عيد الغدير السعيد يشكل جزءاً كبيراً من هوية شيعة الأئمة
عليهم السلام. الغدير من القضايا التي يساعد التفكير حولها اليوم مجتمعنا الإسلامي
على أن لا يضيّع طريق الحركة الصحيح. هنا أذكر نقطتين أو ثلاثاً حول قضية الغدير.
* النقطة الأولى حادثة الغدير
شهد العالم الإسلامي في زمن الرسول الأكرم، - وكان قد اتسع نسبياً -، أمراً على
جانب كبير جداً من الأهمية، ألا وهو إعلان خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام. ليس الشيعة فقط هم من رووا حادثة الغدير، فكثيراً ما روى محدّثو أهل
السّنة وكبار أهل السّنة أيضاً هذا الحدث، بَيْدَ أن فهمهم للمسألة كان مختلفاً في
بعض الأحيان. لكن أساس هذه الحادثة يعدّ من المسلّمات بين المسلمين. وقع هذا الحدث
وهو تعيين خليفة للرسول في الأشهر الأخيرة من عمره أي قبل نحو سبعين يوماً من وفاته.
والحقيقة، أن هذا الحدث يدل على أهمية قضية الحكومة والسياسة وولاية أمر الأمة
الإسلامية من وجهة نظر الإسلام. حينما يشدد إمامنا الجليل والكثير من كبار الفقهاء
قبله على قضية الوحدة بين الدين والسياسة وأهمية قضية الحكم في الدين، فلهذا جذوره
في تعاليم الإسلام، ومن ذلك درس الغدير الكبير، هذا دليل على أهمية الموضوع. كل
الذين يفهمون هذا المعنى من حادثة غدير خم – أي نحن الشيعة وحتى كثير من غير الشيعة
ممن شعروا أو فهموا هذا المعنى من حادثة الغدير –، عليهم التنبّه في جميع عصور
التاريخ الإسلامي إلى أن مسألة الحكومة مسألة أساسية ومهمة وفي المرتبة الأولى في
الإسلام. لا يمكن عدم الاكتراث لقضية الحكومة والسيادة، ودور الحكومات في هداية
الناس أو تضليلهم قضية تدل عليها التجربة البشرية. هذه نقطة يجب أن لا تغيب عن
البال.
* النقطة الثانية الخصائص التي عرف بها أمير المؤمنين
عليه السلام
النقطة الأخرى إلى جانب هذه القضية هي أن رسول الإسلام عيّن علي بن أبي طالب أمير
المؤمنين عليه الصلاة والسلام في واقعة الغدير. فما هي الخصائص التي عرف بها عليّ
في تلك الفترة من حياته وفي الفترات اللاحقة؟ أولى خصائص الإمام أمير المؤمنين هي
حبه والتزامه برضا الله والسير على الصراط المستقيم مهما كانت الصعاب ومهما تطلب
ذلك من جهد وجهاد. هذه هي أبرز سمات الإمام أمير المؤمنين. أمير المؤمنين إنسان لم
يتراجع للحظة واحدة وفي أية قضية حتى خطوة واحدة في سبيل الله ومن أجله، منذ أوان
طفولته وحتى لحظة استشهاده، لم يعتره التردد والشك، ونذر كل كيانه في سبيل الله.
بلّغ ودعا يوم كان عليه أن يبلّغ ويدعو، ويوم كان عليه أن يضرب بالسيف، ضرب بالسيف
بين يدي الرسول ولم يهب الموت. وصبر يوم كان عليه أن يصبر. ويوم كان عليه أن يمسك
بزمام السياسة أمسك بزمام السياسة وخاض غمار الساحة السياسية. وأبدى في كل هذه
العهود والفترات كل ما تقتضيه التضحية. مثل هذا الشخص يضعه الرسول الأكرم على رأس
المجتمع الإسلامي... هذا درس للأمة الإسلامية، وليس مجرد ذاكرة تاريخية وذكرى تعود
إلى القرون الماضية. في هذا دلالة على أن المعايير والملاكات لإدارة المجتمع
الإسلامي والمجتمعات الإسلامية والأمة الإسلامية هي هذه: العبودية لله، والجهاد
في سبيل رضا الله، وتقديم الروح والمال فداءً لذلك، وعدم التهرب من أية مصاعب أو
مشاكل، والإعراض عن الدنيا. هذه القمة هي أمير المؤمنين. المؤشر والمعيار هو أمير
المؤمنين. هذا هو درس الغدير الكبير.
لننظر إلى لعالم الإسلامي والحكومات الإسلامية، وعلى مستوى العالم والإدارات
السياسية في العالم ونرى كم هو البَوْنُ بين ما عرضه الإسلام على الإنسانية وبين ما
هو قائم اليوم على أرض الواقع. الخسائر التي تتحملها الإنسانية يعود شطر كبير منها
إلى هذه المسألة. يرى الإسلام أن سعادة الإنسانية تستدعي إدارة من نوع إدارة أمير
المؤمنين، وأمير المؤمنين في هذا المجال تلميذ الرسول وتابعه. الإمام علي نفسه
حينما جرى الحديث عن زهده قال "أين زهدي من زهد الرسول"؟! الإمام أمير المؤمنين
تلميذ رسول الله المميّز الكبير في الجهاد، وفي الصبر، وفي كل هذه الأمور. مثل هذا
الشخص هو الجدير، وعلينا جميعاً اعتباره نموذجاً وقدوة، لا لبلادنا وحسب، بل للعالم
الإسلامي برمته. مثل هذا الإنسان المتسامي الكبير غير الآبه للدنيا ولأموالها
وبهارجها، والمستعد للتضحية في سبيل الحق والحقيقة هو القادر على إنقاذ المجتمعات
البشرية الكبرى... شخص لا يستسلم للنزوات النفسانية ولا تجعله المصالح الشخصية
التافهة ينهزم أمام أحداث الحياة الكبرى. حين نقول مراراً إن رسالة الإسلام ورسالة
الجمهورية الإسلامية للعالم رسالة جديدة فهذا هو معنى قولنا. وهذا نموذج بارز لها.
لاحظوا مستوى حياة البشرية في العالم راهناً... طبعاً من الواضح أن الوصول إلى تلك
القمة ليس في مقدور أبناء البشر العاديين. ليس بوسع أحد الحياة والسلوك مثل الإمام
أمير المؤمنين... هذا طموح لا يتحقق. بيد أن القمة تكشف لنا عن الاتجاه، ينبغي
السير نحو تلك القمة والتشبه بها والاقتراب منها، هذه هي النقيصة والثغرة الكبرى
التي تعاني منها البشرية، إنها نقطة موجودة ومتوفرة في حادثة الغدير، هذه أيضاً
قضية ينبغي التنبه لها، رسالة الغدير للعالم رسالة نموذج الحكومة الإسلامية. إنسان
شديد وقاطع للغاية مع العدو ومع الحالات الانتهازية في سبيل الله، لكنه متواضع
وترابي وصبور مع المظلومين والضعفاء إلى درجة لا يصدق معها أحد أنه أمير المؤمنين.
في بداية دخول أمير المؤمنين إلى الكوفة حيث لم يكن الناس يعرفونه، كان سلوكه،
وثيابه، وأسلوبه بحيث لا يعلم أحد حينما يمشي الإمام في الأزقة والأسواق أن أمير
المؤمنين بكل تلك العظمة هو هذا الشخص الذي يمشي بنحو جد طبيعي وعادي. متواضع صبور
ترابي لهذه الدرجة مع الناس الضعفاء والعاديين. وحاسم، صامد كالجبل أمام الأعداء
الغادرين العتاة... هذه قدوة.
* النقطة الثالثة الوحدة وعدم التفرقة
أذكر نقطة أخرى حول الغدير، قضية الغدير بالنسبة لنا نحن الشيعة هي أساس العقيدة
الشيعية. نحن نعتقد أن الإمام علي بن أبي طالب هو إمام الحق للأمة الإسلامية بعد
الكيان المقدس لنبي الإسلام المكرم صلى الله عليه وآله.. هذا هو الأساس والرصيد
الرئيسي لعقيدة الشيعة. واضح أن إخوتنا السنة لا يوافقون هذه العقيدة، وينظرون
ويفكرون بنحو آخر. إلا أن قضية الغدير هذه تعد في جانب منها سبباً لاجتماع الأمة
الإسلامية، وهذا الجانب هو شخصية الإمام أمير المؤمنين. ليس ثمة اختلاف بين
المسلمين حول شخصية هذا الإنسان الكبير المتسامي وعظمته. الجميع ينظرون إلى أمير
المؤمنين بتلك المراتب السامقة السامية التي يجب النظر إليه فيها من حيث العلم،
والتقوى، والشجاعة. أي إن أمير المؤمنين هو ملتقى عقيدة جميع أبناء الأمة الإسلامية.
ما يلزم أن نتفطن له اليوم هو أن الشيعة حافظوا على هذه العقيدة طوال قرون متمادية
كمحافظتهم على أرواحهم العزيزة، رغم كل العداوات التي شنت – والجميع يعلمون تقريباً
بهذه العداوات، وكم مارسوا من الظلم والضغوط والقمع والإرهاب –، بيد أن الشيعة
حافظوا على هذه العقيدة وأشاعوا معارف التشيع، وعظماء الشيعة وكبراؤهم كانوا على مر
التاريخ الإسلامي عناصر متألقة ساطعة.
إذاً، هذه عقيدة حافظ وسيحافظ عليها الشيعة
وسيحافظون. ولكن، تنبهوا إلى أن هذه العقيدة يجب أن لا تكون سبب معارك ونزاعات هذا
هو ما قلناه وكررناه لسنوات ونعود ونكرره. الذين يرغبون في أن يميل كل الناس في
العالم الإسلامي إلى محبة أهل البيت وولايتهم، ليعلموا أنه ليس بالإمكان استقطاب أي
إنسان للتشيع ولولاية أهل البيت عبر شن المعارك والشجارات وتوجيه الإهانات وإعلان
العداوات. شن الشجارات ليس له من أثر سوى البغضاء والفصل والعداوة، وهذه البغضاء،
والعداء، والفصل هو ما تريده اليوم أمريكا ويسعى من أجله الصهاينة. للشيعة منطق قوي،
براهين متكلمي الشيعة وعلمائهم حول قضايا التشيع براهين فولاذية متينة، بيد أن هذا
لا صلة له بتوجيه الإساءات والإهانات وبث العدوان في العالم الشيعي ضد مخالفيهم،
ويحصل الشيء نفسه من الطرف المقابل وتتصاعد نيران العداء والشجار. اللهم، بمحمد وآل
محمد أيقظ قلوبنا، ولا تقصِّر أيدينا عن الاعتصام بأمير المؤمنين عليّ، تفضّل علينا
وعلى الأمة الإسلامية بصبره، وجهاده، وإخلاصه. ربنا أحينا بولاية أمير المؤمنين،
وأمتنا على ولاية أمير المؤمنين... أرضِ عنا القلب المقدس لإمامنا صاحب العصر
والزمان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* مقتطف من خطبة ألقيت في يوم الغدير الأغر بتاريخ 17/12/2008م.