د. محمد أيوب شحيمي*
بمزيد من المرارة والأسى بدأنا نفتقد هذا الجليس. ألا ترى أنَّ الكتاب يعيش اليوم في غربة عن محبّيه ومريديه ويشكو مرارة الهجران الّذي يلاقيه؟ فلمَ هُجر الكتاب؟ ولماذا استُبعدت المطالعة؟! حتى أنّ الّذين ما زالوا يقتنون الكتب باتوا يزيّنون بها مكتباتهم فقط للظهور بمظهر المثقّفين. فأيةُ حالةٍ متردية هي تلك الحال التي وصلنا إليها؟ وما سرُّ هذا التراجع المروّع لحركة المطالعة؟!
لدى زيارتي لأحد الأصدقاء ممّن حباهم الله نعمة اقتناء الكتب ويملك مكتبة فيها العديد من الموسوعات وآلاف الكتب والمراجع سألته: "بعد العمر الطويل يا صاح مَنْ مِنْ أبنائك سيرث ويهتمّ بهذه المكتبة من بعدك"؟ فأجابني بحسرة وهو ربّ عائلة كبيرة: "ليس هناك من سينفض عنها الغبار!".
* الجليس الأنيس.. رفيق الأسفار
جيلنا المخضرم لا يزال يحتفظ بذكريات جميلة وشيّقة ولذيذة لمحتويات الكتب التي قرأناها، وبعضه لا نزال نحفظه ونردّده على مسامع أبنائنا وجلسائنا... نحن نتذكر شكل الكتاب، نستحضره ونحبه أكثر من رائحة أغلى العطورات في العالم. كيف لا، والكتاب ذلك الجليس الأنيس نشأت بيننا وبينه مودّة وربطتنا به علاقات حميمة، وحالة عشق وشوق، رافقنا في رحلاتنا وفي أسفارنا.. وهل يصدّق أحد أنّني رفضت استبدال نسخة قديمة من كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع بنسخة جديدة؟! ليس فقط لاهتمامي بالتراث أو "الأنتيكا"، بل للأسباب التي ذكرتها.
* لم تقولون ما لا تفعلون؟
نحن العرب، متّهمون بأنّنا لا نقرأ وإذا قرأنا لا نستثمر محتوى ما قرأناه، ولا نحوّله إلى فعل، ويبقى الأثر في مجال التنظير، وهذه مشكلة أشار إليها القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2 3). ثم إنّ الدّراسات الإحصائية - وللأسف - تشير إلى أن نسبة الأمية في العالم العربي هي الأعلى، ولم تفلح المحاولات الخجولة في بعض الدول العربية في خفض هذه النّسبة، حتى أنّ بعض النقّاد الظّرفاء أشار بسخرية ملؤها المرارة بقوله (وأوردها بتصرف): ولمَ القراءة؟ أَوَ لَم نرَ ما حلَّ بالجاحظ الذي احدودب ظهره وجحظت عيناه لكثرة ما قرأ! وقيل إنه حسب بعض الروايات قضى نتيجة سقوط الكتب عليه وهو يبيت في أحد دكاكين الورّاقين "المكتبة"، فلا كانت القراءة ولا المطالعة! أفتريدون أن يمشي العرب في الشارع وعيونهم جاحظة، وظهورهم محدودبة؟!
* أسباب الابتعاد عن المطالعة
بالعودة إلى عزوف أبنائنا عن المطالعة نشير إلى ثلاثة أسباب رئيسة:
أولاً: غزو التكنولوجيا الحديثة لأوقات أبنائنا، وفي مقدمتها الإنترنت، وسهولة أخذ المعلومة المطلوبة بسرعة (كالوجبات السريعة) والكتاب الإلكتروني حيث تجمع مكتبة كبيرة في أسطوانات صغيرة "ديسك" ناهيك عن وسائل اللهو الإلكترونية وما أكثرها.
ثانياً: الرفاهية الزائدة لبعض الطبقات الموسرة التي تكتفي بالثقافة القُشرية دون اللباب، ومن أجل ذلك نرى الفقراء أكثر اهتماماً بالمطالعة من الأغنياء.
ثالثاً: القدوة، فبحسب المبدأ التربوي إن الأبناء يقلدون والديهم في معظم سلوكياتهم على طريقة "شيمة الآباء يرثها الأبناء" فالأهل العازفون عن المطالعة لن يُقبل أبناؤهم عليها.
