تحقيق: فاطمة الجوهري غندورة
أثناء عودته إلى منزله عند الساعة الرابعة والنصف عصراً استوقفته فتاة ادّعت أنها بحاجة ماسّة إلى مساعدة وأنها في عجلة من أمرها والدتها مريضة ويجب أن تكون إلى جانبها.
وبالطبع مروءة الشاب دفعته إلى تقديم يد العون لها فطلب منها أن ترافقه ليوصلها إلى منزلها. وبالفعل، صعدت الفتاة وبدأت ترشده إلى الطريق، ثم كانت المفاجأة عندما أشارت إليه بالتوقف، حيث حوصر بمجموعة من الشبان الذين أنزلوه من سيارته وانهالوا عليه شتماً وضرباً، وسلبوا منه كل ممتلكاته الشخصية، ثم رموْه عند قارعة طريق مهجور...
*لست ضد المساعدة ولكن..
تقول الحاجة أم أحمد (30 عاماً، مدبرة منزل) أنا لست ضدّ عمل الخير ولكن أنا ضد تقديمه في هذا الزمن حيث تغيّرت المفاهيم والقيم وانتشرت بدلاً عنها شريعة الغاب. فاليوم، الغاية تبرر الوسيلة. لذلك، أنا حريصة على تقديم الخير، عن معرفة، للشخص المناسب فقط.
الحاج أبو علي (50 عاماً، تاجر) يبرّر نظريته في عدم فعل الخير مع أي كان بسبب تجربته مع عامله الذي كان يعمل عنده، ثم قام بالمضاربة عليه بفتحه مؤسسة تجارية مقابل مؤسسته وبأسعار زهيدة بعد تعلّمه أسرار المصلحة منه. وكان فعله هذا مطابقاً للمثل القائل: "أعلمه الرماية كل يوم فلمّا اشتدّ ساعده رماني".
أما سامر (25 عاماً، خريج جامعي) فيحمل لواء عدم تقديم المساعدة للمارة أو للمسافرين المنتظرين على قارعة الطرقات مهما كانت حالتهم، سواء كانوا مرضى أم أصحّاء، بل وحتى موتى متذرعاً بما حدث له جراء وقوفه لأحد المسافرين المنتظرين عند إحدى الطرقات (حيث إن هذا المسافر كان يدّعي المرض وأومأ له بضرورة التوقف وبالطبع توقف سامر ليفاجأ بالمتمارض يشهر سلاحه في وجهه ويسرق منه سيارته).
* "إن خليت خربت"
ويعتبر سمير (20 عاماً، طالب جامعي) وحسب تجربته الغضّة في الحياة أنّ عمل المعروف يجب أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى وأن لا ننتظر ثناءً جميلاً من بشر لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 2).
ومثله تقول زهراء (25 عاماً، معلمة): "لا بد من التشجيع على عمل الخير وتكراره حتى ولو قوبل بالنكران ويذكرنا ذلك بقصة رسولنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع جاره اليهودي. كما أنه لا بد أن تكون نيتنا منذ البداية مرضاةَ الله وأن نقتنع بأن من نقدم له "البر" هو إنسان غير كامل يخطئ ويمكن أن يبادر خيرنا بالنكران".
وتتابع صديقتها سناء (18 عاماً، طالبة ثانوية) فتقول: "لو أنّ الله أراد مقابلة جحودنا وعدم شكرنا لنعمائه بالمنع لما كنا امتلكنا أي نعمة على الإطلاق لأننا قوم ننسى أن نشكر خالقنا".
بين عمل المعروف والتشجيع عليه من جهة ومقابلة المعروف بالنكران والجحود من جهة أخرى كان لنا حديث مع سماحة الشيخ محمد الحمود المرشد الديني في مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف - شاهد.
*البِرّ دعوة السماء
استهل سماحته الحديث مبيّناً أن "البِر بكسر الباء هو الإحسان والتوسع في فعل الخير". وقد تبنّت الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية الدعوة الخلاقة إلى الإحسان للناس وإسداء المعروف إليهم وإغاثة الملهوفين منهم لأنه يؤسّس للمحبة فيما بينهم.
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(المائدة: 2-3).
كما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: "نِعمَ عَمَلُ المَرءِ المَعروفُ"1.
*ثلة من المجاهدين
أما التطبيق الواقعي للبرّ ومصداقه فيذكره أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله: "ثلاث من أبواب البر: سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى"2.
