام أيهما أفضل: العدل أم الجود؟ فأجاب عليه السلام: "العدل سائس عام والجور عارض خاص"، "العدل يضع الأمور مواضعها". وورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "بالعدل قامت السموات والأرض". أي أن كل ما في السموات والأرض موضوع في المكان المناسب ومسير على أساس نظام دقيق وحكيم لا يمكن التخلف عنه قيد أنملة. وقد أثبت الفلاسفة وكذلك علماء الطبيعة أنه ليس بالإمكان إيجاد نظام أفضل مما هو موجود حالياً. فهذا هو عدل الله في التكوين.
وكذلك نرى أن الله سبحانه وتعالى عندما أرسل الأنبياء العظام عليهم السلام أنزل معهم الشرائع الكاملة لهداية الناس إلى سعادتهم وكمالهم في الدنيا والآخرة. ولو راجعنا هذه الشرائع السماوية لوجدناها كاملة حاوية لجميع مراتب الهداية
﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾
ولا يمكن استبدال حكم إلهي بحكم آخر أفضل منه. وهذا هو عدل الله في التشريع.
* إثبات العدل
تعتبر مسألة عدل الله من المسائل البديهية التي لا تحتاج إلى برهان. فهذا أمر ثابت عند جميع أصحاب الملل والنحل المختلفة. إلا أن بعض الناس قد تعرض لهم بعض الشكوك والشبهات وهم يحتاجون لرفعها إلى الدليل والبرهان. وهذا يحصل في حياتنا العادية كثيراً، فقد يتساءل البعض: أليس الله تعالى قادراً على كل شيء؟ أليست إرادته ومشئته نافذة في كل عوالم الوجود ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟ إذا لماذا لا يمكن أن يظلم الله تعالى أبداً؟ ألسنا عندما نقول أن الله لا يمكن أن يفعل الظلم نضع الحدود والقيود على إرادة الله تعالى ومشيئته؟.
قبل الإجابة على هذه الشبهة لننظر إلى هذه المقارنة.
سليمان ملك حكيم، عالم بما يصلح الناس، غير محتاج إلى ما في أيدي الناس من أموال وممتلكات والناس تحتاج إليه لتدبير شؤونها وتنظيم أمورها بماله من حكمة وقدرة كبيرتين. وهو تصدى لحكومة النسا لا لشيء إلا لتدبير شؤون الناس وتنظيم حياتهم وهدايتهم لما فيه خيرهم وصلاحهم مع ما يستتبع ذلك من قمع المفسدين والمعتدين. هذا الملك سوف يكون بكل تأكيد عادلاً ولن يظلم أحداً. فهو بعلمه وحكمته يعرف الحق من الباطل ويميز المظلوم من الظالم. وهو بغناه وعدم حاجته إلى الناس وتنزهه عن الأنانية سوف ينصر الحق والمظلوم على المبطل والظالم.
ولكن لو كان سليمان الملك هذا غير حكيم ولا يعلم بمصالح الناس ومنافعهم وما فيه خيرهم وشرهم فقد يظلم جهلاً ومن غير قصد. أو إذا كان عالماً حكيماً ولكنه أناني ومحتاج إلى ما في أيدي الناس من أموال، أو كان ضعيفاً يحتاج إلى ما في سواعد الناس من قوة، ليتسلط بها على الآخرين، فمن الممكن أن يظلم تحقيقاً لأهدافه الخاصة.
إذاً فالإنسان بطبعه وفطرته يدرك أن العدل حسن والظلم قبيح، وهذا من البديهيات العقلية والوجدانية عند كل إنسان. ولو خير بين العدل والظلم دون أية حاجة للظلم من ضعف أو جهل أو خوف أو عبث وغير ذلك فإنه لا بد من أن يختار العدل دون الظلم.
ولن يكون الله سبحانه - وهو الكمال المطلق - أقل مستوى من الإنسان الشريف في تصرفاته وأحكامه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
فهذا زين العابدين عليه السلام الذي استقى علمه من ينبوع الرسالة يقول في دعائه:
"وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة وإنما يعجل من يخاف الفوت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علواً كبيراً".
فالله سبحانه وتعالى لا يفعل الظلم ولا القبيح؛ ليس لأنه عاجز عن ذلك، ولا لأن قدرته محدودة وإرادته مغلوبة
﴿سبحان الله عما يصفون﴾.
بل هو لا يفعل ذلك لأنه كمال مطلق. فهو حكيم وعالم بقبح الظلم وليس لديه الداعي إلى فعله. فهو ليس ضعيفاً ولا محتاجاً ولا عابثاً ولا جاهلاً ولا سبيل للنقص إليه مطلقاً، بل هو القوى الغني الحميد، القادر على كل شيء والذي لا يحتاج إلى شيء
﴿الصمد﴾ وهو الحكيم الرحيم بمخلوقاته ولا يريد لهم إلا الخير والصلاح والهداية إلى السعادة والكمال.
