مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الفتنة في نهج البلاغة


الشيخ خليل رزق


كلمةٌ من أربعة أحرف، بسيطة ووقعها خفيف، تتردّد كثيراً على أسماعنا، سواء في القضايا السياسيّة، أو الاجتماعيّة، أو الدينيّة، وقد نخالها أمراً عابراً، في حين أنّ آثارها وعواقبها في الواقع جسيمة جدّاً!

إنّها "الفتنة"، من أكثر الظواهر الاجتماعيّة غموضاً والتباساً، ولحُسن النجاة منها، نقرأ في نهج البلاغة كيف ميّزها الإمام عليّ عليه السلام، وحدّد ملامحها، وسبل التعامل معها.

•الفتنة بين السلب والإيجاب
بنظرةٍ إجماليّة في القرآن الكريم، نرى أنّه استعمل كلمة "الفتنة" في موارد متعدّدة، وكلّها تعود إلى معنيَين أساسيَّين:

الأوّل: إيجابيّ.

الثاني: سلبيّ.

فعلى مستوى النظرة الإيجابيّة، عَدَّ القرآن الكريم الفتنة نوعاً من الاختبار الإلهيّ للناس: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2)، وقوله تعالى لموسى عليه السلام: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ (طه: 40)، ولعلّ هذا هو المعنى الأساس للفتنة.

وأمّا في الاتّجاه السلبيّ، فكذلك استعملها القرآن في موارد متعدّدة، ومن أهمّها: الشرك: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾ (البقرة: 193)، وأيضاً الإضلال: ﴿وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ (المائدة: 41)، وأيضاً الكفر، وفتنة العذاب، وفتنة المال والولد.

ولا شكّ أنّ لالتباس المفهوم، مخاطر ونتائج غير محمودة، وإذا ما تجاوزنا المعنى الإيجابيّ، فإنّنا بحاجة ماسّة إلى الوقوف على الأمور التي تتعلّق بالمعنى السلبيّ. لكن نعرّج في البداية على خصوصيّة زمن أمير المؤمنين عليه السلام، حيث تحدّث عليه السلام عن الفتنة وأشكالها نتيجة تلك الظروف.

•خصوصية حروب أمير المؤمنين عليه السلام
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "في عصر أمير المؤمنين عليه السلام، عندما كان جيشه عليه السلام وخصمه يلتقيان، كان كلٌّ منهما يؤدّي الصلاة. وإذا حلّ شهر رمضان، يصومون جميعهم. وكانت أصداء تلاوة القرآن الكريم تُسمع من المعسكرَين. كان المسلمون في الجانبين عندما يتواجهون، لا يشعرون بالوضوح والصراحة وراحة البال التي وُجدت وسادت في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. لهذا، كانت الأسئلة والشبهات والتردّد والحيرة، تبرز من حين إلى آخر في معركة صفّين. وكان كثيرٌ من الناس حائراً أو مشوّشاً. ولقد كانت الشعارات المشتركة تملأ الأجواء، إلى الدرجة التي جعلت أمير المؤمنين عليه السلام يكرّر مراراً: "لا يحمل هذا العَلَمَ، إلا أهلُ البصرِ والصبر"(1)؛ فالمقاومة لا تكفي وحدها، بل يلزم الوعي والذكاء وحدّة البصر. هذه هي خصوصيّة عصر أمير المؤمنين عليه السلام، وآلام هذا الأمير وأوجاعه عليه السلام"(2). ومن خلال هذا الباب، نحتاج إلى توضيح مجموعة نقاط حول الفتنة:

•أوّلاً: إدراك الفتنة وكشفها
كان الإمام عليّ عليه السلام الرائد والحاذق والدقيق في بيان معنى الفتنة؛ فكان أن نبّه عليه السلام إلى ضرورة الاستعاذة منها بقوله: "لا يقولنّ أحدكم: اللهم إنّي أعوذ بك من الفتنة... ولكن من استعاذ، فليستعذ من مضلّات الفتن، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ (الأنفال: 28)".

إذاً، الخطوة الأولى التي وضعها الإمام عليه السلام على الطريق الصحيح؛ هي ضرورة امتلاك الوعي والفهم لحقيقة الفتنة السلبيّة، والتي ينتج عنها المضلّات من الفتن. لذلك، يلزم كشفها، وعندها يلزم تكوين وعي صحيح.

