الشيخ محمد توفيق المقداد
ورد في سيرة صادق أهل البيت عليهم السلام أنّه أتاه يوماً ابن أبي العوجاء فجلس إليه في جماعة من نظرائه، ثمّ قال له: "يا أبا عبد الله إنّ المجالس أمانات، ولا بدّ لكلّ من به سعال أن يسعل فتأذن لي في الكلام؟". فقال الصادق عليه السلام: تكلّم بما شئت، قال ابن أبي العوجاء: "إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر؟ وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون هرولة البعير إذا نفر، من فكّر في هذا أو قدّر، علم أنّ هذا فعل أساسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أسّه ونظامه؟). أجابه الإمام الصادق عليه السلام: (إنّ من أضلّه الله وأعمى قلبه، استوخم الحقّ فلم يستعذبه وصار الشيطان وليّه، يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محلّ الأنبياء وقِبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه وطريق تؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال).
يكشف هذا الحوار عن الجهل الكبير لأسباب وجوب الحج الذي جعل الله محل الإتيان به تلك الأرض المباركة "مكّة المكرّمة"، والجهل هذا المتفشّي عند غي المسلمين الذين لا يلتفتون إلى المعاني الروحية والمعنوية التي يرمز إليها كلّ فعل من أفعال عبادة الحج، وتجعلهم بالتالي يتصوّرون أن رحلة الحج ليست إلاّ تعباً وعناءً وصرف مال ووقت وجهد من أجل الطواف حول حجر لا يضرّ ولا ينفع، أو من أجل غيره من الأفعال التي يجهلون أغراضها ومراميها، وهكذا نجد أنّ ذلك الزنديق كان يحاول التشويش على عبادة الحج من خلال استنكاره على ما يفعله المسلمون من طواف وسعي ورمي وغير ذلك.
لذا نجد أنّ الإمام الصادق عليه السلام في جوابه قد أسند استنكار ذلك الزنديق إلى الشيطان مباشرةً لأنّه المسيطر على عقل وقلوب المنحرفين والناطق بلسانهم وهو المؤدّي بهم إلى التشكيك والارتياب وعدم اليقين بأهمية تلك العبادة وما ترمز إليه.
وقد أوضح أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له حقيقة الحج وبأنّه عبادة وإعمار للأرض معاً (ثمّ وضعه "البيت" بأوعر بقاع الله حجراً، وأقلّ نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة ورمال دمغة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف، ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوى فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة).
ونظراً لأهمية هذه العبادة في حياة المسلم، ولأنّ وجوبها يسقط عن المسلم بإتيانها مرة واحدة على الأقل، فلا بدّ من أن يلتفت المؤمن إلى ضرورة الاهتمام بالحكم الشرعي في كلّ تفصيل من التفاصيل حتّى يأتي هذا الحجّ صحيحاً ومقبولاً عند الله عزّ وجل، ولذا لا بدّ من التنبيه إلى بعض النقاط المهمّة في هذا الجانب حتّى لا تضيع رحلة العمر هذه على المؤمن سدى وهي:
* الأولى: أنّ الحجّ واجب على المستطيع، والاستطاعة تعني أن يمتلك المسلم مالاً ويكون صحيح البدن وليس لديه مشاكل تمنعه من تحصيل الوثائق الضرورية للسفر وما شابه، والمال يشترط فيه أن يكفي الإنسان لنفقات الذهاب والإياب ونفقات من يعول بهم خلال رحلة الحج، ولذا لو افترضنا أنّ الإنسان أراد أن يستدين مالاً ليحجّ به ففي هذه الحالة لا يسقط عنه الحج الواجب لأنّ الاستطاعة بالدين لا تجعل الحجّ واجباً عليه، وكذلك من ملك مالاً يكفيه للحج لكنّه كان مطالباً بأداء ديون ولم يرضَ صاحب الدين بالتأخير، ففي مثل هذه الحالة يجب عليه وفاء الدين ويسقط عنه وجوب الحج أيضاً. إذاً فالاستطاعة المالية ينبغي أن تحصل من خلال اكتساب الإنسان للمال بواسطة عمله الذي يقوم به أو من خلال تبرّع الآخرين له بنفقات الحج الواجب، وهذا هو رأي السيد القائد المفدّى ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي أدام الله بقاءه.
* الثانية: "الإحرام":
فبالنسبة إلينا الذين نسكن شمال السعودية فإنّ إحرامنا ينبغي أن يكون من "مسجد الشجرة" قرب المدينة إذا سافرنا براً، ومن "مسجد الجحفة" إذا سافرنا جواً إلى "جدّة"، هذا في إحرام العمرة، أما الإحرام لأفعال الحج بعد الانتهاء من واجبات العمرة فيكون من نفس مكة المكرمة، وأفضل أماكن الإحرام هو نفس المسجد الحرام، ويمكن في الإحرام للعمرة أن ينذر الإحرام من قبل الميقات ففي هذه الحالة يسقط عنه وجوب الإحرام من الميقات لأنّه يكون قد أوجب الإحرام على نفسه وأحرم فعلاً لأنّه لا يجوز تجاوز الميقات بدون إحرام.