* "وجبات سريعة" من المعلومات
في ظل هذه الأسباب المشار إليها يبقى الكتاب الورقي في غرفة العناية موجوعاً متألماً بحيث لم تفلح لتأريخه عمليات الإنعاش المتمثلة بمعارض الكتب إلّا بشكل محدود، ويبقى تأثيرها كتأثير حبة المخدر المحدودة الفاعلية والتأثير.. وما يزال العزوف قائماً، إذ يتسمرّ أبناؤنا أمام الكومبيوتر الذي يمتص وقتهم ونور عيونهم بذبذباته الكهربائية، يأخذون منه ما يلزم وما لا يلزم، ما هو مفيد وما هو سيئ وليس هناك من ضوابط ولا مراقبة، وقد عجزت معظم الدول عن كبح جموح هذه الأجهزة ومبرمجيها. هذه الشاشة التي تتلاعب على سطحها مواضيع عديدة ومتنوّعة نرى أنّ السيّئ والخطير فيها أكثر من الجيّد والمفيد. ثم إنّ صانعي ومبرمجي هذه "الوجبات السريعة" من المعلومات يأتون بها في قوالب مجهّزة سلفاً وليست بريئة أبداً، لزرعها في أذهان أبنائنا تحت عناوين ومسمّيات عديدة. وهي جميعها مُمنهجة وفق رغبات واصفيها.
* كيف نشجّع أبناءنا على المطالعة؟
من أجل ذلك كله، لا بد من توجيه عناية المؤسّـستين الرئيستين المعنيتين بالعمليّة التربويّة وأعني بهما الأسرة المتمثّلة بالوالدين، وما يليهما من الإخوة الكبار والأجداد والأقارب، والمدرسة المتمثّلة بالإدارة والمدرّسين إلى وجوب اعتماد الوسائل التالية لتشجيع الأبناء على المطالعة:
أ- اقتناء الكتب المتنوعة التي تتلاءم مع مستوى الولد حتى لا يتذرّع بحجة عدم وجود الكتب. على أن تكون هذه الكتب منتقاة من قبل اختصاصيّين في التّربية وعلم النفس.
ب- القيام بعملية تشويق لأهميّة وفوائد المطالعة، وتأثيرها الإيجابي على الشخصيّة الاجتماعيّة واعتبارها من منظومة القيم التي يفاخر بها الإنسان.
ج- أنْ يقوم الأهل أنفسهم بمطالعة الكتب والحديث عن محتوياتها على مسامع الأبناء.
د- الطلب من الأولاد إعداد الملخّصات شفويّة كانت أم كتابيّة.
هـ -منح المكافآت المادية والمعنوية لمن يقرأ ويلخّص ما قرأه.
و- توفير المكان الهادئ والملائم للمطالعة في بادئ الأمر وعندما تتأصل هذه العادة وتتجذّر سيتمكن هؤلاء الأولاد فيما بعد من المطالعة في أيّ مكان حتى في أماكن الازدحام.
ز- ولإبعاد الملل وبعيداً عن القمع أو الإكراه على المطالعة، يمكن تقسيم وقت المطالعة إلى فترات متقاربة وبذلك يتحوّل الأمر تدريجياً إلى عادة وإلى مبادرة شخصيّة من الولد نفسه.
ح- الإشراف الفعلي والعملي على المطالعة من قبل الأهل والمدرّسين والردّ على بعض الاستفسارات وإعطاء بعض الشروحات.
ط- الحديث من قبل الوالدين والمدرّسين عن الأُدباء والشّعراء والبُلغاء وحفظة الأحاديث، وعن المتحدّثين بطلاقة في المناسبات الاجتماعية والدينية وبطريقة مشوِّقة... بهذه الطّريقة نزرع في نفوس أبنائنا المثل العليا فيسعى هؤلاء الأبناء لتقليدها والاقتداء بها والتماهي معها بعد ذلك.
في الختام، أودّ أن أطمئن المقبلين على المطالعة (من الصغار والكبار) الّذين يشكون من الشّرود أثناء المطالعة، أو نسيان ما كانوا قد قرؤوه أو عدم الرّضى عمّا كتبوه بالأمس، وبالاستناد إلى رأي علم النّفس بأن لا شيء يذهب سدى، فكلّ ما نقرأه وما نكتبه، وما نجده غير ذي قيمة مما كتبناه لن يضيع (وإن خُيّل لنا ذلك) فظلاله تظلّ قابعة في العقل اللاواعي وهو سيحضر بطريقة لا شعورية وسينساب في لحظة من اللحظات متدفّقاً على ألسنتهم وأقلامهم ينبوعاً رقراقاً فيه لذة للشّاربين (للقارئين، والسامعين) ومن هنا تأتي مقولة أحد كبار الكتاب: "إقرأ وانسَ، أكتبْ ومزِّق وستُصبح فيما بعد أديباً". وفي الختام، نسأل الله أن يجعلنا من ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 18).
(*) باحث في المجالات النفسية والتربوية