صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

في رحاب بقية الله: الممهدون بعدلهم 3

آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي


تحدثنا في العدد السابق عن العناصر والأسس التي تتحقق بموجبها العدالة، وقلنا إن إقامة العدل تحتاج إلى: قائد عادل وقانون عادل، وأمّة تطلب العدل. وفي الحكومة الإسلامية لأهل البيت عليهم السلام يتحقّق الأصلان الأَوّلان. وسنبحث فيما يلي كيف يتحقّق الأصل الثالث.

*أمّة تطلب العدل

من جملة الأعمال التي يقوم بها إمام الزمان أرواحنا فداه، جعلُ المجتمع عاقلاً، متعطشاً للعدل. فليست معجزة الإمام أنه ينشر العدل، وإنما في جعل الناس عقلاء يتقبّلون انتشار العدل ولو على حساب مصالحهم. الإمام يحيي المجتمع بالعناية الإلهية وهذا ما يجعله متعطّشاً للعدل وطالباً له. جاء في بعض الروايات أن الإمام إمّا أن يمسح بيده المباركة على رؤوس الناس فتكمُل عقولهم أو أنّ العناية الإلهية تشملهم. ولكن في كل الأحوال هناك معجزة للإمام تجعل الأكثرية من الناس، ربما، في مستوى الشيخ الأنصاري قدس سره.

إنّ الإنسان يتواضع أمام عظمة الشيخ الأنصاري، الذي كان يقول إن نصيبه من بيت المال معروف، وكذلك نصيب الآخرين معروف أيضاً. إلا أننا نصنع لأنفسنا حيثيّة من بيت المال، نصنع لنا شأناً ونعتبر أن لنا نصيباً منه يوازي شأننا الذي وضعناه ثم نطالب به. من أين جاء هذا الشأن؟ لقد كنا مجرد طلاب علم ومع وجود بيت المال أصبحنا ذوي شأن وصرنا نطالب بنصيب أكبر للحفاظ على هذا الشأن...!

*العدل وليس العلم

الناس عطاشى للعدل، وهو الذي يحل مشكلاتهم. العالِم الذي يمتاز بحدٍّ متوسط من الفضل والتقوى الكاملة، بإمكانه إدارة مدينة، وترى الناس سعداء.

العدل هو الذي يدير المجتمع، وليس العلم.

علينا أن نسأل أنفسنا: ما هو مقدار حاجتنا إلى العلم؟ ما هو مقدار توقّع الناس منّا؟ وهذا هو المهم.

*كيف يجعل الإمام الناس عقلاء؟

أما كيف يجعل الإمام الناس عقلاء، حيث يكون الأكثرية من الناس يتعطشون للعدل، فهذا أمر محير. كلما فكرت في هذا الحديث النوراني أخذتني الحيرة "وضع يده على رؤوس الأنام فجمع به عقولهم1 وبعد ذلك يعمّ العدل في الكون. ليست المسألة على نحو أن الله يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بل يضع بداية يده على رؤوس الناس فيكمل عقولهم. وفي هذه الحال يصبح المجتمع حياً، والعمل مع الأحياء سهل. من هنا، نجد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يبيّن أنّ مشكلته هي أنه يواجه أمواتاً، فما أن يرتقها من مكان إلا وفتقت في آخر.

بناءً على ما تقدم ينبغي أن نتذوّق نحن أولاً طعم العدل، بعد ذلك نجعل المجتمع يتعطش له. في البداية قد نواجه أياماً أو شهوراً صعبة ولكن بعد ذلك يصبح العدل عذباً إلى درجة أنه لا يمكن ممارسة إلّا العدل.

الإنسان، الآن، كالذي أصيب بمرض، فهو غير قادر على معرفة الروائح، هل شاهدتم أشخاصاً فقدوا حاسة الشم، أو لا يستطيعون أن يميّزوا الرائحة الكريهة؟ لذلك يجب علينا أن نفتح مشامنا، عند ذلك ندرك أنّ الظلم كريه الرائحة.

*الوجود المبارك للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف

هناك الكثيرون ممن يدركون حقيقة "من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية.." 3. هؤلاء يعيشون الشوق للقاء الإمام لأنهم يشاهدون حياتهم في ظل ظهوره، هؤلاء يحملون شوقاً كبيراً لزيارته ودائماً يلهجون بدعاء العهد.