* الثالثة: "الطواف": والواجب منه في الحجّ ثلاثة:
1-طواف العمرة ويأتي به بعد الإحرام للعمرة المتمتع بها التابعة لحج التمتع لمن وجب عليه هذا الحج.
2-طواف الحج ويأتي به بعد إكمال أعمال يوم عيد الأضحى في "منى" وهي "رجم العقبة الكبرى والذبح والحلق أو التقصير كما هي فتوى الإمام الخامنئي "دام ظلّه".
3-طواف النساء وهو واجب مستقل، ويترتب على من لم يأتِ به حرمة النساء عليه، وتبقى محرمة عليه إلى أن يأتي بطواف النساء بنفسه أو يستنيب من يطوف عنه.
* الرابعة: الوقوف: والواجب منه وقوفان:
1-الوقوف في جبل عرفات من ظهر "زوال" اليوم التاسع إلى غروب ذلك اليوم، ويبطل حج من لم يقف هناك أصلاً عامداً متعمداً.
2-الوقوف في المزدلفة "المشعر الحرام" وهو من "طلوع الفجر" حتّى "طلوع الشمس" من أول أيام عيد الأضحى المبارك.
شروط الطواف: وبما أنّ الطواف هو من أهمّ أركان الحج وأفعاله لا بدّ من التذكير بشروطه وواجباته وفق رأي الإمام الخامنئي "دام ظلّه"، وأما الشروط فهي:
1-النية: أطوف طواف "عمرة التمتع" أو "حج التمتع" قربة إلى الله تعالى، أو "أطوف طواف النساء قربة إلى الله تعالى".
2- الطهارة من الخبث والحدث.
3-الختان للرجال فقط.
4-ستر العورة.
وأما واجبات الطواف فهي:
1-الابتداء من محاذاة الحجر الأسود في كلّ شوط من أشواط الطواف السبعة.
2-الانتهاء بمحاذاة الحجر أيضاً في كلّ شوط.
3-الطواف على جهة اليسار بمعنى أن تكون الكعبة على يسار الحاج في كلّ الأشواط.
4-إدخال حجر إسماعيل عليه السلام في طوافه.
5-لا يجب عند سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) الطواف بين الكعبة ومقام إبراهيم عليه السلام، فيجوز الطواف حول الكعبة من خلف المقام المذكور ولا مانع من ذلك خصوصاً مع الإزدحام الشديد.
هذه هي بصورة مختصرة كيفية القيام بواجبات الحج الأساسية المعتبرة كأركان، بحيث لو ترك واحداً منها بنحو عامداً بطل حجّه ووجبت الإعادة.
بقي هنا نقطتان لا بدّ من التنبيه الخاص عليهما وهما:
الأولى: الصلاة في الحج: وفي هذا المجال نجد أنّ السيد القائد الخامنئي (دام ظلّه) يفتي بالصلاة خلف أئمة المذاهب في مكة والمدينة بالخصوص، وذلك لما في هذا المظهر التوحيدي للمسلمين في الصلاة من القوة والعزّة والكرامة والفخر لجميع المسلمين، ولما فيه من إدخال الرهبة والخوف في قلوب الأعداء، ولذا لا مانع على الإطلاق من أن يقتدي كلّ المسلمين بأئمة الجماعة أثناء أداء فريضة الحج لينعكس ذلك التراص في الصفوف وراء إمام الجماعة هناك رصاً لصفوف المسلمين في كلّ بلدانهم وأوطانهم في مواجهة قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسها "الشيطان الأكبر" أمريكا، التي ينبغي على كلّ مسلم موحّد لله في الحج أن يعلن البراءة منها ومن أفعالها ومن التبعية لها والإستزلام عندها، وأن يرفضها من عقله وقلبه كما يرفض الشيطان منهما عندما يرجمه، وهل هناك من محل يتبرأ فيه الإنسان من كلّ من هو عدوٌ لربّه وإسلامه أفضل من الكعبة المشرّفة التي فضّلها الله وقدّسها؟ وهذه هي النقطة الثانية التي ينبغي على الجميع أن يهتمّوا بها استجابة للنداء الإلهي. (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله).
من هنا نلفت نظر كل من وفقه الله لإتيان فريضة الحج أن يتقن القيام بأفعال هذه العبادة وأن يستوضح عن كلّ المسائل الكفيلة بجعل حجه حجاً صحيحاً مقبولاً ليحصل على الجوائز الإلهية من الحفظ للنفس والأهل والولد ومن غفران الذنوب ومن دخول الجنّة مع الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً.