الشيخ علي دعموش
اتفق المؤرخون على أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أصبح في مطلع شبابه مرموقاً في مجتمعه، لما كان يمتلكه في شخصيته من وعي وحكمة وإخلاص وبُعد نظر.
وقد اشتهر بسم الأخلاق، وكرم النفس، والصدق والأمانة حتى عرف بين قومه بالصادق الأمين، كما اشتهر برجاحة عقله، وصوابية رأيه حتى وجد فيه المكّيون والقرشيون سيداً من سادات العرب الموهوبين، ومرجعاً إليهم في المهمات وحل المشكلات والخصومات.
وقد برز ذلك في حادثتين تاريخيتين حصلا قبل البعثة وشارك فيهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشكل فاعل ومؤثر هما: حلف الفضول، وتجديد بناء الكعبة.
* حلف الفضول:
بعد سلسلة من حوادث الاعتداء على أموال وأعراض بعض الوافدين إلى مكة في موسم الحج للزيارة أو التجارة، دعا الزبير بن عبدالمطلب إلى إقامة تحالف بين قبائل قريش بهدف مواجهة كل من يعتدي على الآخرين، ووضع حد لغطرسة بعض المكّيين الذين كانوا يتعمدون الإساءة لغيرهم ويقومون بالاعتداء على الزائرين.
فاستجاب لدعوته بنو هاشم، وبنو عبد المطلب وبنو أسد وغيرهم وعقدوا اجتماعاً في دار عبد اللَّه بن جدعان تحالفوا فيه على محاربة الظلم والفساد والانتصار للمظلوم والدفاع عن الحق، وكان هذا التحالف أشرف تحالف يعقد في الجاهلية وقد سمي بحلف الفضول.
تبنى أبو طالب وغيره من القرشيين الحلف المذكور وقد حضره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشارك فيه. وكان يتجاوز العشرين من عمره الشريف. وأثنى عليه بعد نبوته وأمضاه، فقد رُوي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لقد حضرت في دار عبد اللَّه بن جدعان حلفاً ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إلى مثله لأجبت".
إن نظرة تحليلية بسيطة على هذا الحلف تقودنا إلى تسجيل الأمور التالية:
أولاً: إن ثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الحلف، ومشاركته فيه، وإمضاؤه له، يدل على أن هذا الحلف ينسجم في أهدافه مع أهداف الإسلام، لأنه قائم على أساس الحق والعدل والخير.
ثانيا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمتدح هذا الحلف ويثني عليه مع أن الذين قاموا به كانوا وقتها على الشرك والكفر. ولكنه يهدم مسجد الضرار مع أن الذين بنوه كانوا وقتها يتظاهرون بالإسلام ويتعاملون على أسسه بحسب الظاهر.
وهذا يؤكد واقعية الإسلام، وأنه إنما ينظر إلى مضمون العمل وقيمته وليس على شكله وصورته، فالإسلام لا يغتر بالمظاهر، ولا تخدعه الشعارات مهما كانت برّاقة إذا كانت تخفي وراءها الوصولية والخيانة والتآمر، فالحق حق، ومقبول، ولا بد من الالتزام له والتعامل على أساسه، ولو صدر من مشرك، والباطل باطل ومرفوض، ولا يجوز الالتزام به ولا التعامل معه مهما كانت شعاراته وعناوينه برّاقة ومغرية.
وثالثاً: إن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحلف الفضول إنما يدل على إن الإسلام ليس منغلقاً على نفسه، وإنما هو يستجيب لكل عمل إيجابي فيه خير الإنسان، ويشارك فيه على أعلى المستويات، انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية، وانسجاماً مع أهدافه الكبرى، ومع المقتضيات الفطرية والعقل السليم.
ورابعاً: إن موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الحلف ليس إلاّ من أجل تحريك المشاعر وإيقاظ الضمائر للتحالف والتكتل فيو جه الظلم والعدوان، والتعاون على الخير والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل عصر وزمان، وخاصة إذا انحرف الحاكم واتبع أهواءه واستغل أموال الناس وخيرات البلاد والعباد لمصالحه وأطماعه الذاتية.
* تجديد بناء الكعبة:
أول من بنى الكعبة المشرّفة النبي إبراهيم اللخيل عليه السلام بأمر من اللَّه لتكون مركزاً للتوحيد والعبادة، وذلك بعد أن هاجر إبراهيم بزوجته هاجر وولده إسماعيل إلى أرض مكة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك سميع الدعاء}.
ومن المعلوم أن بناء الكعبة تضمن حجراً أسوداً قيل: إن إبراهيم أخذه من جبل أبي قبيس في مكة ووضعه في مكانه، وقيل: إنه نزل به جبرائيل من الجنة.
وقد ظلت الكعبة، معبداً للعرب على مرِّ السنين يحجّون إليها ويتعاهدونها بالبناء والترميم كلما دعت الحاجة.
وقيل أنها تهدمت بعد أن مرت عليها القرون الطويلة، فأعاد العمالقة بناءها ثم تهدمت بعد ذلك، فبنتها جرهم وأصبحت في ولايتهم.
ويقول بعض المؤرخين: إن جرهم بغت واستحلّت المحارم فأبادها اللَّه، وانتقلت ولاية الكعبة من بعدها إلى خزاعة، ثم من بعدهم إلى قريش.
في أثناء ولاية قريش عليها وقبل النبوة بخمس سنوات أو أكثر تم هدمها وتجديد بنائها.
ويذكر اليعقوبي روايتين في سبب ذلك:
الأولى: إنها تصدعت من آثار السيول.
الثانية: إن امرأة كانت تبخرها فتطايرت شرارة إلى ثوب الكعبة، فاحترق واحترق بابها والأخشاب التي كانت بها.
أثر ذلك اجتمعت قريش وقررت هدمها وتجديد بنائها ورصدوا لذلك نفقة طيبة، ليس فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة مما أخذوه غصباً، أو قطعوا له رحماً، أو انتهكوا فيه حرمة وذمة.
ويقول المؤرخون: إن قريشاً وزعت الهدم والبناء على القبائل، فكان لكل قبيلة جهة معينة، وكان الوليد بن المغيرة أول من بادر إلى دمها بعد أن تهيب غيره فعل ذلك.
وهكذا بدأت كل قبيلة تجمع الحجارة وتبني الجهة المعنية لها حسب الخطة. ويقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شارك في جمع الحجارة.
ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يرفع الحجر إلى موضعه. وأصبحت كل قبيلة تريد هي أن تنال شرف رفعه إلى موضعه لأنهم كانوا يرون أن من يضع الحجر في مكان تكون له السيادة والزعامة.
وكاد الأمر يؤدي بهم إلى فتنة كبيرة حيث استعدوا للقتال، وانضم كل حليف إلى حليفه، حتى أن بعض القبائل تحالف على الموت وغمسوا أيديهم في الدم فسموا لعقة الدم.
لما وصلوا إلى هذا الحد الخطير اقترح عليهم أبو أمية بن المغيرة ـ والد أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يحكموا في هذا النزاع أول داخل عليهم، فكان محمد بن عبد اللَّه أول الوافدين. فلما رأوه استبشروا بقدومه وقالوا: لقد جاءكم الصادق الأمين أو هذا الأمين قد رضينا به حكماً.
ويذكر المؤرخون: أنهم كانوا يتحاكمون إلى النبي في الجاهلية، لأنه كان لا يداري ولا يماري.
فطلب منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضروا له ثوباً فأتوا له بثوب كبير فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده، ثم التفت إلى شيوخهم وقال: "لتأخذ كل قبيلة بطرف من الثوب ثم ارفعوه جميعاً" فاستحسنوا ذلك ووجدوا فيه حلاً يحفظ حقوق الجميع، ولا يعطي لأحد امتيازاً على الآخرين ففعلوا ما أمرهم به، فلما أسبح الحجر بمحاذاة الموضع المخصص له، أخذه رسول اللَّه بيده الكريمة ووضعه مكانه.
* ملاحظات مهمّة:
الأولى: إن اشتراط قريش أن تكون نفقة الكعبة طيبة لا ربا ولا غصب فيها ولا مظلمة لأحد... إن دل على شيء فإنما يدل على شعور حقيقي بقبح هذه الأمور وعدم رضا اللَّه والوجدان بها، وقد يفسر ذلك أيضاً باقتضاء الفطرة لذلك، وحكم العقل بقبحه.
الثانية: إن ما تقدم يدل على أن أهل مكة كانوا يتعاملون بالمنطق القبلي حتى في تعاونهم على بناء البيت وحمل الحجارة له، وهو أقدس مقدساتهم ورمز عزهم ومجدهم وكرامتهم، بل وعليه تقوم حياتهم، وإن تحالف لعقة الدم حينما اختلفوا فيمن يرفع الحجر الأسود إلى موضعه، يعتبر الذروة في هذا المنطق الجاهلي الذي يأباه الوعي الإسناني وتنبو عنه الفطرة، ويرفضه العقل السليم.
الثالثة: إن فرح قريش حينما رأوا النبي أول داخل عليهم، ثم وصفهم له بأنه "الصادق الأمين" يكشف عن المكانة الاجتماعية الخاصة التي كان يحتلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفوس الناس في مكة، وإن تحكيمه في هذا النزاع الخطير يكشف عن مدى ثقتهم به، وبعقله ووعيه، وإخلاصه وحكمته.