الشيخ عبّاس إبراهيم
عزيزي القارئ، اسمح لي أن أبدأ مقالتي بسؤال، وأرجو منك أن لا تتعجّل في الإجابة عنه: هل أنت قويّ؟
إن كنت قويّاً فهنيئاً لك؛ لأنّ اللّه يحبّك، وهذا ما أعلنه نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: "إنّ اللّه يحبّ الرجل القويّ"(1)، وإنّ "المؤمن القويّ خيرٌ وأفضل وأحبُّ إلى اللّه عزّ وجلّ من المؤمن الضعيف"(2).
لكن كيف نكون أقوياء؟
ترى هل تكمن قوّتُنا بنبرة صوتنا، أم بضخامة عضلاتنا، أم بمدى الرعب الذي نبثّه في قلوب الآخرين عند مشاهدتنا؟
هل هذه علامات القوّة التي يحبّها اللّه تعالى، ويريدنا أن نتّصف بها؟!
القوّة في الاستقامة
في الحقيقة، خيرُ من يجيب عن هذا السؤال هو رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بقومٍ يرفعون حجراً، فقال: "ما هذا؟"، قالوا: نعرفُ بذلك أشدَّنا وأقوانا؛ فهؤلاء الشباب قد اتّخذوا من القدرة على رفع الأثقال معياراً في تحديد الأقوى، فقالَ لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أُخبرُكم بأشدِّكم وأقواكم؟"، بحيث أُبيّن لكم معيار الإسلام في تحديد الأقوى بينكم، قالوا: بلى، يا رسولَ اللهِ! قال: "أشدُّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يُدخِلْه رضاهُ في إثمٍ ولا باطلٍ، وإذا سخطَ لم يُخرِجْه سخطُهُ من قولِ الحقّ، وإذا قدرَ لم يتعاطَ ما ليس له بحقّ"(3).
هذا هو القوّي في نظر الإسلام، وهذه هي معايير القوّة، وخلاصة تلك المعايير: القوةُ تكمن في الاستقامة.
فالمؤمن القويّ هو الذي لا يحيد عن الحقّ حال الغضب، ولا يزجّ بنفسه في الباطل والإثم حال الرضى، ولا يظلم الآخرين إذا ما امتلك زمام القدرة والسلطة، بل هو المستقيمُ على خطّ العدالة والفضائل، الصامدُ في وجه قطّاع الطرق إلى اللّه تعالى، الذي قرأ في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ (فاطر: 6)، فاتّخذه عدوّاً، وقاوم كيده وتضليله، وأصغى لقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أعدى عدوّك نفسُك التي بين جنبيك"(4)، فعاملها معاملة العدوّ، ولم يضعف أو يتزلزل في طريق الحقّ والإيمان.
من هنا يمكن القول: كلّما كان المؤمنُ ثابتاً في التزام أحكام الله، صامداً في وجه الشيطان والنفس والهوى، مستقيماً في فضائله وكمالاته، كان قويّاً، وفاز بحبِّ اللّه تعالى.
مظاهر القوّة المزيّفة
قد يحاول المرء أن يبرهن على قوّته من خلال ممارسات لا تمتّ بصلة إلى مفهوم القوّة بحسب الرؤية الإسلاميّة، ومن تلك الممارسات:
1- الظلم: حينما يظلم الإنسان ويعتدي على حقوق الآخرين، ويعيش نشوة البطولة ووهم الانتصار على آمال الذين يظلمهم، ويحطِّم كراماتهم، يظنّ نفسه قويّاً، وفي الحقيقة ظلمُه هذا يُعبِّر عن أشدّ درجات الضعف مقابل كيد الشيطان، والانسحاق أمام الهوى؛ وقد ورد: "إنَّما يَحْتاجُ إلَى الظُّلْمِ الضَّعِيفُ"(5)، فالظالم عاجزٌ عن مقاومة نفسه وشيطانه؛ والعاجز كذلك لا يكون قويّاً.
2- الغضب والصراخ: ثمّة من يُترجم قوّتَه بحِدّة صوته، وارتفاع صراخه، ويظهر بمظهر السباع المفترسة التي توشك أن تلتهم كلّ من يقابلها، ظنّاً منه أنّ ذلك دليلُ قوّةٍ وتفوّق، ولكن هيهات هيهات، فما يفعله هذا هو سلوك الجبان الضعيف؛ لأنّ القويّ يردّ بقوّة المنطق، ويدافع عن نفسه بالحكمة والدليل دون الحاجة إلى رفع الصوت وترهيب الطرف المقابل.
3- التهوّر: ثمّة من يسارع إلى افتعال المشاكل، ويتعجّل في الاعتداء بالضرب على من يخالفه، ويتباهى أنّه يسيطر بذراعه ورجاله على الحيّ أو المنطقة، وهو يرى ذلك عنوانَ قوّةٍ ودليلَ تألّقٍ وسيادة؛ لكنَّ الإسلام لا يرى ذلك قوّةً، بل يصنِّفه في دائرة الإثم والعدوان، ويُعدّ مرتكبه مذنباً تجب عليه التوبة وإصلاح ما أفسد.
4- المماراة: وهي الطعن في كلام الآخرين لإظهار خلل فيه بغرض تحقيره وإهانته، وهذا ممّا يتوهّمه الضعيف قوّةً في إبراز المنزلة العلميّة، وتفوّقاً في حفظ المصطلحات، والإحاطة بالآراء والأفكار؛ لكن هذا الفعل في ميزان الإسلام هو من الأفعال المذمومة، ولا يعبّر عن أيّ قوّة أبداً.