ليس صحيحاً أن الإنسان إذا مات فهو لا يرى الإمام. إذا كان الشخص علوياً مهدوياً حقيقة، فإنّ أول من يقف عند رأسه أثناء الموت هو الوجود المبارك للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف. ينقل المرحوم الكليني قدس سره أن أربعة من العظماء يحضرون أثناء احتضار المؤمن. عند ذلك يصبح الموت لذيذاً إلى درجة أن لذّته لا تقارن بلذّة أخرى.

ماذا سيحصل لو جاء الإمام إلى منزلنا؟ يتحدّث المرحوم الكليني في فروع الكافي في بحث "الجنائز" عن أن المؤمن عند احتضاره لا يرى الأقارب ولا الممرضين. هو لا يرى أحداً ولا يعرف شخصاً من الأقارب والممرضين حتى لو كانت عيناه مفتوحتين، وفجأة يرى الوضع قد تغيّر مِن حوله ثم بدأ أربعة عشر ضيفاً يُعرّفون عن أنفسهم. أما أول المتقدمين فهو الوجود المبارك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانبه علي بن أبي طالب عليه السلام.

*مراتب العدل والظلم

للعدل والظلم مراتب هي: الظلم الأصغر والعدل الأصغر، الظلم الأوسط والعدل الأوسط، الظلم الأكبر والعدل الأكبر.

نحن نطلب العدل الأصغر في الجهاد الأصغر، ففيه نجاة من ظلم الاستكبار والصهيونية. من وظائفنا جميعنا إقامة وتطبيق العدل الأصغر.

لو تجاوزنا هذه المسألة هناك عدل أوسط يقابل الظلم الأوسط، وهو أن نكون أشخاصاً جيّدين. المسألة هنا هي مسألة العلم والجهل، العدل والظلم، القسط والعدل، الرذيلة والفضيلة، وأن أكثر ما يمكن أن نرتقي إليه هو الجهاد الأوسط. أن يكون الشخص جيداً وأن يكون صاحب أخلاق حسنة، فهذه أمور تتعلق بالجهاد الأوسط.

وإذا تجاوزنا هذه المرحلة، تبدأ الحرب بين القلب والعقل. هنا، يطرح بحث الشهود، وبحث النزاع بين الحكيم والعارف. الأول، يأتي بالدليل على وجود الجنّة والنار، ويقول الثاني إن الدليل مفيد لك فقط، لأنني أعرف أن الجنة والنار موجودتان، ولكنني أريد أن أرى النزاع بين القلب والعقل.

ما دام الحديث عن الفهم وتهذيب النفس وتزكيتها، فهو من جملة الأخلاق، وهو من جملة الجهاد الأوسط. ولكن عندما يصبح الحديث عن الشهود يصبح الجهاد جهاداً أكبر.

*الجهاد الأكبر

الجهاد الأكبر هو أن نشاهد الإمام كلما أردنا ذلك، كما كان العلامة بحر العلوم. فإن الوجود المبارك للإمام وحضوره، هو لأجل كافة المراحل: العدل، الظلم والجهاد.

والإمامة المذكورة في الكتاب والحكمة والفلسفة، هي الإمامة المدنية والسياسية. الناس يطلبون القانون والقائد، يريدون أن يكونوا متمدّنين وأن تكون حياتهم اجتماعية، وهذا بحدّ ذاته دليلٌ حسن وتام. الإمامة التي يقدّمها القرآن، هي الإمامة التي تقع ضمن دائرتها الجنّ والملائكة وهؤلاء أيضاً يحتاجون إلى المعلّم.

وليس الجن هم الوحيدون الذين يحضرون أمام الإمام لتقديم أيمانهم، بل الملائكة أيضاً يطلبون العون منه. فالإمامة التي يقدّمها القرآن أوسع من التي يجري الحديث عنها في الحكمة، والكلام، والفلسفة. وهي صحيحة على أساس أن الإنسان مدني بالطبع ويحتاج إلى قانون.

ولكن الملائكة أيضاً بحاجة إلى المعلّم والحافظ والمذكّر. والذي يؤدي هذا الدور في هذا الزمان هو الحضور المبارك للإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.


1- بحار الأنوار، المجلسي، ج34، ص259.
2- مختصر بصائر الدرجات، الحلّي، ص117.
3- الوافي، الفيض الكاشاني، ج7، ص591.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع