الشيخ محمود كرنيب
إنّ قيام كيان بني إسرائيل "كدولة"، مع التحفّظ على العبارة، مبنيٌّ على أساسيّات لها علاقة بالتاريخ، ترى أنّ هذه الأرض المقدّسة أرضهم، وهم الأحقّ بها، وأنّ الله وعدهم بإقامة كيانهم وبسط سلطانهم، في المنطقة الممتدّة ما بين الفرات والنيل، بانتظار مسيحهم المدّعى.
فهل ثمّة وعدٌ إلهي لبني إسرائيل بذلك حقّاً؟ وهل اليهود هم أوّل من استوطن الأرض المقدّسة؟
* لمن الوعد؟
في الحقيقة، إنّ الوعد ذاك لم يكن لبني إسرائيل، بل كان لإبراهيم عليه السلام، وهذا ما نقله سماحة الشيخ حاتم إسماعيل رحمه الله في كتابه (وعد التوراة لمن؟): "في ذلك اليوم، قطع الربّ مع أبرام [النبي إبراهيم عليه السلام] ميثاقاً، قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات"(1).
ثمّ في مكانٍ آخر، ليجزم أنّ الوعد ليس لبني إسرائيل، حيث يقول: "إنّ الوعد الإلهيّ لإبراهيم عليه السلام كان مشروطاً بتقوى الله تعالى، وحفظ وصاياه والتزام أحكامه، وهو ما حصل من أبنائه كافّة ما عدا بني إسرائيل..."(2).
ثمّ ينقل بعدها عن سفر اللّاويين ما نصّه: "فتحفظون جميع فرائضي وجميع أحكامي، وتعملونها، وتصلونها لكي لا تقذفكم الأرض، التي أنا آتٍ بكم إليها؛ لتسكنوا فيها. ولا تسلكون في رسوم الشعوب، الذين أنا طاردهم من أمامكم؛ لأنّهم قد فعلوا كلّ هذه، فكرهتهم"(3).
وعليه، فإنّ هذا مصداق ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)؛ فالوعد الإلهيّ هو لإبراهيم عليه السلام وذريّته، التي هي أعمّ وأشمل من بني إسرائيل وبني إسماعيل، ثمّ إنّ هذا الوعد مشروطٌ بالتقوى والصلاح والاستقامة، وهو ينافي العلوّ والاضطهاد والظلم والفساد.
* أوّل من استوطن الأرض
يُطرح سؤالٌ: هل بنو إسرائيل هم أوّل من استوطن الأرض المقدّسة؟ يقول الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ* قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ (المائدة: 21-22).
وهذا نصٌّ صريحٌ على أنّ بني إسرائيل ليسوا أوّل من استوطن فلسطين، بل هم طارئون عليها، وقد وصف القرآن سكّانها الأصليّين بالقوم الجبّارين، وهم الكنعانيّون(4) على ما يظهر من بعض الكتب.
* سورة الإسراء والوعد
تطرح سورة الإسراء في عددٍ من آياتها بعض القضايا المرتبطة ببني إسرائيل، والتي يستفاد منها ما يأتي:
1- إنّ الإخبار القرآنيّ الغيبيّ عن مستقبل بني إسرائيل وسلوكهم وسيرورتهم في الدنيا، والسنّة الإلهيّة فيهم من الأمر المحتوم، لقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ (الإسراء: 4).
وقال الراغب الأصفهانيّ في مفرداته: "القضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً"(5).
2- ولو اختلفت الأقوال حول حصول الوعدَين أو أحدهما أو عدم حصول أيّ منهما، فهذا لا يلغي التأكيد على السنّة التاريخيّة الإلهيّة فيهم لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ (الإسراء: 8).
3- تشير هذه السورة أيضاً إلى الوعد والوعيد، وهو ما يظهر في الآية: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ (الإسراء: 7)؛ هنا، تأكيد على أنّ شرط نجاح إقامة كيانهم وديمومته؛ هو الصلاح والتُّقى، لا الإفساد والطغيان.
4- كما تؤكّد السورة ذاتها على عدم إحسانهم في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾ (الإسراء: 7)؛ فالله تعالى أعطاهم فرصةً لتصحيح سيرتهم وسلوكهم، إلّا أنّهم لن يغتنموها، وهنا، يتحوّل الوعد إلى وعيد: ﴿وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾، وهو خراب بنيانهم المتعالي المستكبر، وذلك قرارٌ حاسمٌ ودائم؛ حيث إنّهم كلّما عادوا للفساد، عاد الوعيد الإلهيّ ببعث من سمّاهم بأولي بأس شديد.
5- إنّ البنيان الذي يشيّده بنو إسرائيل، فيما لو تمكّنوا من السيطرة على الأرض المقدّسة، بنيانٌ عنصريّ مبنيّ على التعصّب القوميّ، وقد استُخدمت عبارة "بني إسرائيل" لا عبارة "اليهود" للإشارة إليهم؛ لأنّ مدار اجتماعهم هو عرقهم، لا شيء آخر.
* مصير كيانهم.. التتبير
وهكذا، فإنّ السنّة الإلهيّة تقتضي أن لا يستقرّ لبني إسرائيل كيانٌ في الأرض المقدّسة، أي فلسطين، فضلاً عن أنّ كلّ كيان يبنونه سيكون كياناً مؤقّتاً مآله التتبير والخراب؛ فلا مستقبل له لعلّةٍ في أفراده، وهي اختيارهم العلوّ والإفساد بملء إرادتهم، وقد قال المولى عزّ وجلّ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الإسراء: 4)؛ أي أعلمهم إعلاماً جزماً، ولم يقل: "وقضينا على بني إسرائيل"؛ أي إنّ ما يصدر عنهم من ممارسات في مستقبل الزمان، هو بسبب سوء اختيارهم. في المقابل، إنّ إخبار الآيات الكريمة بالسنّة الإلهيّة التي تقتضي إرسال قوم أولي بأس شديد، لا تعني الوقوف والجمود ركوناً أنّه سيبعث قوماً عليهم، بل ترتّب علينا التحلّي بالصفات، التي تؤهّلنا لنكون في جملة المتبّرين للعلوّ والفساد الإسرائيليّين، ومنها:
1- الإخلاص: أي أن نكون عباداً مخلصين له تعالى في العبوديّة، إذ قيل في معنى قوله ﴿عِبَادًا لَّنَا﴾: "أمرنا قوماً مؤمنين بقتالكم وجهادكم؛ لأنّ ظاهر قوله تعالى: ﴿عِبَادًا لَّنَا﴾ (الإسراء: 5)، وقوله: ﴿بَعَثْنَا﴾ (الإسراء: 5) يقتضي ذلك"(6).
ولعلّ هذا ما أراد التعبير عنه سماحة الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله) حيث قال: "إنّ شرف القدس يأبى أن يتحرّر، إلّا على أيدي المؤمنين"(7).
2- البأس الشديد: الصفة الثانية هي البأس الشديد، وهي تشير أوّلاً، إلى طبيعة ما تقتضيه إزالة الكيان وتتبير العلوّ، ربّما بسبب ما يتمتّع به من قوّة وتأييد وعدّة وعتاد. وثانياً، وهو الأهم، أنّه لا بدّ من إعداد من يفترض بهم تحمّل هذه المسؤوليّة، وهم من ذوي بأسٍ شديدٍ ومراس قتاليّ.
* وأيّ شرف!
وأخيراً، لا يخفى على أحد ما في قوله تعالى: ﴿عِبَادًا لَّنَا﴾ (الإسراء: 5) من ثناء على هؤلاء الذين يتصدّون لهذه المهمّة. وهو حثٌّ بطريقة الترغيب من خلال نسبتهم إليه تعالى؛ ليكون ذلك شرفاً لهم، وأيّ شرف هو هذا!
1- سفر التكوين: 15-18. نقلاً عن: حاتم إسماعيل، ص 111 و112.
2- (م. ن.)، ص 118.
3- سفر اللاويين: 23-24. نقلاً عن: (م. ن.)، ص 122.
4- الكنعانيون: هم كنعان، الأرض التي كانت تضمّ: أجزاءً من فلسطين، لبنان، سوريا والأردن.
5- مفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهانيّ، ص 406.
6- مجمع البيان، الطبرسي، ج 5 و6. وهذا رأي الجبّائي.
7- من كلمة لسماحته ألقاها في مهرجان تكريم شهيد أمل، في الأونيسكو 23 –أيار- 1976م.