الإمام الخميني قدس سره
اعلم أن الرياء في أصول العقائد والمعارف الإلهية أشد من جميع أنواع الرياء عذاباً وأسوأها عاقبة، وظلمته أعظم وأشد من ظلمات جميع أنواع الرياء. وصاحب هذا العمل إذا كان في واقعه لا يعتقد بالأمر الذي يظهره، فهو من المنافقين، أي أنه مخلَّد في النار، وأن هلاكه أبدي، وعذابه أشدّ العذاب.
وأما إذا كان معتقداً بما يظهر، لكنه يظهره من أجل الحصول على المنزلة والقربة في الناس، فهذا الشخص وإن لم يكن منافقاً إلا أن رياءه يؤدي إلى اضمحلال نور الإيمان في قلبه. فإن هذا الشخص يكون مشركاً، ولكن في الخفاء، لأن المعارف الإلهية والعقائد الحقة، التي يجب أن تكون خالصة لله، ولصاحب تلك الذات المقدسة، قد حوّلها - المرائي - إلى الناس، وأشرك فيها غيره، وجعل الشيطان متصرفاً فيه، هذا القلب ليس لله.
ولكن هذه الفجيعة الموبقة، وهذه السريرة المظلمة، وهذه الملكة الخبيثة، تؤدي بالإنسان في النهاية، إلى أن تصبح دار قلبه مختصة بغير الله، وتؤدي ظلمة هذه الرذيلة بالإنسان تدريجياً إلى الخروج من هذه الدنيا بدون إيمان.
وهذا الإيمان الخيالي الذي يمتلكه هو صورة بلا معنى، وجسد بلا روح، وقشر بلا لب، ولا يكون مقبولاً عند الله تعالى، كما أشير إليه في حديث مذكور في كتاب الكافي، عن علي بن سالم، قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال الله عزّ وجلّ: أنا خيرُ شريك، من أشرك معي غيري في عملٍ لمْ أقبلْه إلاّ ما كان لي خالصاً"1.
وبديهي أن الأعمال القلبية في حال عدم خلوصها لا تصبح مورداً لتوجه الحق تعالى ولا يتقبلها بل يوكلها إلى الشريك الآخر، الذي كان يعمل له ذلك الشخص مراءاة. إذاً فالأعمال القلبية تصبح مختصة بذلك الشخص، وتخرج من حد الشرك، وتدخل إلى الكفر المحض. بل ويمكن القول إنّ هذا الشخص هو من جملة المنافقين. وكما أن شركه خفي فنفاقه خفي أيضاً، فهذا المسكين يتصور أنه مؤمن ولكنه مشرك منذ البداية، وفي النتيجة هو منافق. وعليه أن يذوق عذاب المنافقين. وويل للذي ينتهي عمله إلى النفاق.
* العلم يغاير الإيمان
إعلم أن الإيمان غير العلم بالله ووحدانيته وسائر الصفات الكمالية الثبوتية والجلالية السلبية، والعلم بالملائكة والرسل والكتب ويوم القيامة. وما أكثر من يكون له هذا العلم ولكنه ليس بمؤمن. فالشيطان عالم بجميع هذه المراتب بقدر علمنا وعلمكم، ولكنه كافر، بل إن الإيمان عمل قلبي، وما لم يكن ذلك فليس هناك إ يمان فعلى الشخص الذي علم بشيءٍ عن طريق الدليل العقلي أو ضروريات الأديان، أن يسلّم لذلك قلبه أيضاً، وأن يؤدي العمل القلبي الذي هو نحو من التسليم والخضوع، ونوع من التقبل والاستسلام - عليه أن يؤدي ذلك - لكي يصبح مؤمناً.
وكمال الإيمان هو الاطمئنان، فإذا قوي نور الإيمان تبعه حصول الاطمئنان في القلب، وجميع هذه الأمور هي غير العلم. فمن الممكن أن يدرك العقل بالدليل شيئاً لكن القلب لم يسلّم بعد، فيكون العلم بلا فائدة. مثلاً أنتم أدركتم بعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضرّ أحداً، وأن جميع الأموات في العالم ليس لهم حس ولا حركة بقدر ذبابة، وأن جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته، ولكن ولأن القلب لم يتقبل هذا الأمر ولم يسلم أمره للعقل، فإنكم لا تقدرون على أن تبيتوا ليلة مظلمة واحدة مع ميت!!
