السيّد الشهيد عبد الحسين دستغيب
النفاق من الأمراض القلبيّة التي حذّر سبحانه وتعالى منها لعواقبها الدنيويّة والأخرويّة. فما هو سبب النفاق؟ وما هي عواقبه؟ هو ما سيعرضه هذا المقال.
* الذنوب التي تورث النفاق
1. الرياء: هو من الذنوب التي تقضي على الإيمان، وتسبّب النفاق القلبيّ، ومن مات على غير الإيمان فلا نجاة له أبداً.
2. الفرح لمصاب سيّد الشهداء عليه السلام: ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في إخباره بشهادة الحسين عليه السلام: "وكأنّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأنّي أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا وقد أهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد. فوالله، ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلّا خالف الله بين قلبه ولسانه وعذّبه عذاباً أليماً"(1)؛ أي إنّ الإسلام سيكون على لسانه فقط، وقلبه غارق في ظلام الكفر.
3. البخل: والمقصود هنا البخل في أداء النفقات الواجبة كالزكاة وغيرها، كما يقول تعالى في سورة التوبة: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ (التوبة: 75–77)؛ وقوله تعالى: ﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ يعني أنّهم يموتون على النفاق.
* النفاق على الناس
النفاق على الناس يعني أن يكون الشخص ذا وجهين ولسانين؛ فهو في حضور شخص يمدحه ويثني عليه ويُظهر محبّته وحبّ الخير له، وفي غيابه يكون بخلاف ذلك، كأن يذمّه ويتصدّى لإيذائه والإضرار به.
أو أنّه عندما يكون ثمّة عداء بين شخصين، يُظهر لكلّ منهما أنّه معه ضدّ الآخر، ويحسّن له عداءه للآخر.
وهنا، ينبغي القول إنّه إذا كان، في مثل هذا المورد، يُظهر لكلّ منهما الصداقة دون أن يُظهر عداوته للآخر، ودون أن يوغر صدر أحدهما ضدّ الآخر، فليس ذلك نفاقاً. وكذلك إذا أظهر الصداقة لشخص سيّئ وشرير في حضوره حتّى يتخلّص من شرّه، فليس ذلك نفاقاً، بل هو من موارد التقيّة التي تصبح في بعض الموارد واجبة.
* التقيّة غير التملّق
إنّ التقيّة سلوك جائز فقط عند خطر الضرر من ذلك الشرير. أمّا ما يُرى من أكثر الناس من التملّق لأشخاص ضعفاً أمامهم أو طمعاً أو توهّماً لأمور لا حقيقة لها، ولذلك يتصدّون لمدحهم في حين لا يكون في قلبهم أيّ وجود حقيقيّ لهذه الكلمات، بل قد يكون ما في قلبهم عكس ذلك، ويسمّون هذا مداراة وحُسن تصرّف، فإنّه في الحقيقة نفاق قطعيّ وحرام.
* التلوّن رديف الشرك
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: مَن إذا ائتُمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف"(2).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثيب ويعاقب ولها يرضى ويسخط، أنّه لا ينفع عبداً -وإن أجهد نفسه وأخلص فعله- أن يخرج من الدنيا ملاقياً ربّه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك بالله في ما افترض عليه من عبادته، أو يشفي غيظه بهلاك نفس، أو يقرّ بأمرٍ فعلَه غيرُه، أو يستنجح حاجة إلى الناس بإظهار بدعة في دينه، أو يلقى الناس بوجهين، أو يمشي فيهم بلسانين"(3). ويقول الإمام الباقر عليه السلام: "بئس العبد عبدٌ هُمَزة لُمَزة يُقبِل بوجه ويُدبِر بآخر"(4).
وعن الإمام السجّاد عليه السلام: "الذنوب التي تردّ الدعاء: سوء النيّة وخبث السريرة، والنفاق مع الإخوان، وترك التصديق بالإجابة، وتأخير الصلوات المفروضات حتّى تذهب أوقاتها، وترك التقرّب إلى الله عزّ وجلّ بالبرّ والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في القول"(5).
* عذاب النفاق مرتبطٌ بمقداره
إنّ لكلّ من النفاق مع الله ومع الخلق مراتب ودرجات تتفاوت عقوبتها وحرمتها بتفاوتها:
1. أعلى مرتبة النفاق مع الله: هي إظهار الإيمان باللسان وإنكاره بالقلب، ومن مات وهذه حاله يخلّد في النار وعذابه أشدّ من عذاب الكفّار.
2. المرتبة الثانية: هي إظهار الإيمان واليقين باللسان في حين أنّه في الحقيقة شاكّ، ومن مات على ذلك فهو في جهنّم، إلّا أنّ عذابه ليس كعذاب المنكر.
3. المرتبة الثالثة: أن يكون إيمانه باللسان والقلب معاً، لكن في مقام عبادته لله يجعل له شريكاً ويرائي، وشخص كهذا إذا مات فلا يخلّد في النار، بل إنّ إيمانه يُنجيه في نهاية الأمر ويُدخله الجنّة، ولكن مدّة عذابه في البرزخ ومدّة بقائه في النار تتوقّفان على مقدار ريائه.
4. أقلّ مراتب النفاق مع الله في العبادة: أن يزيد خشوع البدن على خشوع القلب، وقد ورد في هذا المضمون رواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق"(6).
* العدل الإلهيّ
الرياء الذي يمارسه شخص إمّا أن يكون في الواجبات، أو في المستحبّات، أو في أصل العمل، أو في كيفيّته وخصوصيّته. مثلاً: أقام الصلاة لله ولكنّه في أثنائها أظهر الخشوع رياءً، أو صلّى الصلاة كلّها رياءً، ويمكن أن يكون مرائياً في جميع عمره أو في جانب منه. على كلّ حال، لا شكّ في أنّ العدل الإلهيّ يتدخّل، وكلّ شخص يعذَّب بمقدار ذنبه، فيعامله الله بفضله وينجيه بشفاعة محمّد وآل محمّد عليهم السلام.
والعذاب يقع فيما إذا مات المرائي ولم يتب، فإذا وُفّق للتوبة الصادقة وقضاء العبادات التي أدّاها رياءً، وأصلح ما أفسد من أمره، فإنّه ينجو من العذاب. ثمّ إنّ المرائي إذا كان مصرّاً على الرياء، فمن البعيد أن يموت على الإيمان، ذلك أنّ الذنوب التي تورث النفاق إنّما تورثه في حال الإصرار عليها.
(*) مقتبس من: القلب السليم، ج 1، ص 90 - 94.
1- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص248.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 291.
3- نهج البلاغة، ج 2، ص 43.
4- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص 269.
5- الشيخ الكليني، مصدر سابق، ج 2، ص 396.
6- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 16، ص 282.