مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

العــلاقـات الاجتماعيّة علــى محـــكّ الفتــن

السيّد حسن شكر


المجتمعات الإنسانيّة مهددّة بالأخطار بشكلٍ دائم، والتهديد يكون إمّا من الداخل، وإمّا من الخارج.

فالأخطار الخارجيّة التي يباشر بها العدوّ بنفسه، لها سُبل خاصّة بالمواجهة، ولكنّ الخطر الداخليّ والتفتّت المخطّط له لوحدة أيّ مجتمع، يُعدّ الخدمة المجانيّة الأهمّ التي تقدَّم لأيّ عدوّ متربّص بالأمّة. فالفتنة توفّر عليه المال، والجهد، والخسائر، وتقلّص إنفاقه إلى أدنى درجة.

•الفتنة مرفوضة بشكلٍ مطلق
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (البقرة: 191). والآية الكريمة هي التعبير الأوضح والأجلى الذي لا تعتريه أيّ شبهة في فهمه، فهي آية محكمة لم تؤوّل، أو تخصّص، أو تقيّد بزمان أو أشخاص أو ظروف محدّدة.

أمّا الروايات الشريفة الواردة عن المعصومين عليهم السلام، والتي تحدّثت عن الفتنة، فهي كثيرة، نشير إلى عدد منها:

عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "فتنة اللّسان أشدّ من ضرب السيف"(1).

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "يعذّب الله اللّسان بعذاب لا يعذّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربّ، عذّبتني بعذاب لم تعذّب به شيئاً! فيُقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام، وانتُهب بها المال الحرام، وانتُهك بها الفرج الحرام"(2).

من الواضح أنّ الفتنة رُبطت بشكلٍ خاصّ بدور اللّسان الخطير، الذي يعدّ الوسيلة التي تنتقل من خلالها، بغضّ النظر عن التسميات التي تُطلق عليها، والتي ربّما تختلف فيما بينها، إلّا أنّ الجامع المشترك لكلّ ما يصدر عن اللّسان، ويؤثّر في السلوك البشريّ تفريقاً وتشتيتاً، هو الفتنة.

نختم هذا المقطع بكلام عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ الشَّيطانَ يُسَنّي لَكُم طُرُقَهُ، ويُريدُ أنْ يَحُلَّ دِينَكُم عُقْدةً عُقْدةً، ويُعْطيَكُم بالجَماعةِ الفُرقَةَ، وبالفُرقَةِ الفِتْنَةَ، فاصْدِفوا عن نَزَغاتِهِ ونَفَثاتِهِ"(3). 

•من مصاديق الفتنة
أ- الغيبة والبهتان: يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحجرات: 12)، ويقول أيضاً: ﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (النساء: 112)، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النور: 11).

هي ثلاث آيات ترسم الحدود الشرعيّة لزلّات اللّسان الأكثر شيوعاً، والتي تعدّ المنشأ لأغلب الفتن التي تشيع بين الناس. فالغيبة، وهي ذكر عيب مستور بظهر الغيب، والبهتان، وهو أن تذكر عيباً لآخر بريء، بكذب وافتراء، والإفك؛ وهو الكذب الصراح العظيم في أعراض الناس وشؤونهم، والذي تُقلب فيه الأمور عن وجهها(4)؛ كلّ ذلك هو السلوك العمليّ المدمّر لنسيج الأمان الاجتماعيّ لأيّ أمّة، مهما كان الدين الذي انتمت إليه، ومهما كانت الشريعة التي آمنت بها، فشأن هذه السلوكات أن تذيب الثقة بين أفراد الأمّة، وتزرع كوامن الأحقاد وبواعث الانتقام بينهم؛ فيؤدّي ذلك إلى تشتّت الجهود وضياع القوّة التي تتشكّل من خلال المحبّة والتراحم والتعاضد.

ب- النميمة ونقل الكلام وتتبع العثرات: واحدة من أبرز أسباب الفتنة فيما بين الناس بشكل عام، بين أفراد العائلة الواحدة، بين الأصدقاء، بين الجيران، بين زملاء العمل أو الدراسة، هي نقل الكلام ولو كان يظهر أنّه من مألوف الكلام، ومن الواقع، لكنه من النميمة، التي تحوّل حياة الآخرين إلى مادة لتداول الأحاديث، وملء الوقت بالتسلية في ما يجري في حياتهم، الأمر الذي يدفع إلى أخلاقيات اجتماعيّة أسوأ، وعلاقات اجتماعية ضعيفة، بل مشوّهة إذا صحّ التعبير؛ فمن باب التسلية تصبح عثرات الآخرين مادة للاهتمام والمراقبة، ثم تتطور الأمور ليصاب الإنسان بخصلة التجسّس على غيره، وتتحوّل النميمة إلى خلق مبتذل عند صاحبها، ليصبح منبوذاً في وسطه، يُخشى من سوء حكمته، وعدم ستره على الآخرين، وهي من شرار صفات المسلم، أن لا يأمن الناس شرّ لسانه. في الوقت الذي يحثّ الدين الحنيف على ستر خصوصيات الناس، بل وستر معاصيهم، للحرص على شياع الألفة والمحبّة في المجتمع، لا الفتنة والنزاع والخصام والحقد.. الأمور التي تتولد عندما يرى الناس أنّهم مادة تسلية للآخرين، وقد يبادلونهم السلوك نفسه.

ج- الاستهزاء والتنمّر: عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يطمعنّ المستهزئ بالناس في صدق المودّة"(5). الاستهزاء والتنمّر خصلتان لا تنتميان إلى منظومة النبل والقيم الكريمة والأخلاق الرفيعة، وهما تعدّان من المشاكل القديمة الجديدة المعاصرة، حيث تمتلئ بهما بعض النوادي الثقافيّة والمجامع التربويّة، فتسود أجواء من السخرية والتنمّر على الآخرين. ولا يتّسع المجال هنا لتبيان آثارهما الواضحة على المجتمعات البشريّة عامّة، فضلاً عن المجتمع الإيمانيّ الإلهيّ الذي من المفترض أن يحمل في نفوس أفراده أندى الصفات التي تتوافق مع الفطرة النقيّة.

فالساخر بالناس والمتنمّر على الضعفاء، يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى رمز من رموز التفلّت من القيم، بالتالي، ينقم المجتمع عليه. فلو كثر عدد هؤلاء، لشكّلوا فريقاً مقابل الفريق الذي يريد الحفاظ على الانسجام العام. ونختم الكلام في هذه النقطة بالكلام الفصل لربّ العالمين حيث يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الحجرات: 11).

•خبر الفاسقين: فتنة
حينما نتأمّل حال المجتمعات البشريّة بشكلٍ عامّ، فإنّنا نصل إلى قناعة واضحة ويقينيّة أنَّ أكثر الصراعات الاجتماعيّة التي تعصف بالمؤمنين، منشؤها "الفاسقون"، الذين لا تروق لهم وحدة المؤمنين، فيثيرون الفتنة بينهم.

والمقصود بالفاسقين الأشخاص الذين لا يتحلّون بقيمة الصدق، فلا يؤمَن الخبر منهم، وهو التفسير المستفاد من قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6). فقد فسّر بعض المفسّرين معنى كلمة "الفاسق" في هذه الآية، بمن لا يؤمَن منه الصدق في القول. بالتالي، ترسل هذه الآية الإشارات العميقة والدلالات المركّزة على أهميّة شيوع ثقافة الصدق والبُعد عمّا يفصم عرى الثقة بين أبناء المجتمع، كالكذب وعدم الدقّة، ومنها أيضاً الإشاعات التي يتناقلها الناس، والتي غالباً ما تتضمّن أخباراً غير صحيحة وغير دقيقة، أو لها غايات تخدم العدوّ.

وحين نتفكّر في واقع المسلمين اليوم، نجد أنّ الذين يُذكّون نار الصراع فيما بينهم، هم في الأغلب أبعد الناس‏ عن القيم الإلهيّة الحقيقيّة، كالصدق والأمانة.

•تبيّنوا.. وأصلحوا
يشرّع الإسلام الكثير من القيم التي من خلالها تُحفظ لُحمةُ الأمّة وكيانها ووحدتها وسيادتها واستقلالها، والأهمّ من ذلك كله حالة التضامن التي لخّصها رسول العالمين صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه، تداعى سائره بالسهر والحمى"(6).

من هنا، يرشدنا الإسلام إلى أمرَين أساسيَّين:

1- التبيُّن: وهو مضمون آية النبأ الكريمة: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، فهي تحدّد الوظيفة التي تنسجم مع العقل العمليّ والواعي والمتّزن. والتبيّن المراد به هنا هو البحث عن الحقيقة، ومقدار صدق الدعوى، قبل أن يتّخذ الفرد أيّ حكم على خبر، وهو المنهج المعتمد في التعاطي مع جميع الأخبار التي لا يقين فيها، أو لم تأتِ من موقع يمكن الركون إلى صدقه. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وبين الحقّ والباطل أربع أصابع، بين أن تقول: رأت عيني وسمعت..."(7).

2- إصلاح ذات البَين: سواء على المستوى الفرديّ، أي في دائرة المرء الشخصيّة، أو على مستوى اختلاف الأُمّة، خصوصاً وأنّ كثيراً ما يحصل الاختلاف والتشرذم بين أحزاب وفرق الأمّة الواحدة، في حين أنّ القاعدة التي يجب العمل وفقها هي المأخوذة من قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10).

أمّا على صعيد الفئات المختلفة، فالتكليف هو الإصلاح أيضاً والسعي به، قبل أن تتّسع دوائر الحقد، وتنفصم العرى التي تربط أوصال الأمّة. يقول الله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: 9).

•خطر حقيقيّ
إنّ الفتنة خطر قائم يهدّد المجتمعـــات البشريّـــة عامــّةً، والإيمانيّة بشكلٍ خاصّ، ولا بدّ من التنبّه إلى مصادرها الأساس، ومنها ذنوب اللّسان، الذي هو المنطلق الأوّل لكلّ المثالب التي تؤدّي إلى هذه النتيجة السيّئة.

وما نهي الله تعالى عن الغيبة والبهتان والإفك والسخرية والتنمّر بأشدّ التعابير، ووصفها بأقبح الأوصاف والتمثيل، إلّا لينفّر الناس منها، ويبعدهم عن ارتكابها.

نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل، وأن يجعلنا ممّن يُتبِعُ القولَ بالعمل، والحمد لله ربّ العالمين.


1.ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 2779 .
2.(م. ن.)، ج 4، ص 2781 .
3.(م. ن.)، ج 3، ص 391.
4.راجع: مجمع البيان، ج 7، ص 227.
5.ميزان الحكمة، (م. س.)، ج 2، ص 1274.
6.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 109، ص 180.
7.بحار الأنوار، (م. س.)، ج 10، ص 90.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع