الشيخ مهدي أبو زيد
ذات خميس من السنة العاشرة للهجرة، آخر سنيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في دار الدنيا، وبعد أداء المناسك معه صلى الله عليه وآله وسلم في الحجّة التي عُرفت بحجّة الوداع، وبينما كانت القوافل تجدّ السير في شوق إلى لقاء الأهل والأحبّة، وعند مفترق طرق، في مكان مقفر، تكاد حرارة شمسه تصهر بأشعّتها كلّ ما تلامسه، تناهى إلى المسامع أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي قطع انسياب القوم إلى أوطانهم، وتنادى الجمع بأن يرجع المتقدّم، ويلتحق المتأخّر(1). فالأذان في غير وقته، وقد طلب صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى له منبرٌ من أحداج الإبل؛ ليرى الجمع الغفير ما لا تكفيه الكلمات؛ وترى العين ما لا تنقله الأذن.
* وبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلامه
ارتقى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المنبر، وبدأت الكلمات والأفكار على تنوّعها تدغدغ مشاعر الحضور:
1. على مسامع الجميع: "أيّها الناس، قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبيّ إلّا مثل نصف عمر الذي قبله، وإنّي أوشك أن أدعى فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ وناره حقّ وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: اللّهم اشهد، ثمّ قال: أيّها الناس، ألا تسمعون؟ قالوا: نعم". وهنا، لا مجال ليدّعي أحد أنّ فقرة من تلك الكلمات قد أخطأت مسامع أحد. ويحقّ للسامع أن يسأل: لمَ أشهد صلى الله عليه وآله وسلم الناس على ما يؤمنون به، وأولى عقائد الرسالة؟ ولمَ أخبرهم بدنوّ أجله؟
2. التمسّك بالثقلين: "قال صلى الله عليه وآله وسلم: فإنّي فرط (سابقكم) على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين. فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله، طرفٌ بيد الله عزّ وجلّ، وطرفٌ بأيديكم، فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا". هي كلماتُ الحريص على الأمّة ومستقبلها، وحُسن عاقبتها، وبيانٌ لأسباب النجاة وإكمال المسير على النهج الصحيح، وتأكيدٌ على دفع الهلاك بالتزامهما، بعد ارتحاله عن هذه الدنيا.
3. حبل الولاية: "ثمّ أخذ بيد عليّ عليه السلام فرفعها، وعرفه القوم أجمعون، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أيّها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، يقولها (ثلاث) مرّات،... ثمّ قال: اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار". وهنا قد أبلغ القوم النبأ الجليل، المرتبط بارتحاله صلى الله عليه وآله وسلم عن دار الدنيا، وتأكيده عقائد الدين (إشهادهم على التوحيد والإيمان)، وطريق النجاة (التمسّك بالثقلين)، وأخيراً تنصيب حافظ الأمّة، وتعيينه طريق الإشراف على الدين، وأنّ هذا المنصب مستمدٌّ من ولاية الله على الخلق، ثمّ ولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على المؤمنين، ويتفرع عنها ولاية الوصي عليه السلام عليهم أيضاً بحسب ما أبلغهم. وهذا تأكيد على ربط الأمّة بحبل الولاية، كما ارتبطت بحبل النبوّة من قبل، وهو تصريح لا لَبْسَ فيه، ومشهديّة لن يكون بالإمكان تناسيها.
4. فليبلّغ الشاهد الغائب: "ألا فليبلّغ الشاهد الغايب". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم هذه العبارة يدلّ على توضيحه لملابسات الخطاب؛ أنّه لا يختصّ بالحاضرين فقط، بل هو أمانة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في عنق ووجدان كلّ من حضر وسمع ورأى؛ ليكون رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى من قبله، ومكلّفاً بتبليغ الوصيّة.
5. إكمال الدين: "ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي الله بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ (المائدة: 3). فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الربّ برسالتي، والولاية لعليّ من بعدي". فكلّ فاصلة تؤكّد أنّ الحدث ليس مجرّد إبراز عواطف، وإنّما إبراز هويّة الربّان الذي سيقود سفينة الحقّ على نهج الهداية ورضى الباري تعالى، وارتباط هذا المنصب بكمال الدين نفسه، وهو أمرٌ ليس خارج الدين، بل من داخله ومن جذوره.
6. الاعتراف بالولاية: "ثمّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وممّن هنّأه: أبو بكر وعمر، وكلٌّ يقول: بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة"(2)؛ فالتهنئة هي على قيادة الأمّة كما فهمها هؤلاء، وما أعقب الحدث من تكليف بأخذ البيعة، يقطع الطريق على حمل المعاني في مهبّ رياح التأويل.
وقد انكشف منذ تلك اللحظة من التاريخ، للحاضرين هناك ومن تلقّف الخبر بعد ذاك، خطر الوظيفة التي سيؤدّيها أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووزيره ووصيّه من بعده، وعلم الجميع أنّ مخرجاتها الحتميّة: "فاسمعوا له وأطيعوا".
* إشارات الحادثة
لا يغيب عن قارئ الحادثة جللها، وعظيم التبليغ بها، من خلال ملاحظة المقدّمات التي هيّأها رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليشدّ انتباه القوم إلى آخر بلاغاته، وأكثرها ضرورةً:
1. اختار صلى الله عليه وآله وسلم نقطةً جمَعَ فيها الناس وهي آخر نقطة التقاء قبل انصراف الحجيج إلى بلادهم.
2. طلب منهم التوقّف في حرّ الظهيرة، في مكان مقفر، في حين أنّه صلى الله عليه وآله وسلم حريصٌ على التسهيل على المؤمنين والرأفة بهم.
3. طلب من القوم أن ينتظروا المتأخرين، وأن يجدّ أحدُهم في طلب المتقدّمين؛ ليسمع الجميع بلاغه. ولا يخفى الوقت الذي استغرقه تجمّع الناس بين انتظار متأخّر ومتقدّم في المسير.
4. طلب منهم أن يبنوا منبراً؛ ليسمع الجميع ويروا أيضاً.
5. بدأ كلامه صلى الله عليه وآله وسلم بإخبارهم بدنوّ الأجل، وأكّد على التوحيد وعقائد الإسلام، ثم بيّن طريق النجاة، وهو شرط الفوز في الآخرة.
إذاً، لن يكون ذلك البلاغ إلّا بما يرتبط ببقاء رسالته صلى الله عليه وآله وسلم وامتدادها.
* ظروف الغدير
لقد رسم ذلك اللقاء السياسيّ الدينيّ الضخم بظروفه الزمانيّة والمكانيّة، مستقبل الرسالة المباركة كما أراده الله تعالى، وأعلنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة: 3). فقد ضمّ هذا الاجتماع عدداً كبيراً من أبناء فئة تعاظمت قدراتها، وازداد عديدها خلال عقدين ونيّف من الزمن، بين يدي آخر رسل الله الذي راح يُبيّن لهم معالم الطريق الرحب، في موقع جغرافيّ تفترق عنده قوافل الحجيج العائدة من آخر حجّة تحت جناح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإشرافه، وكان ذلك أوّل اختبار بعد أداء منسك التحرّر والعتق من الأنانيّة، والتفاضل البشريّ، وجذور التفرقة المبنيّة على أُسس جاهليّة، وترجمة عمليّة لمقولة (لبّيك اللهم لبّيك)؛ لتنبثق الوثيقة في أعقاب أمر ربّانيّ جازم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 67).
* البيعة المجدّدة
إنّ مجريات يوم الغدير لم تكن لتخفى على من عاصر حركة الإسلام منذ انبلج فجره، وهو الأمر الحتميّ الذي يمكن أن يستنتجه أيّ منصف ومتابع لتطوّر الإسلام العزيز وما حقّقه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من إنجازات.
فما سيأتي على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الضرورة والأهميّة التي توازي كلّ ما أُنجز إلى اليوم، بحيث يشكّل تركه هدماً لكلّ تلك الأسس، التي شيّدها للدولة الفتيّة بكلّ أبعادها؛ فهو البيان الختاميّ لجهود العقدين الأوّلين للتأسيس، وإعلان بداية المرحلة الجديدة التي تسير الأمّة فيها على هدي أوصياء المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وصولاً إلى البيعة لمولانا بقيّة الله في الأرضين وخاتم الوصيّين عجل الله تعالى فرجه الشريف. هذه البيعة التي نجدّدها صبيحة كلّ يوم من أيّامنا، هي ضمان لاستمرار ما أسّس له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وحضور قلبيّ وقالبيّ حيث أراد لنا، ومسار على النهج السديد الذي رسمه لنا، والذي جعلنا في هذا العصر نجني تلك الثمار التي طالما تمنّى تحقيقها كلّ من سبق من أهل الولاية.
(1) راجع: الكوفي، مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ج 1، ص 118.
(2) الشيخ الأميني، الغدير، ج 1، ص 10-11.