وأما إذا سلّم القلب أمره للعقل، وتقبَّل هذا الحكم منه، فلن يكون في هذا العمل - أي المبيت مع الميت - أي إشكال بالنسبة إليكم، كما أنه وبعد عدة مرات من الإقدام، يصبح مسلماً، فلن يبقى عنده بعدها بأس أو خوف من الميت.
إذاً: أصبح معلوماً أن التسليم - وهو من حظ القلب - غير العلم وهو من حظ العقل. من الممكن أن يبرهن إنسان بالدليل العقلي، على وجود الخالق تعالى والتوحيد والمعاد والعقائد الحقة، ولكن هذه العقائد لا تسمى إيماناً، ولا تجعل الإنسان مؤمناً، بل ربما يكون من جملة الكفار أو المنافقين أو المشركين. فاليوم العيون مغشاة، والبصيرة الملكوتية غير موجودة، والعين الملكية لا تدرك، ولكن عند كشف السرائر، وظهور السلطة الإلهية الحقة، وخراب الطبيعة وانجلاء الحقيقة، سيعرف بأن الكثيرين لم يكونوا مؤمنين بالله حقاً، وأن حكم العقل لم يكن مرتبطاً بالإيمان، فما لم تكتب عبارة "لا إله إلا الله" بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الإنسان مؤمناً بوحدانية الله.
وعندما ترد هذه العبارة النورانية الإلهية على القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحق فلا يعرف الإنسان بعدها شخصاً آخر مؤثراً في مملكة الحق، ولا يتوقع من شخص آخر جاهاً ولا جلالاً، ولا يبحث عن المنزلة والشهرة عند الآخرين.
ولا يصبح القلب مرائياً ولا مخادعاً حينئذ. وإذا رأيتم رياء في قلوبكم، فاعلموا أن قلوبكم لم تسلم للعقل، وأن الإيمان لم يقذف نوره فيها، وأنكم تعدون شخصاً آخر إلهاً ومؤثراً في هذا العالم، لا الحق تعالى، وأنكم في زمرة المنافقين أو المشركين أو الكفار.
* وخامة أمر الرياء
تأمل أيها الشخص المرائي... يا من أودعت العقائد الحقة والمعارف الإلهية بيد عدو الله، وهو الشيطان، وأعطيت مختصات الحق تعالى للآخرين، وبدّلت تلك الأنوار التي تضيء الروح والقلب وهي رأسمال النجاة والسعادة الأبدية ومنبع اللقاء الإلهي وبذرة القرب من المحبوب، أبدلتها بظلمات موحشة وشقاء أبدي وجعلتها رأسمال البعد والابتعاد عن ساحة المبوب المقدسة، والابتعاد عن لقاء الله تعالى.
تهيأ، أيها المرائي، للظلمات التي لا نور بعدها، وللشدائد التي لا فرج لها، وللأمراض التي لا يرجى شفاؤها، وللموت الذي لا حياة معه، وللنار التي تخرج من باطن القلب فتحرق ملكوت النفس وملك البدن حرقاً لم يخطر على قلبي وقلبك، والتي يخبرنا عنها الله تعالى في كتابه المنزل في الآية الشريفة: ﴿نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة﴾2. فتحدثت الآية المباركة عن نار الله، هذه النار التي تتسلط على القلوب فتحرقها، وليست هناك نار تحرق القلب سوى النار الإلهية، فإذا فقدت فطرة التوحيد - وهي فطرة الله - وحلّ محلها الشرك والكفر، حينئذ لن تكون شفاعة الشافعين من نصيب الإنسان بل يخلد الإنسان في العذاب، وما أدراك ما العذاب؟ إنه العذاب الذي ينبعث عن الغضب الإلهي.
إذاً أيها العزيز... من أجل خيال باطل ومحبوبية بسيطة في أعين العباد الضعاف، ومن أجل جذب قلوب الناس المساكين، لا تعرض نفسك للغضب الإلهي، ولا تبع ذلك الحب الإلهي وتلك الكرامات غير المحدود، وتلك الألطاف والمراحم الربانية، لا تبعها بمحبة بسيطة عند مخلوق ليس له أي أثر، ولا تكسب منه أية ثمرة سوى الندامة والحسرة، عندما تقصر يداك عن هذا العالم - وهو عالم الكسب - وعندما يقطع عملك، وليس للندم حينئذ نتيجة ولا للإنابة من فائدة.
1 أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر - باب الرياء - ح9.
2 سورة الهمزة، الآيتان: 6 - 7.