وخلاصة القول: إن الدوافع نحو الظلم من جهل وضعف وغير ذلك منتفية في حقه تعالى لأنه الكمال المقلق؛ ولذلك هو لا يظلم أبداً.
* العدل والظلم في القرآن
يصرح القرآن الكريم في الكثير من الآيات بأن نظام الوجود مبني على أساس العدل والتوازن. فالعدل هو المعيار في موضوع الخلق والتشريع والحساب. وإليك بعضاً منها:
1- ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط﴾ (آل عمران 18).
2- ﴿والسماء رفعها ووضع
﴾ (الرحمن، 7).
3- ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ (الحديد، 25).
4- ﴿قل أمر ربي بالقسط﴾ (الأعراف، 29).
5- ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ (النحل، 90).
6- ﴿واعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ (المائدة، 8).
7- ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ (النساء، 58).
8- ﴿وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً﴾ (الأنعام، 115).
9- ﴿والله لا يحب الظالمين﴾ (آل عمران، 57).
10- ﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ (النحل، 118).
11- ﴿وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم﴾ (هود، 101).
* سر الحوادث والبلاءات
يقول البعض: إننا إذا قبلنا أصل العدالة الإلهية، فبماذا نفسر الحوادث والآفات، والزلازل والطوفان، وغيرها من البلاءات المختلفة، فهل تتطابق هذه الأمور ما نعتقده بالنسبة لعدل الله؟
في الواقع إن الذي يرى الآيات المذهلة والعجائب المحيرة في هذا الكون الواسع - وهي لا تعد ولا تحصى ليس له أي هدف خاطئ ولا يؤدي أي فعل عبثاً ولا يحصل العيب والنقص في مخلوقاته من عنده. بل كل ما يصدر منه فهو خير محض ولا يمكن أن يكون خلاف ذلك.
نعم، إذا رأينا بعض الأمور التي تظهر لنا - بالنظرة الأولية - أنها ناقصة أو عابثة أو معيبة وما إلى ذلك مما يخالف العدل والحكمة، يجب أن نتسرع بالحكم بأنها معارضة للحكمة والعدالة الإلهية، بل قد يكون عائد لجهلنا وقصور علمنا عن الحكمة والغاية في هذه الأمور. وهذا ما يدلنا عليه العقل السليم والمنطق القويم. فلو قرأ شخص نهج البلاغة فإنه يحكم أن صاحبه أمير البيان ومرجع الفصاحة والبلاغة. إلا أنه إذا قرأ بعض الخُطب أو الرسائل التي لا تناسب ذوقه الأدبي، فإنه يحكم بجهله بأنها منافية للفصاحة والبلاغة والأدب الرفيع.
وهذا العلم يكشف مع مرور الزمن أن الكثير من الأمور التي كان يظن الناس أنها شر محض وأنها تعبير عن غضب الإله؛ ما هي إلا أساس لاستمرار حياة البشر وهي عين العدل والحكمة وفيها الخير الكثير ولكن أكثر الناس لا يعلمون. لقد أكد العلم الحديث أن الزلازل والبراكين تلعب دوراً رئيسياً في تحقيق توازن درجة الحرارة في باطن الأرض. فباطن الأرض يحتوي على سوائل معدنية شديدة الحرارة وهي في غليان دائم. والأرض تحتاج للتنفس والتخفيف من حرارة باطنها لضمان استمراريتها وتماسكها، ولا يتم ذلك إلا عبر الزلازل والبراكين.
وكذلك فإن معظم الأدوية المركبة في المختبرات العلمية الحديثة مستخرجة من سم الأفعى ولذلك جعلوا الأفعى رمزاً للصيدلة.
وهكذا في كثير من الأمور التي تبدو للوهلة الأولى شراً ونقمة محضة، إلا أن العلم اكتشف - أو قد يكتشف مستقبلاً - أن فيها خيراً ورحمة كثيرة. ولن ننسى في نهاية المطاف الإشارة إلى أن الإنسان يعيش في هذا العالم وهو دار البلاء والامتحان، والإنسان مخير في أن يسلك طريق الخير والصلاح والإيمان أو أن يتبع خطوات الشيطان سالكاً طريق الشر والكفر والطغيان. فكثير من الآفات والعيوب ترجع إلى سوء اختيارنا وليس إلى الخالق سبحانه. فنحن الذين نقع ضحية البلاءات والأمراض نتيجة جهلنا وعصياننا. ونحن الذين نظلم ونكفر ونعتدي على الآخرين ونتعاطى المخدرات وما حرم الله علينا، وبالتالي فنحن نستحق ما ينزل علينا من بلاءات وعيوب نتيجة إفسادنا وإجرامنا
﴿ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد﴾.