وقال سماحته مفسراً:
أما بالنسبة لسخاء النفس فنحن والحمد لله قد شهدنا ثلّة من المجاهدين قدّمت نفسها دفاعاً عن أرضها ودينها. ولكن، للأسف الشديد، فإن هذه القيم قد ضعفت عند بعض الناس وبدأت تتلاشى في يومنا هذا حيث انقلبت المقاييس، وبتنا نستغرب وقوعها لأننا نعيش عصراً قد طغت فيه المادة على الرّوح والمنافع الشخصيّة...
*والله يحب المحسنين
ولدى سؤالنا عن رأيه فيما لو قوبل البرّ بنكران الجميل، بيّن سماحته أنه عندما يقدّم أحد خدمة ما فإنه بطبيعة الحال يقابَل بالشّكر حتى ولو كان من صميم عمله، لأن الأصل هو مقابلة البر بالشكر والتقدير كما أشار الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله: "أما حق ذي المعروف عليك فأنْ تشكره وتذكر معروفه، وتكسبه المقالة الحسنة، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عزّ وجل، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سراً وعلانية، ثمّ إنْ قدرت على مكافأته يوماً كافيته"3.
أما عندما يقابل المعروف بالنكران والجحود فحينئذ يكون المعروف للانحسار أقرب منه إلى الانتشار، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لعن الله قاطعي سبيل المعروف، وهو الرجل يصنع إليه المعروف فيكفره، فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره" 4.
ولكن بالرغم من هذه الأذيّة، ينبغي لفاعل المعروف الاستمرار به كما قال الإمام علي عليه السلام: "لا يزهدنّك في المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيء منه، وقد تدرك من شكر الشّاكر أكثر مما أضاع الكافر والله يحب المحسنين"5.
*كفران النعم
ثم أوضح سماحته التأثير الروحي لأعمال البر والمعروف على القائمين بها، قائلاً: "إن الخير ليس مجلباً للثواب الإلهي فحسب، بل إنّ هذا الثواب يمكن أن يمتدّ ويتّسع إلى ما لا نهاية. فالخير يبعث على تنوّر القلب وضياء النفس، والارتقاء بها إلى عالم الملكوت... ويفضي في النهاية إلى خير الدنيا والآخرة.
كما أنه يوجب حسن العاقبة، ودوام النعمة واطّرادها، وازدياد الثروة، وعلوّ الشأن... وهو بذلك زاد الرّاحل إلى القيامة، ومظانّ نيل الشفاعة، وحفظ الذريّة، وتخفيف الحساب، ودخول الجنّة...
بينما كفران النّعم، هو من سمات النّفوس اللئيمة الوضيعة، ودلائل الجهل بِقِيم النّعم وأقدارها، والتي سوف تؤثر في القلب وتزيد من قساوته وغفلته عن الحق".
وقد أشاد سماحته بعدد من أعمال المعروف المنتشرة في مجتمعنا ذات القيمة الكبيرة، كالجمعيات التي تعنى بالفقراء والمساكين والأيتام والأعمال التطوعيّة كالكشافة والتعبئة...
وذكّر بأعمال المعروف الغائبة عنا كالتي تعنى ببناء الدور للعجائز، والمسنّين، ومراكز للصحة النفسيّة والاستشارات التربويّة والتعليميّة والأسريّة، متمنياً على أبناء مجتمعنا تعزيز وجودها وانتشارها لأن ذلك يزيد من لحمة العباد المؤمنين بعضهم ببعض وأيضاً بينهم وبين خالقهم.
* كلمة طيبة
ختاماً، ينبغي التركيز على إصلاح ذات البين وبرّ الوالدين والإحسان إليهما وهو أفضل القربات، وأشرف السعادات... لا بل إن المعروف ليس محصوراً في الأمور المادية فقط، بل يتحقق في الأمور المعنوية كإخراج الناس من الظلمات إلى النور وهدايتهم، وإغاثة الملهوفين منهم، والكلمة الطيبة، والابتسامة، وإدخال السرور على النفوس الحزينة المثقلة بمصاعب الحياة ومتاعبها..
1- عيون الحِكم والمواعظ، علي بن محمد الواسطي، ص495.
2- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج12، ص125.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1492.
4- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج2، ص57.
5- نهج البلاغة، حكمة 204.