•ثانياً: كيف تؤدّي الفتنة إلى الضلال؟
تعدّ مضلّات الفتن من الأسباب التي تضع الإنسان على حافّة الهاوية، معرّضاً لخطر السقوط في الفتنة. وخلف هذه الأسباب ثمّة عوامل كثيرة هي المنشأ لحدوث هذه الكوارث على الإنسانيّة. ووفقاً لما يقوله سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله، فإنّ الفتنة كالغبار الذي يتحرّك الناس في فضائه بعيون مغلقة، تجعلهم لا يعرفون بعضهم بعضاً، فيرفع الأخوة سيوفهم بعضهم على بعض، وينزلون ذبحاً وتقتيلاً ببعضهم بعضاً!

وفي تاريخ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وقعت في جسد الأمّة الإسلاميّة فتن كبرى، كانت سبباً أساسيّاً في الابتعاد عن جوهر الدين والرسالة، وأنهكت المسلمين، وكادت أن تضيع بسببها كلّ جهود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولا حكمة الإمام عليه السلام ووعيه وصبره ونفاذ بصيرته، حيث استطاع أن يتجاوز كلّ المؤامرات، ويضحّي بحقّه الإلهيّ في سبيل بقاء الدين.

فعندما تذهب إلى الحرب والجهاد في سبيل الله مثلاً، وتقدّم نفسك لتكون في ركب الشهداء، فهذا لا يعني أنّك ذهبتَ إلى الفتنة. نعم، عندما تفقد بصيرتك ووعيك، وتذهب في مسارب الضياع والانحراف، فحينها تكون قد وقعَت تحت أنياب الفتنة.

•ثالثاً: ملامح الفتنة وتطوّرها 
ثمّة جهات كثيرة فاعلة ومحرّكة وباعثة تقف وراء حدوث الفتن في المجتمعات. ونظراً لخطط هذه الجهات الشيطانيّة، ومنعاً من اكتشاف أمرها وافتضاحها أمام الناس، تعمد إلى طرق وأساليب تتدرّج من خلالها إلى إطلاق الفتنة بحجم صغير، لتأخذ الأخيرة بعد ذلك مداها وتنتشر بين أفراد المجتمع، ثمّ الأمّة جمعاء. 

وهذا ما يلفت النظر إليه الإمام عليه السلام حيث يقول: "تبدأ في مدارج خفيّة، وتؤول إلى فظاعة جليّة"(3).

ويقول أيضاً عليه السلام: "إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتّبع وأحكام تُبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولّى عليها رجال رجالاً على غير دين الله"(4). الفتن إذاً:

1- تبدأ ضعيفة ثمّ تكبر: فالفتنة تبدأ ضعيفة ثمّ تتفاقم، فتكبر ويشتدّ خطرها، وتتعاظم حتّى تنتشر في جميع الأرجاء، فتحدث الكوارث والأزمات والبلاءات بعدها!

2- اتّباع الأهواء: إنّ وقود الفتنة يكون غالباً اتّباع الأهواء، أو ابتداعاً في دين الله، وتنطوي في حقيقتها على مخالفة الدين.

3- ظاهرها سلس وباطنها خطر: نستذكر حادثة الخوارج عندما قالوا: لا حكم إلّا لله، وقول أمير المؤمنين عليه السلام منبّهاً الجيش: "كلمة حقٍّ يُراد بها باطل"(5).

•أسلوب المعالجة
نستقي من أسلوب الإمام عليّ عليه السلام طريقتين في مواجهة الفتن:

الأولى: التي عمد من خلالها إلى المواجهة والمعالجة عن طريق المحافظة على وحدة المجتمع الإسلاميّ، كمدخل للحفاظ على الدين وصيانة الدعوة الإسلاميّة التي كانت في مهدها. وهذا ما حصل عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ وقفت الفتنة العظمى في التاريخ الإسلاميّ، والأولى من نوعها، حيث انقلبت الأمّة على وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وسلبت أمير المؤمنين عليه السلام حقّه في الخلافة. يقول عليه السلام عن تلك الفتنة: "أيّها الناس، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا عن تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة يغصُّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها"(6). يبيّن عليه السلام أنّ المفلح أحد رجلين؛ إمّا ناهض للأمر بجناح؛ أي بناصر ومعين يصل بمعونته إلى ما نهض إليه، وإمّا مستسلم يريح الناس من المنازعة بلا طائل؛ وذلك عند عدم الناصر، والآجن: المتغيّر الطعم واللون فلا يُستساغ، والإشارة إلى الخلافة، أي إنَّ الإمرة على الناس ممّا لا يهنأ صاحبها، ولا تحمد عواقبها، كاللقمة يغصّ بها آكلها فيموت بها. ويشير إلى أنّ ذلك لم يكن الوقت الذي يسوغ فيه طلب الأمر، فلو نهض إليه كان كمجتني الثمرة قبل نضجها. 

الثانية: كانت على العكس من الأولى، وفي كليهما كان للإمام عليّ عليه السلام موقف يتّسم بالحكمة والشجاعة، ولكنّه هنا أبى السكون، ورفض الانصياع إلى دعوات أهل الباطل. وبعد أن قام عليه السلام بالإنذار والوعظ والإرشاد وتقديم النصيحة، رفع السيف في وجه مُحْدثي الفتن في الجمل وصفّين والنهروان، فقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وتعامل مع رؤوس الفتنة بالحزم والشدّة. يقول عليه السلام: "ألا وإنّ الشيطان قد جمع (حزبه)، واستجلب خيله ورجله. وإنّ معي لبصيرتي، ما لبست عليّ نفسي، ولا لبس عليّ. وأيم الله، لا أفرطنّ لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه ولا يعودون إليه"(7)؛ أفرطه؛ أي: املأه حتى فاض. والماتح: من متح الماء نزعه؛ أي أنا نازع ماء حوض البلاء والفناء لأسقيهم منه، وسيردُون الحرب ولا يصدرون عنها، ومن نجا منهم فلن يعود إليها. وهنا، يجعل أمير المؤمنين عليه السلام ركيزة عمله: "إنّ معي لبصيرتي".

•الفتن عبر التاريخ
من الواضح والجليّ أنّ الحديث عن الفتنة واستحضار الماضي، ليس لمجرّد العرض والاستعراض، وإلّا لكان لغواً وعبثاً لا ينتفع منه الإنسان بأيّ شيء، بل الهدف هو القول إنّ ما حصل في الماضي، سوف يتكرّر، ولكن بوجوه وأشكال جديدة ومتغيّرة؛ أي إنَّ الفتن الحاليّة هي نموذج للماضي.

فالناكثون والقاسطون والمارقون، هي توصيفات يحمل مضمونها الكثيرون. والعابثون، والمنافقون، وأصحاب البدع والضلالة، والعاملون على حصول الفتن، لا بدّ وأن يظهروا في كلّ فترة من التاريخ، ليمارسوا هذه الرذائل والقبائح بطريقة تتناسب مع العصر الذي يعيشون فيه. 

•لمواجهة الفتن
لهذا، يحتاج الإنسان المؤمن الرساليّ أن يحمل الوعي، ويمتلك البصيرة النافذة، التي تجعله قادراً على مواجهة الفتن، التي تمارس ضدّ أهل الحقّ عبر خدع وأساليب شيطانيّة متعدّدة. وفي حاضرنا وواقعنا تتجسّد الكثير من هذه الفتن، وتظهر بأشكال مختلفة، لتصرف الناس عن الحقيقة، من خلال وسائل إعلاميّة شيطانيّة مدعومة من دول استعماريّة كبرى، تحاول ممارسة أكبر عمليّة تشويه بحقّ المجاهدين، في حين أنّهم ضحّوا وبذلوا دماءهم في سبيل عزّة الإنسان وكرامته.

ليس هذا غريباً؛ فقد استطاع أسلافهم زرع الشكّ في مولى المتقين عندما استغربوا شهادته في محرابه في بيت الله، وهو رمز التقوى والعبادة. 

1.نهج البلاغة، الخطبة: 173.
2.يراجع: العودة إلى نهج البلاغة، السيد الخامنئي دام ظله، ص40.
3.نهج البلاغة، الخطبة: 151.
4.(م. ن.)، الخطبة: 50.
5.(م. ن.)، الخطبة: 40.
6.(م، ن)، الخطبة: 5.
7.(م، ن)، الخطبة: 10. 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع