مبارك لكم عيد الغدير السعيد، ولكل الذين يعتبرون أنفسهم ملتزمين بالإسلام وسيادة الإسلام في شتى بقاع الأرض، ولكل الذين يحترمون الاسم المبارك للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
مع أن عيد الغدير من خصائص فرقة الشيعة الإمامية، لكنَّ لهذا الحدث مفهوماً ومحتوى ومضموناً واسعاً يجعله مستوعباً لكل المسلمين. بل، حسب الإيضاح الذي سأذكره، هو لكل المخلصين والمتشوقين لسعادة الإنسان وتحسين حاله.
*اعتقاد راسخ
عيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حار، وفي منطقة هامة ومقابل أعين الناس علي بن أبي طالب عليه السلام إماماً للمسلمين من بعده وولياً لأمور الإسلام وقدّمه وعرّفه للناس: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"1. وهذا عطف على آيات عديدة تثبت ولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله تعالى
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ﴾ (المائدة: 55).. وآيات عديدة أخرى.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه". أيُّ معنى للولاية قصده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يختص به ويجري على أمير المؤمنين عليه السلام في هذا التنصيب والتعريف الذي قام به؟ إن هذا يعتبر دليلاً متيناً وموثقاً، لا سبيل للشك فيه. وقد ناقش كبار العلماء هذه المسألة ما يكفينا نقاشها هنا.
نحن الشيعة لدينا هذا الاعتقاد الراسخ بشأن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو اعتقاد متقن لا سبيل للشك فيه، ونعتبر الحديث المتواتر - أي حديث يوم الغدير - الذي رواه كل محدّثي الإسلام الكبار من شيعة وسنة سنداً وركيزة لهذا الاعتقاد المتقن.
*تنصيب إلهيّ
كان جميع الناس يعرفون علي بن أبي طالب عليه السلام في ذلك اليوم عن كثب، ولم يشكك أحد في تنصيبه أميراً للمؤمنين. وكان واضحاً أن هذا الرجل المضحي المخلص ذا المرتبة العليا في الإيمان والتّقوى جدير بمثل هذه الخطوة من قبل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومن قبل الله تعالى في الواقع. لم يكن تنصيب الإمام علي عليه السلام تنصيباً نبوياً، بل تنصيباً إلهياً. كان هذا "شأن الله" الذي أبلغه الرسول للناس.
يوم دخل أمير المؤمنين عليه السلام المدينة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان شاباً في الثالثة والعشرين من عمره. وكان سلوكه في تلك السن نموذجاً للشاب الممتاز على امتداد تاريخ البشرية. نفس هذا الشاب أضحى نجم معركة بدر وبطلها. وتألق في معركة أحد إلى درجةٍ علم معها كل المسلمين عظمة ما قام به. كان هو أيضاً نفس الشاب الذي وقف إلى جانب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الامتحانات المختلفة، وفي غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الصمود بوجه ضغوط جبهة الكفر والاستكبار يومذاك. وهو الشاب الذي لم يرغب في الدنيا.
يوم نصبه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان شاباً، له في أعين المسلمين عظمة لا يمكن لأحد إنكارها. لم ينكرها أحد في ذلك الوقت، ولا في الأزمنة اللاحقة.
*قضيّة عامّة البشر
لم تكن حادثة الغدير مجرد تنصيب خليفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فللغدير جانبان: أحدهما يتعلق بتنصيب الخليفة، والجانب الثاني الإلفات إلى قضية الإمامة. الإمامة، بالمعنى الذي يفهمه كل المسلمين، هي قيادة الناس والمجتمع في أمور الدين والدنيا. هذه من القضايا الرئيسية على امتداد تاريخ الإنسانية الطويل.
وليست قضية الإمامة قضية خاصة بالمسلمين أو الشيعة. بل إن معناها أن يحكم فرد أو جماعة المجتمع، ويرسمون اتجاه مسيرته في أمور الدنيا والشؤون الروحية والمعنوية والأخروية. وبهذا اللحاظ هي عامة تشمل كافة المجتمعات البشرية.
*أئمّة يهدون
هذا الإمام يمكن أن يكون على حالتين:
1 - إمام يقول عنه الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 73).
هذه إمامة تهدي الناس بأمر الله وتأخذ بأيديهم لتجتاز بهم الأخطار والمهالك والمزالق والهاويات، وتوصلهم إلى الهدف المنشود من الحياة الدنيوية للإنسان، والتي خلق الله هذه الحياة للوصول إلى هذا الهدف. هذا شكل من أشكال الإمامة مصداقها الأنبياء الإلهيون عليهم السلام والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
جمع الإمام الباقر عليه السلام الناس في مِنى وقال: "إن رسول الله كان هو الإمام". الإمام الأول هو الرسول نفسه. الأنبياء الإلهيون وأوصياء الأنبياء والمصطَفَون من الناس هم من الفئة الأولى من الإئمة، ومهمتهم الهداية، حيث يهديهم الله تعالى وينقلون هذه الهداية إلى الناس: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾. أفعالهم أفعال حسنة.. ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾، والصلاة رمز ارتباط الإنسان واتصاله بالله.. ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾، وهم عبيد لله ككل البشر الذين هم عبيد لله، وعزتهم الدنيوية لا تنال إطلاقاً من عبوديتهم لله أو من مشاعر العبودية لله في قلوبهم وكيانهم.. هذه فئة.
*أئمّة يدعون إلى النار
2 - والفئة الأخرى ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ (القصص: 41)، وهو ما ورد في القرآن الكريم بخصوص فرعون. فرعون أيضاً إمام، بنفس المعنى الذي استخدمت فيه كلمة إمام في الآية الأولى استخدمت هنا أيضاً كلمة إمام. أي إن دنيا الناس ودينهم وآخرتهم - أجسام الناس وأرواحهم - في قبضة هؤلاء الأئمة، لكنهم ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾.. يدعونهم إلى الهلاك.
حتى أكثر حكومات العالم علمانية - وعلى الرغم مما تدعيه سواء علمت بذلك أم لم تعلم - تمسك في قبضتها بدنيا الناس وآخرتهم. هذه الأجهزة الثقافية الهائلة التي تأخذ أجيال الشباب اليوم في مختلف أصقاع العالم نحو سوء الأخلاق والفساد والضياع هم الأئمة الذين
﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾.. الأجهزة المقتدرة التي تأخذ الناس إلى النار من أجل مصالحها، ومن أجل سيادتها الظالمة، ومن أجل أن تصل إلى أهدافها السياسية المختلفة.
المجتمع إما أن يكون تحت إشراف وإدارة إمام عادل - منصّب من قبل الله وهادٍ إلى الخيرات والحق - أو في قبضة أناس غرباء عن الحق وغير عارفين به وفي حالات عديدة معاندين له، لأن الحق لا يتصالح مع مصالحهم الشخصية والمادية. إذاً، هي إحدى حالتين ولا تخرج الحال عنهما.
*السّلطة الإلهية
لقد أثبت الإسلام بتأسيسه نظام حكم في المدينة وتأسيس المجتمع المدني النبوي أن الإسلام ليس مجرد نصيحة وموعظة ودعوة لسانية. إنما يروم الإسلام لتحَقُّق الأحكام الإلهية في المجتمع، وهذا غير متاح من دون تأسيس سلطة إلهية. وبعد ذلك، عيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في نهاية عمره المبارك، بأمر من الله وبإلهام منه، الشخص الذي يليه.
طبعاً سار التاريخ الإسلامي في مسار آخر، لكن هذا هو ما أراده الرسول والإسلام. كانت هذه أطروحة بقيت في التاريخ. يجب أن لا نتصوّر أن فكرة الرسول قد فشلت، لا، لم تفشل، لكنها لم تتحقق في تلك البرهة الزمنية، وبقي هذا الخط المميّز في المجتمع الإسلامي والتاريخ الإسلامي. وتلاحظون نتائجه اليوم في هذا الجزء من العالم الإسلامي، وسوف يزداد هذا النموذج وهذا الخط الساطع انتشاراً في العالم الإسلامي يوماً بعد يوم بفضل من الله وحوله وقوته. هذا هو مضمون الغدير.
*خط الهداية سيتقدّم
إذاً، قضية الغدير ليست قضية الشيعة فقط إنما هي قضية المسلمين، بل قضية كل البشر. وهذا الخط النيّر خطّ لكل البشر. إذا كانت السلطة في المجتمعات البشرية بيد ذوي الصفات الشيطانية فسوف يسير العالم نحو المحطات التي تشاهدون اليوم مظاهرها في العالم الحديث. كلما ازداد العالم حداثة كلما ازداد خطر مثل هذه الحكومات. طبعاً كلما تطور العالم من الناحية العلمية والمعرفية أكثر كلما ازداد احتمال وإمكانية بروز خط الهداية. إننا لا نشعر بعرقلة خط الهداية بسبب تقدم العلم، لا، إنما هذا الخط سيتقدم.
* كلمة للإمام الخامنئي دام ظله ألقاها في حضور 110 آلاف تعبوي بمناسبة عيد الغدير.
1- الوافي، الفيض الكاشاني، ج3، ص923.