ثمّة من يعتبر أنّ جمع المال عن طريق الربا أو الحرام قوّةً، وحبس حقوق الناس، وعدم دفع أجرة العامل كاملة تفوّقاً و"شطارة"، ويوجد من يظنّ أنّ من القوّة الاستهزاء بالآخرين والسخرية منهم، أو التنابز بالألقاب وبثَّ الشائعات التي لا أساس لها، وحصد عدد كبير من الإعجابات والتفاعلِ على صفحات وسائل التواصل؛ بغض النظر عن صحّة المحتوى وصدقه؛ مع أنّ كلّ ذلك محرّمٌ ومبغوضٌ عند اللّه تعالى، مضافاً إلى كونه من تجلّيات الاستسلام للشيطان وجنوده؛ والمستسلمُ لعدوّه ضعيف بالتأكيد.
مظاهر القوّة الحقيقيّة
1- غلبة الهوى: ففي حكمة سليمان عليه السلام: "أشجع الناس من غلب هواه، وإنّ الغالب لهواه أشدّ من الذي يفتح المدينة وحده"(6)؛ فمن غلب نفسه، وهزم أنانيّته، وحرّر قلبه من جنود إبليس، وطهّر قواه وجوارحه من رجس الانصياع للمعصية والهوى، فذلك هو القويّ حقّاً؛ فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَن قويَ على نفسه، تناهى في القوّة"(7)؛ ومعنى ذلك أنّ من غلب نفسه لا حدود لقوّته.
2- العدل: هو من مظاهر القوّة، لأنّ العادل متحرّر من هوى نفسه، ومن حبائل إبليس الذي يوسوس له بالتعدّي والظلم.
3- الصمت حيث لا ينبغي الكلام: الصمت لا محالة يحتاج إلى مجاهدة للنفس؛ فالصمت عن الغيبة، واللغو، وترك الخوض بالنميمة والبهتان؛ دليلُ قوّةٍ وإرادة، وقد ورد أنّ الصمت "مطردةٌ للشيطان"(8)، ومن ينجح في طرد عدوّه يكن قويّاً.
4- الاعتذار: وهو من أبرز علامات القوّة؛ لأنّ المعتذر شخصٌ غلب أنانيّته، وهزم كبره، وتحلّى بقوّة العقل والمعرفة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "المَعذِرَةُ بُرهانُ العَقلِ"(9)، والعقل قوّة وكمال.
5- مقابلة السيّئة بالحسنة: من نماذج تجسيد هذه القوّة هو موقف إمامنا الحسن المجتبى عليه السلام مقابل إساءة الشاميّ له. والذي يتعالى عن الإساءة ويقابلها بالحسنة لهو قويّ وشجاع، وقد حثّ الإسلام على هذا الخُلُق وعدّه فضيلة أخلاقيّة، حيث يقول: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(المؤمنون: 96)، وهذا السلوك لا يقدر عليه إلّا من كان قويّاً في دينه وإيمانه.
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لا شكّ في أنّ من يفعلهما قويّ وبطل؛ لأنّه يقف في وجه الفساد والانحراف، وقد يتعّرض للإهانة والتجريح، بل قد يناله أذى، ومع ذلك لا يستسلم للظروف المنحرفة، ويصرّ على أداء وظيفته؛ فهو لا محالة قويّ وشجاع، وقد جسّد الإمام الحسين عليه السلام هذه القوّة بأجمل صورها في كربلاء.
7- الجهاد: وهو من أبرز تجلّيات القوّة؛ فالمجاهد في سبيل اللّه يمتلك قلباً قويّاً، وروحاً متألّقة، وبصيرة نافذة؛ وذلك كلّه يحكي قوّته ودرجة فضيلته بين الناس.
8- الحلم: وقد وردَ عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أقوى الناسِ من قوي على غضبهِ بحلمهِ"(10). فمن مظاهر القوّة أن يقود العقلُ عضلاتِ الإنسان، لا أن تكون العضلات هي المسيطرة على العقل والمستحوذة عليه.
9- الفضائل النفسيّة: ومن مظاهر القوّة الحقيقيّة أيضاً، الصدق في القول والفعل، والرحمة مع الضعفاء والمخلوقات، والتواضع لخلق اللّه تعالى.
أقوى الأقوياء
ممّا تقدّم، نعرف أنّه قد يكون الشخص نحيلَ البدن، لا يمتلك من فنون القتال ما يجعله متفوّقاً على غيره، وقد يكون مريضاً بحيث يحتاج إلى مساعدة غيره في بعض شؤونه، لكن لا يعني ذلك أنّه ضعيف، بل قد يكون هذا الشخص من أقوى الأقوياء في حسابات المولى تعالى، وقوّته لها قيمة وكرامة عند اللّه عزّ وجلّ؛ لأنّها ناشئة من إيمانه وكمالاته الحقيقيّة، بخلاف القوّة الموهومة المزيّفة المنبعثة من كمالات ظاهريّة لا تُقدِّم عند اللّه ولا تؤخّر.
1-بحار الأنوار، المجلسيّ، ج61، ص184.
2-مسند أحمد، ج2، ص377.
3-وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج15، ص361.
4-بحار الأنوار، (م.س)، ج67، ص36.
5-(م.ن)، ج5، ص53.
6-ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، الزمخشريّ، ج7، ص408.
7-عيون الحكم والمواعظ، الواسطيّ، ص444.
8-يراجع: الوافي، الكاشاني، ج26، ص202.
9-عيون الحكم والمواعظ، (م.س)، ص35.
10- (م.ن)، ص116.